الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

إعتبارات عامه حول الجامعة، المزمع إحداثها بتونس

Share

سیداتی ، سادتی قد عنيت بمشاكل التعليم العالى منذ اضطلاعى بأعباء وزارة المعارف التونسية خلال السنوات 1956 و 1957 و 1958 حيث أتيح لى أن أشرف على تسيير معاهد جامعية موجودة بعد كمعهد الدراسات العليا أو محدثة في بحر تلك المدة کمدرسة المعلمين العالية والمدرسة  العليا للحقوق ومركز البحوث الاقتصادية وكلية الشريعة الاسلامية .

وانه ليسعدني بمناسبة انعقاد هذه الندوة الجامعية بتونس أن أقابل آرائی الشخصية حول موضوع الندوة ألا وهو : « والمجتمع » بوجهات النظر التي يقدمها الجامعون النابهون والمشاركون في هذه الندوة و المنتمون الى جامعات مختلفة يوجد بعضها بالشمال الافريقى والبعض الآخر بالشرق الاوسط وافريقيا الوسطى وآسيا وأوروبا

الجامعات أمام مشاكل العصر .

ان العلاقات بين الجامعة والمجتمع فى مختلف الاصقاع والبلدان تختلف باختلاف الاصقاع والعصور . فمن فترات تستمر فيها بينهما الصلات المثمرة الى عهود تحجر وجمود لا يقع أثناءها التجاوب المنشود الا قليلا ومن قدرة على التطور الى أحد الطرفين أو نديهما معا الى تفاوت فى المفاهيم لا سبيل الى تداركه ومن قابلية متبادلة الى انكماش و انزواء تلك هي مشكلة عصور التحول والانقلاب وهي مشكلة هذا العصر خاصة اذ لم يعرف التاريخ الى حلول القرن التاسع عشر انقلابا صناعيا واجتماعيا وفكريا كانذى عم المعمورة بهذه السرعة المدهشة . ذلك أن عالمنا هذا تغير تغيرا كليا في اقل من قرن واحد تبعا لتقدم العلوم الصحيحة والفنون الآلية التى نهضت بها الحضارة العالمية الغربية .

وما من شك فى ان الحضارة الحديثة باعتبار مقوماتها الاساسية تهدف الى تحقيق الغايات الاقتصادية قبل غيرها وما من شك فى ان مسائل الانتاج والانتاجية بعد ان احتلت المكانة الاولى فى سلم القيم التقليدية اصبحت عنوان الرقى والحضارة ووسيلة العمل المنشود وكان أن طويت الابعاد و تداخلت الامم والشعوب وشاهد الحاضر والبادى ما أحرزت عليه البلاد

الراقية من وفرة الرخاء وبسط النفود وامتداد الجاه فجرف السيل البشرية جمعاء واصبحت المشاكل الاقتصادية مشكلة الساعة في العالم بأسره

وفى الحق فليس فى هذه الظاهرة الشاملة الجبارة على العموم ما يدعو الى التشاؤم اذا قيس ما قدمته الحضارة الحديثة للبشرية من خدمات جليلة بما انطوت عليه فى الوقت نفسه من شوائب ومعايب لا بد من ذكرها وتعهدها بالمراقبة والاصلاح . واعجب ما فى الامر ان السم فى الدسم وان سر النجاح هو مصدر التعثر . فمن هذه التكاليف الفادحة استفحال الآلات في مختلف ميادين العمل واستعبادها للبشرية ومن ذلك العمل اليومى المرهق المضنى ومن ذلك رضوخ العقول لهيمنة وسائل الدعاية الجماعية الرخيصة مع تضايق المتسع الحيوى بالبشرية الكادحة وانخرام نظام الاسرة في طلب الكسب

ينجر عن ذلك تقويض الجوانب مهمة من المقومات الانسانية يعبد الطريق امام العاهات الخلقية والاجتماعية وهذه التكاليف الفادحة تزداد تشعبا في البلاد المتخلفة حيث لا يماشي تطور العادات والاخلاق التطور السريع الحاصل في وسائل العمل والانتاج الحديثة وحيث يربى ويثقف الشباب غالبا خارج نطاق  التراث الثقافى الموروث

وعلى كل فان نواحى العظمة ونواحى الضعف فى حضارة هذا العصر تعين على ضبط أهداف الجامعة في المجتمع الذى تسعى فيه وتعمل لفائدته . وهذه الاهداف اذا لم يكن من الهين التوفيق بينها فى الوقت الحاضر فانها ستكون لا محالة أشد أشكالا واستغلاقا مع انتشار الثورة الصناعية الثانية المنتظرة التى يلوح اليها في ميادين الانتاج الصناعى ظهور الاتوماتيكية الكاملة و تسخير الطاقة الذرية

سياسة التعليم بتونس

تهدف مساعى حكومة الجمهورية فى حقل التربية والتعليم في تونس بعد الاستقلال الى ديموقراطية التعليم وفاعليته وهما ظاهرتان اساسيتان يتمثلان في بضعة أمثلة منها تأميم نحو ألف قسم تابعة للتعليم الابتدائى الحر قصد سحب مجانية التعليم الابتدائى على كامل تراب الجمهورية ومنها حذف المنح المدرسية التى كان يطالب بها من قبل تلامذة الليسيات الثانوية ومنها تضخم المنح والقروض الشرفية المعدة لطلاب التعليم العالى وفي نفس الوقت كانت المشاريع الاجتماعية المدرسية تساير هذه المجهودات باحداث قرى الاطفال والمطاعم المدرسية ومنح الادوات المدرسية والكتب والكسوة للتلاميذ الى آخره . وكل هذه التدابير انما تهدف الى تحقيق تكافؤ الفرص بمديد المساعدة الفعالة لابناء الطبقات الاجتماعية المقلة وهذه السياسة التي كان يغذيها بشخصيته الكريمة فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة رئيس

لجمهورية التونسية كانت من ناحية اخرى تبذل مجهودات مقابلة وموفقة فى الوقت نفسه فى سبيل نشر التعليم الابتدائى والثانوى

ومن الناحية البيداغوجية فان مطابقة البرامج للحقائق الوطنية ولواقع البلاد وتخفيفها بتشذيب المسائل العتيقة مع تجديد طرائق الدراسة والابقاء على لغة أجنبية ثانية فى التعليم تهدف آخر الامر الى أن تجعل من التعليــم التونسى أداة حاسمة في سبيل التقدم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي

وظائف الجامعة التونسية ومستقبلها

الغاية من الجامعة التونسية المزمع احداثها تتويج هذا البناء المدرسي والتربوى الذى قدمت الامة والدولة في سبيله وبصورة مستمرة تضحيات جسيمة ومن اليسير أن نتصور بموجب انتشار التعليم المستمر ازدحام حاملى الباكالوريا على أبواب الجامعة بعد بضعة سنوات وان التعليم العالي مهما كان نوعه لتكون مجديا يجب أن يندرج في الواقع القومى وأن يسد حاجيات المجتمع ومن هنا يجب أن يهدف الى استعمال كامل طلبته فى الحقل القومى وعلى هذا الاساس فلا بد للتعليم العالي من أن يحدث الاطار الضرورى لهذا التقدير الشاق وأن يجد في هذا الباب للفحص الحثيث المستمر الذى لا ينى وهذا المجهود في نظرى ينبغي أن يتجه الى ناحيتين اثنتين تتمم احداهما الاخرى عليه أولا أن يحدث المجلس أو المجالس الاستشارية الكفيلة بتحديد سياسة جامعية تنظر الى الحاجيات العاجلة والاجلة وهذا المجلس أو هذه المجالس تضم لا محالة ممثل كتابات الدولة أو المصالح الرسمية كما تضم ممثلى الميادين الاقتصادية والاجتماعية البارزة فى البلاد والى جانب هذا المجلس المطالب بالنظر والتفكير وبعد تحديد الاهداف التى يجب تحقيقها مع تعميم سلم الحاجيات يبقى على الجامعة أن تقوم بتوجيه الطلاب عند دخولهم الجامعة وأثناء دراستهم العالية ( 1 ) ذلك أن تجنب الخيبات والخسارة أثناء الدراسة يرجع الى حسن التوجيه أولا والى وفرة الاساتذة وأماكن الدرس والتجهيز ثانيا ومن ثم أهمية التوازن ما بين ميزانية الجامعة وحاجياتها أما استعمال حاملى الشهادات الجامعية فأمر يرجع الى مواطن العمل وهو ما يمكن ضبطه وحصره وليس من الانصاف أن يحمل هذا التقدير على الجامعة وحدها فخطر ما يسمى ببطالة المفكرين الذي يكون على حساب مجازى الجامعات يجب أن يتجنب مهما كلف ذلك خاصة في البلدان الناقصة النمو حيث تكون الخسارة باهضة الثمن جدا قد يقال ان هذه سياسية تقدير وتقتير تلتزم مبادىء المفكر ملتوس المتشائم بيد انها كذلك في ظاهر الامر لا في حقيقته حيث المسألة مسالة تكييف وتصنيف لا مسألة تحديد في الكم أو تنقيص في المجموع ودليلنا

على ذلك طلب الاختصاصيين بصورة بالغة فى كل نظام اقتصادی عصری نذكر على سبيل التمثيل انه يجب نحو خمس في المائة من المهندسين وخمسة عشر في المائة من الفنيين بالنسبة لليد العاملة المستخدمة في الصناعات الحديثة ولو فرضنا أن تونس تشغل مائة ألف عامل فى الميدان الصناعي فقد يقتضى ذلك أن تكون تونس حوالى أربعة عشر ألفا بين مهندسين وفنيين وهو عدد قريب من جملة تلامذة التعليم الثانوى والفنى فى الوقت الحاضر فالمسألة حينئذ مسالة توجيه تعقبها مرحلة الانتخاب الخاصة بضبط مختلف المستويات

وهذا التوجية يستدعى كما قلنا مراقبة مستمرة لحاجيات البلاد العاجلة والآجلة وقد يكون أجزل فائدة لو أنه يباشر مبكرا أى من مرحلة التعليم الثانوى العام او الفنى لان مثل هذه الغربلة المبكرة تقدم للتعليم العالى طلبة قد اتجهوا بعد الى ميادين مختلفة مما ييسر وظيفة الجامعة كما ييسر على  الطلبة النجاح المطلوب وعند ذلك فان الاطارات العالية يمكن ارشادها منذ دخولها الجامعة الى سلوك أبواب التخصص وهم في مرحلة التكوين العام أو ما  يشبهة وأن مكتبا للتوجيه العام الجامعي يمكنة القيام بهذا العمل بعد الوقوف على رغائب الاسرة وميول الطالب فى اختيار مهنة ما على أساس الارشادات التى يقدمها التعليم الثانوى أو التعليم الاعدادى العالى ان كان هناك ما يدعو الى احداث مثل هذه المرحلة الانتقالية بين التعليمين الثانوى والعالى والى جانب ذلك فان الامتحانات الشفوية ووسائل الفحص النفسانية الفنية مع الفحص الطبى قد تعين على استكمال المعلومات السابقة بعد هذا يمكن احداث منح وقروض شرفية موقتة وعلى أسس استثنائية لتشجيع الطلبة على الاقبال نحو المهن المزهود فيها اذا ما دعت الحاجة الى ذلك بعد استنفاد وسائل التنبيه والاغراء الافلاطونية

اذا ما تحقق هذان الشرطان الاساسيان : معرفة حاجيات البلاد وتوزيع الطلبة على أساس هذه الحاجيات أصبحت مهمة الجامعة التونسية أولا وبالذات تكوين الاطارات العليا للبلاد وفى هذا المضمار يكون من الصالح أن تختص الجامعة بمهمة التكوين الصناعى والمهنى العالى في شتى الميادين ذلك انه يوجد بعض الاختلاف بين الجامعات في سياسة التكوين المهنى يختص بذلك فى البلدان الانكليزية اللغة الجامعات فى معظم الاحوال فمدارس المهندسين ومدارس الفلاحة ومدارس الغابات تجاور في هذه البلدان كليات العلوم النظرية الصحيحة والعلوم الاجتماعية وكليات الآداب أو الطب الى جانب مدارس المناجم ومصائد السمك وما على وتيرتها

وفى بلدان أخرى الى جانب الجامعة يوجد معاهد مستقلة مهمتها الاساسية التكوين الصناعى أو المهنى وهذا الاتجاه قبيل تأسيس الجامعة التونسية يوجد ما يدل عليه أو بل ما قد يجر اليه اذا لم يجمع شتاة المعاهد التكوينية المستقلة التي منها المدرسة الوطنية للفلاحة التابعة لكتابة الدولة للفلاحة والمدرسة الوطنية الادارية التابعة لمصالح رئاسة الجمهورية وبديهى أن هذا التشتت

في تكوين اطارات الامة الواحدة قد يعوق عن وحدة النظر ويكلف مصاريف اضافية غير ضرورية فقد يجر الى تعدد البناءات والتجهيز واستعمال الاساتذة والموظفين الاداريين أصبحت الدول الغنية الثرية تتجنبه قدر المستطاع وتقاوم في سبيل اتحاد النظر والاقتصاد فى الوسائل عادات وان قدمت فهى مردودة وغير ذات موضوع

يجب أن يقال فى هذا الباب أن هذا الازدواج الذى أصبح في بعض البلدان ضربا من المانوية انما نشأ فى ظروف معروفة لم تكن فيها الاعتبارات البيداغوجية هي المقصودة بالذات وقد وجهت لهذا الازدواج انتقادات صائبة وهو لا محانه آيل الى الزوال فى البلدان التى أخذت تشعر شعورا قويا بحاجيات العصر المتنوعة الملحة التي من بينها ومن أوكدها في نظري توثيق العرى بصورة مستمرة بين ما يسمى بالثقافة العامة وما يسمى بالتكوين المهنى أو ان شئت قلت بين العلوم النظرية والعلوم التطبيقية

ومما يجدر التنبيه اليه أن التكوين المهنى لا يقف عند نيل شهادة ختم الدراسة بل يجب أن يشمل الاطارات العالية المضطلعة بأعباء العمل فى شتى الميادين اذا ما شاءت أن تعود الى مقاعد الجامعة نطلع على ما جد من اكتشافات وما حدث من طرائف مبتكرة تهم ميادين اختصاصية يتحتم ذلك على الجامعة لان تقدم العلوم وتقدم الاساليب الآلية جعل العودة الى الدراسة المنتظمة من حين لاخر امرا ضروريا لمن أراد أن يماشى عصره وأن يسعى مع الساعين وهذه الوظيفة الجامعية التى تعرف بوظيفة التكوين المستمر يمكن أن تنظم كما يقع به العمل فى كثير من البلدان فى صورة دروس مسائية طويلة المدى أو فى فترات دراسية قصيرة تشمل بضعة أسابيع والجامعة تكون حينئذ قد قدمت خدمات جليلة للبلاد مع أنها تجمع بين الجامعيين وبين الرجال الذين يمارسون الواقع الحي وهو اتصال منبه لهؤلاء ولاولئك مصدر من مصادر التجدد الصحيح

اذا كانت وظيفة الجامعة الاولى هى تكوين الاطارات فان وظيفتها الثانية هي البحث العلمي للنهوض بالعلم وجلى أن الوظيفتين مترابتطان وأن مستوى كل منهما ينفعل في الاخرى بدافع المماراة وحب الاكتمال ورغبة البحث والتنقيب ولكن البحوث الجامعية يمكن أن تنقسم فى ظاهر الامور على الاقل الى قسمين البحوث بالنظرية والبحوث التطبيقية وهما فى الحقيقة وان اختلفت أساليبهما فقد يتمم الواحد منهما الاخر وليس معنى ذلك أن الباحث يجب أن يفرض عليه موضوع بحثه فرضا ولكنى أعتقد أن طرائق تكوين الباحثين قد تقرب المسافة بين العلوم التطبيقية والعلوم النظرية أو على الاقل أحسن اختيارها قد تشجع هذه الامكانيات مجتمعة فى الباحث الواحد وترفع عنه الموانع النفسانية وتقرب المسافة بين التفكير المطلق والتفكير الصالح للعمل وان لكل بلاد حاجيات بعينها أوكد من حاجيات البلاد الاخرى وقد لا يخلو من

فائدة أن يلتفت الباحثون الى التفكير فى حل مشاكل بلادهم وعلى هذا فقد يكون من الصالح أن توجد صلات فعلية ان لم تكن تأسيسية بين معاهد البحوث الجامعية وبين معاهد البحوث الحكومية أو المشاريع الخاصة ولعل من صالح الجامعة ومن صالح هذه المؤسسات الاخرى أن يقع هذا الاحتكاك وهذا التبادل وهذا التلاقح الذى بدا ينتشر شيئا فشيئا فى مختلف البلدان المتقدمة

من الناحية النظامية داخل الجامعة فان معاهد البحوث يجب أن تسند الى الاستاذ الرئيسى فى كل فن من فنون البحث ويتألف مجلس عام للبحوث يقوم بمهمة التنسيق بين جهود الجامعة في ميدان البحوث

بقيت مسألة البرامج وأساليب التعليم الجامعى . لم تكن هذه المسألة لتتشعب لولا تطور العلوم في العقود الاخيرة بالخصوص تطورا جعل الاغراق فى التخصص أمرا ضروريا بالنسبة للتكوين المهنى والبحوث الجامعية على حد السواء ونتج عن ذلك ما يشبه التشتت والانحلال والتفتت فى أمهات العلوم كانت نتيجته شدة انحصار رقعة المعارف وانفصال وشائج القربى بين المعارف الواحدة وتشعب الفروع بالنسبة للاصول وأظهرت التجربة خطر هذا التفكك وأصبح الجامعيون يتساءلون عن مثال التكوين الجامعي بعد ان اتجه به هذا الاتجاه الصارم التقدم العلمي والفني من ناحية مع احراج تطور وسائل العمل والانتاج من ناحية أخرى وبعد الاندفاع وراء التوغل في المعلومات الخصوصية أصبح التكوين الفكرى والثقافة العقلية مرغوبا فيهما الى حد بعيد بالنسبة للتكوين المهنى أو البحوث الجامعية وليس من اليسير حل هذه المشكلة لما يتجاذبها من مقتضيات لهذا العصر صارمة ومتناقضة فى الوقت نفسه وعلى كل فاذا كان مبدأ التكوين العام قبل التخصص أمرا مسلما على العموم فان الصعوبة تظهر عند تحديد نسبة التكوين العام من التخصص ومدة كل منهما وهل يمكن حل هذه المشكلة باعتبار درجات مختلفة في مراحل التكوين العام مثلا بين ما يسمى بالاطارات العالية المختصة بالتدبير وبين الاطارات العالية المختصة بالتنفيذ ( كالفرق بين المهندس والفني مثلا ) أم هل يجب التوسع فى الابواب المشتركة فى مرحلة التكوين العام على أن تكون قليلة وأن تشمل أكبر عدد ممكن من فنون الاختصاص

ومهما يكن من أمر وان كانت طرق التدريس والتعليم رهينة الاهداف المقصودة فان مشاركة الطلبة الفعلية أمر ضروري لتكوين عقلی حقیقی فضلا عن كونها تساعد على سهولة الاستفادة من مادة التعليم وعلى ذلك فان الدروس التطبيقية وأندية المناقشة وندوات البحوث يجب أن تكون محلا واضحا فسيحا في برامج التعليم الجامعى على أن تنظم لعدد قليل من الطلبة توفيرا للصلات الوثيقة بين الاساتذة والطلاب وليس معنى ذلك أن الدرس الجامع يلقيه الاستاذ من أعلى المنصة رغم ما وجه من انتقاد يجب أن ينتقص لما له من

فضل في اثارة تفكير التلامذة لا يعادله انكباب الطالب وان كان موهوبا على كتاب المراجعة وحده وطريقة المسائل يمكن أن تفيد فى نطاق جلسات المناقشة ولكنها لا تكفى وحدها كطريقة عرض شاملة لمسائل الدرس لا أظن أن الجواب ينجر حتما عن هذه الملاحظات الا أنها تحدد الموضوع وهو جدير بالمراجعة ومزيد البحث

الجامعة والثقافة

الجامعة تكون الاطارات العليا وهى مركز ممتاز للبحوث الجامعية وهي الى ذلك ومن أجل ذلك مصدر اشعاع ثقافى ضرورى والثقافة تزدهر مع الحرية وفي كثير من الاحيان تنشأ وتترعرع بعد كفاح هين أو شديد المعنى هذا أن الجامعة لابد من أن تصارع الوسط الاجتماعي وفي اجماعه الضغط الشديد وقد يبدر من طلبة الجامعة أنفسهم وان تكون الجامعة تابعة فى استسلام لرأى الجماعة وان كان مخطئا بين الخنوع القاتل للتفكير وبين مهالك الخلاف والتنطع طريق وسط أساسة الاخلاص للعلم والحقيقة بيد أن هذا الاختيار الخطير الجامعة في غنى عنه اذا كانت في محيط ديموقراطي صميم ذلك أن الديموقراطية تفرض ضربا من اللامركزية فى ممارسة السلطة فى مختلف ميادين النشاط الاجتماعي وتستعيض عن نظام السلط الصارم فى غير النظام الديمقراطي بنظم تعاونية ومن ثم يصير مركز الجامعة فى الوسط الديمقراطى أقل توترا وحدة وتصير ممارسة الحرية فى القول والفكر أمرا طبيعيا وفي الوقت نفسه فان امتداد عروق الجامعة في تربة محيطها يجعلها أوفر اتصالا بالمجتمع وأشد ترابطا به وأبعد من أن تنعزل عنه بروج عاجية وهمية والثقافة ايمان وتنبه للآتي وحدة عقل وقلب وضمير جد بعيدة عن الرضى الهين والاطمئنان الرخيص وليس ذلك بالامر الهين مهما كان القطر ومهما اختلفت العادات ومهما تباعدت الحضارات ومما يزيد مشكلة الثقافة تعقدا والتواء أن سرعة التطور الاجتماعي في هذا العصر خاصة وهجوم الآلات على الحياة اليومية ليس مما يساعد على ازدهار الشخصية البشرية وعلى توازن مواعبها الاصلية هذا فى البلدان الراقية والناقصة النمو على السواء وفى هذه الاخيرة وبموجب التطور الواقع الذى لاريب فيه يحصل انهيار النظام الاجتماعي والاقتصادى التقليدى ويجرف هذا الانهيار فى معظم الاحوال القيم الثقافية التقليدية وللجامعة في هذه البلدان خاصة الى جانب وظيفتها الثقافية العامة أن تحيى هذا التراث الثقافي التقليدى وأن تظهر للناس عناصر البقاء فيه وان تجعل منها غذاء للعقول والنفوس في ميادين العقائد والتفكير وآلاداب والفنون ولكن العلوم الاجتماعية والانسانية بوجه عام التى يجب أن تنهض بهذا العبء ازاء القيم الثقافية التقليدية أو الحديثة ازاء القيم الثقافية قومية كانت أو أجنبية تطورت منذ عقود تطورا قربها الى العلوم الصحيحة وأبعدها بعدا خطيرا عن غايتها الانسانية البحتة فجنحت الى طرائق التحليل

القائم على الكمية شأن العلوم الرياضية أو الطبيعية وزهدت شيئا فشيئا في طرائق البحث الذوقية التي تغذت بألبانها قلوب البشرية وضمائرها من أقدم العصور الى هذا اليوم وهذا التحول الواضح فى طرق تناول البحوث الانسانية قد قطع بهذه العلوم أشواطا لا تنكر وجعل من العسير تجنب هذه الوسائل الناجعة الا أن واجب الامانة الفكرية يدعو الى الشك في أن هذه الدراسات متى استمرت على هذه الاساليب وانحصرت فيها قد يكون لها تأثیر عمیق فى ميادين المعانى الروحية والادبية والفنية

واذا فرضنا أن المجهودات المبذولة لاصلاح وتعديل أساليب دراسة العلوم للبشرية بوجه عام ستحقق لهذه العلوم غاياتها التربوية المنشودة فانه يبقى علينا أن نعنى بشروط ازدهار الثقافة الشاملة التى تتجاوز الثقافة الموروثة أو الثقافة القومية الحديثة الى ثقافات الامم الاجنبية والحضارات الغريبة . ان تلاقح الحضارات انما يقع فى معظم الاحيان وعلى مر العصور بمناسبة تطاحن الشعوب وامتزاجها امتزاجا عنيفا وكثيرا ما أخصب هذا التلاقح الشديد والحضارة العربية الاسلامية خير مثال على خصوبة هذا التلاقح وأعجب ما فى الامران مما يساعد على تفهم الحضارات الاجنبية ومما يجعل هذا المجهود مثمرا أن يبنى هذا التلاقح على الفحص الجرىء النزيه الصادق للحضارة القومية أولا وبالذات وان الامة التى تحلل حضارتها القومية فتحكم عليها وتنتخب منها أقرب الامم الى اتساع الصدر لتقبل الحضارات الاخرى وتذوقها والاستمداد منها والانتفاع بها وهذا الفحص المثمر انما يقوم به المؤرخون وعلماء الاخلاق وعلماء الاجتماع وعباقرة الادب وعلى هذا الاساس اضطلعت الجامعة فى مختلف الامم بتوسيع رقعة الثقافة والى ذلك يعزى فى البلدان الغربية تقدم الدراسات اليونانية واللاتينية والدراسات الفرعونية والدراسات الاسياوية ودراسات الاستشراق الى آخره وبفضل هذا التوسع تتكون مع الانتشار وسعة المعلومات الدراسات الجامعة كتاريخ الاديان وتاريخ العلوم الصحيحة وتاريخ النظريات الفلسفية وتاريخ الفنون والادب المقارن وتاريخ الموسيقى الى آخره وليس من  شك فى أن دراسة اللغات الاجنبية تضاف الى هذه القائمة الطويلة لتوسيع رقعة الثقافة وتغذية النفس البشرية بمختلف الاغذية الذوقية والروحية والعلمية ولا مانع من أن يشمل الاشعاع الثقافي الجامعي الامة جمعاء ما لم يتصادم مع رواسب التعصب التى تغذيها المدرسة ووسائل النشر والوان الدعاية باللسان أو بالقلم

نعود الى البلاد الناقصة النمو حيث المشكلة تختلف بعض الاختلاف عن مشاكل الامم المتقدمة ذلك أن البلاد الناقصة النمو تبذل عادة جهودا متظافرة لتقبل الحضارة الحديثة والانتفاع بها وليس من شك أن هذا السلوك عنصر فعال من عناصر الرقى بل عنصر أساسى للازدهار الاقتصادي الذي لاسبيل بدونه الى العزة والعدل الاجتماعى والكرامة البشرية غير أن هذه الجهود

للتطور واللاتحاق بقافلة الامم المتقدمة وان كانت ضرورية وان كانت حيوية فهى لا تخلو من أخطار منها تطور انقلابی فی العادات والاخلاق يقع أحيانا بدون مقابل ومنها بخس القيم الروحية والثقافية الموروثة حقها ومنها انحطاط الذوق الفنى بالنسبة للتراث المجيد الموروث الى غير ذلك من ألوان التحول السريع وما يجره من طفرة ليست صالحة في جميع مظاهرها

وان التماسك المنشود والنهضة المنشودة والاصلاح المنشود شأن كل ما يتعلق بالتربية والثقافة والحضارة انما تتطلب وقتا كما تتطلب جهودا متصلة خصوصا والحضارة الحديثة تقدم للانسانية مظاهر مادية متشابهة فى عالم زالت منه الابعاد وشمله التشابه السطحي الرخيص يضاف الى ذلك ما للحضارة الحديثة من وسائل ضغط جبارة فى أبواب الدعاية والنشر وان الجامعة اذا ما تلافت تقلص ظل العناصر الجديرة بالبقاء من كل حضارة موروثة  أو بصدد التكوين فانها تكون قد وفرت على الانسانية بازدهار الثقافات المتعددة والمتممة لبعضها بعضا فى الوقت نفسه ما يجعل منها مصادر خصبة للاغتراب المعنوى المثمر والتفكير الحر والانعاش الروحى ولا شك أن لعلوم الاجتماع والدراسات المقارنة الدور الفعال الى جانب الاداب الاجنبية فى تحقيق هذه الامنية .

الحياة داخل الجامعة شعارها التعاون

ان التعاون بين الادارة والاساتذة والطلبة ينسجم مع أجواء الحياة الديمقراطية فى الامة ويعين على تذليل العقبات ويكون طريقة مثلى لتدريب الطلبة على الاضطلاع بالمسؤوليات التي تنتظرهم بعد خروجهم من الجامعة وأن نظام الجامعات الانكلوسكسونية حيث يشمل الحى الجامعي سكني الاساتذة والطلبة والمسؤولين عن الجامعة بوجه عام لما يوفر الاتصالات المستمرة التى هى عنصر فعال في تدعيم هذا الجو التعاونى المثمر

وان جامعة متحفزة لتفهم ما يطلبه المجتمع من حولها تعيش على أساس التعاون كما ذكر لابد لها من أن تساهم بطبيعة حالها فى الحركات التعاونية الجامعية العالمية وذلك بتبادل الطلاب والاساتذة لا لاسباب ترتيبية بل لاعتبارات ثقافية وتربوية بحتة

مشكلة اللغة في الجامعة

مرجع هذه المسألة فى بعض الاحيان الى مدى تطور اللغة الوطنية المعنية بالذات فى حد ذاتها وهو مشكل اللغات التى لم تكن أداة لنشر الحضارة في عصر من العصور وليس هذا مشكل اللغة العربية ولا هو يواجه بهذا الاعتبار الجامعات فى البلدان العربية ذلك أن اللغة العربية بقيت طيلة

قرون عديدة أداة للحضارة العالمية فى شتى فنون المعرفة والتفكير ولا داعي للتذكير بأن الجامعات الغربية الناشئة قد أقامت تعليمها العالى فى الميادين العلمية والفلسفية على ما نقل الى اللاتينية من التاليف العربية وخصال اللغة العربية من هذا الوجه معترف بها على العموم ولا نزاع فيها ولا تزال اللغة العربية فى الجامعة الزيتونية بتونس وجامعة القرويين يفاس وجامعة  الازهر بالقاهرة أداة صالحة لنشر التراث الثقافي العربي في فنون عديدة بيد أن الجامعات الحديثة فى البلاد العربية تلجأ في معظم الاحيان بالنسبة لبعض الفنون الى لغة أجنبية عالمية كالانكليزية والفرنسية كاداة للتدريس الجامعي خاصة في المواد العلمية والفنية والسبب فى ذلك يرجع الى التفاوت بين التقدم العلمي والفني فى العالم وبين أهمية الانتاج العلمي والفني في اللغة العربية ومن هنا كانت معرفة لغة أجنبية عالمية أمرا ضروريا بالنسبة للاستاذ لحاجيات تدريسه وبالنسبة للطالب لحاجيات دراساته الشخصية ومن ثم أصبح للتدريس فى هذه الابواب العلمية والفنية أخصر طريق للوصول الى الغاية وأملنا أن تستكمل المكتبة العربية فى أمد قريب حاجيات الدراسة والتدريس فى جميع ميادين المعرفة والتفكير.

اشترك في نشرتنا البريدية