ننشر الكلمة التى ألقاها طه حسين فى ذكرى إقبال الثامنة عشرة بقاعة لحفلات الكبرى بجامعة القاهرة في 20 افريل ١٩٥٦ . وقد لخصها مواطننا الناشط الثاذلي زوكار
شاعران اسلاميان رفعا المجد الانسانى . هما اقبال شاعر الباكستان الهندى والمعري شاعر العرب شاعران ، يتقاربان كاشد ما يكون التقارب ، ويتباعدان كاشد ما يكون التباعد ، فكلاهما شاعر وكلاهما فيلسوف ، وكلاهما اصطنع الفلسفة للشعر ، والشعر للفلسفة ، وكلاهما تصوف ، وكلاهما خرج عن التصوف المعروف عند الناس ، واتخذ سبيلا جديدا للتصوف ، وكلاهما اثبت شخصية كاقوى ما يكون اثبات الشخصية ، وكلاهما اراد ان يعرف نفسه ، وكلاهما فرض نفسه على الزمن والناس .
ولكنهما يختلفان في ذلك ، ويفترقان . فاحد الرجلين وهو ابو العلاء كان في ايامه ينظر الى الهند ويطيل النظر اليه حتى التزم حياة المتمسكين بالتصوف ، واقبال كان ينظر الى العرب ، ويثنى عليهم ويتخذهم المثل الاعلى للحياة والبقاء .
كلاهما آمن بشخصيته ودعا الناس الى ان يؤمنوا بانفسهم ، لكن ابا العلاء آمن بشخصيته ايمانا انتهى به الى اليأس ، وان احبهم كما لم يحبهم احد قبله . والاخر آمن بنفسه ثم أعتزل ، ولكنه اخذ من الحياة بحظه المعقول ولم يلغ غرائزه ، ولم يكن كابى العلاء ، ولكنه حكم عقله .
كان ابو العلاء يزدري الناس لانهم يفنون انفسهم فى العظماء والكبراء ، وكان حريصا اشد الحرص على ان يشعر الناس بان يكونوا أكرم على انفسهم من هذا ، ويجب ان يتوحدوا كما توحد ربهم :
توحد فان الله ربك واحد ولا ترغبن فى عشرة الرؤساء
كان يريد ان يشعر الناس بانفسهم ليفرضوا شخصيتهم على الدنيا وكان يعيب خضوعهم للامراء والرؤساء :
مل المقام فكم اعاشر امة امرت بغير صلاحها امراؤها
ظلموا الرعية واستجاروا كيدها وعدوا مصالحها وهم اجراؤها
ولكن هذا كله لم يهون على ابي العلاء : انه يحيا مع الناس كما كانوا ايحيون فرأى ان الحياة الاجتماعية فى عصر لا تستقيم له الا اذا انكر نفسه واصبح خادما كهؤلاء . الخدم الكثرين الذين يتودون لاسيادهم ، فنفى نفسه من الارض ولزم بيته وأقام فيها ولم يخرج منها اكثر من خمسين عاما .
اما اقبال فقد آمن بشخصيته اشد الايمان كابي العلاء ولكنه لم يكتف بهذا الايمان وانما كان ايجابيا ، كان حريصا اشد الحرص على ان يؤمن نفسه ويحمل الناس على ان يؤمنوا بانفسهم لافى باكستان والهند فقط ، بل فى العالم الانساني كله كان حريصا على ان تكون حياة الانسان قائمة على ايمانه بنفسه وعلى ان يفرض الشخص نفسه على الحياة .
وكان في الوقت نفسه منطقيا مع هذا الرأى الفلسفى الخطير ، كان اجتماعيا كاشد مايكون الاخلاص للمجتمع . كان مرشدا ناصحا وداعيا للعالم الاسلامي والانسان ، ولكنه فى الوقت نفسه يرى ان هذه الحياة ، التى يخلص الانسان فيها للانسان ، ويعين فيها الانسان الانسان ، لا تستقيم ولا تعطى ثمرتها الا اذا لم ينفصل الانسان عن الانسان ، ويحب ان يصدر هذا الشعر عنه هو من حيث هو فرد ممتاز عن غيره ، يريد الخير ، ويصدر عن نفسه مريدا ، لاكما يصدر السراج نوره بدون ارادة ، بل كما يريد الله ان يملأ الارض نورا . كان حريصا على ان يتوحد الفرد في وجوده ، وعلى ان تتوحد الامة فى وجودها ، وعلى ان يكون التوحيد وسيلة تصدر عن القلب والعقل بحيث يكون الانسان كما قال ارسطاطاليس: حيوانا اجتماعيا . يعيش بارادته وغريزته ، لا كما يعيش النمل والنحل .
فالانسان هو خير مافي هذه الارض من الكائنات . فيحب ان يمتاز في الارض . وان يتحقق هذا الامتياز وهذا التضامن ، الذى يتيح له ان يتعاون على البر والتقوى ، وان لا يتعاون على الاثم والعدوان .
ومن اجل حرص اقبال على هذه الشخصية . وعلى ان يتوحد كما يتوحد الله ، وعلى ان يمتاز كما امتاز الله ، وعلى ان يخضع الطبيعة التى سخرها الله اليه .. من اجل هذا كلة ظن بعض الاروبين انه متأثر " بنيتشه " فى الانسان الممتاز ، ولكن اقبال رد عليهم وقال : انه عندما جاهر بهذا ، لم يعرف " نيتشه " ولا اسمه ، ولكن عرف فلاسفة الغرب بعدما انشأ فلسفته .
فهذان الشاعران لم يعرف الاسلام مثلهما ، ونرجو ان يعرف فى المستقبل مثلهما ... وفى الواقع ان الظروف المتشابهة هي التى خلقت الشاعرين ، فالعصر الذي وجد فيه المعرى عصر يشبه هذا العصر ، لقد كان فيه المسلمون - كما هم اليوم متفرقين ضعافا ، وفي الوقت نفسه فيهم استعداد للحياة والبقاء . ولكن أعداء خطيرين يدبرون لهم الكيد ، ويضمرون لهم المكروه .
فالشاعران يتفقان فى العصرين . لكن ابا العلاء لم يعرف هذه الحضارة المادية التى استطاع اقبال ان يعرف منها اقلها ، ودعوتهما واحدة ، فكلاهما يدعو المسلمين اولا ، والانسان ثانيا ، الى ان يعرف نفسه ولا يفني نفسه حتى ولو لله ، فابو العلاء ناقش المتصوفة اشد المناقشة ، وكرة منهم ان يعبثوا بعقول الناس واقبال متصوف لكنه لا يريد ان يفنى فى نور الله : بل يريد ان تكون له شخصيته وان يفنى الانسان فى الانسان ، بل يريد منهم التعاون والتضامن ، وان يعبد الله مكبرا له مؤمنا به ، ذلك لان الله امرهم ان يعيشوا ، وان يكونوا اجرارا لا ان يفنوا فيه ، والغالب ان الرجلين اشتركا ايضا فى هذا التفكير المتصل بالملا الاعلى ، كذا فى معجزة الاسراء ، وحاولا ان يسريا كما اسرى النبي صلوات الله عليه ، فابو العلاء فكر في النار والجنة ، وحرص على ان يسيح فيهما وان يحدثنا عنهما . فالف " رسالة الغفران " وصاحبنا الذى نتحدث عنه اراد ان يعرج الى السماء كالنبى ، فكلاهما عرج اليها بخياله ، فهو يزور المريخ والقمر وكواكب كثيرة ، ومعه صاحبه جلال الدين الرومى ، يطوف به ويرافقه ، كما طاف " فارجيل " بدانتى ورافقه ، كذلك كان اقبال . واغلب الظن انه لم يعرف دانتى الا فى العصر الاخير من حياته ... فلقد طاف وتجول فى السماء كابي العلاء ... لكن النتيجة كانت مختلفة ، فابو العلاء رجع نافرا يشك ان يكفر ، واقبال رجع مؤمنا يريد ان يبذر هذا الايمان فى الارض .
ايها السادة : اننا مدينون بكل ما عرفناه عن اقبال من شعر مترجم للعربية او ترجمات عن حياته الى زميلنا الدكتور عبد الوهاب عزام الذى كان همزة وصل وثيقة بيننا واحب ان نكون اوفياء وكراما على انفسنا و اول الكرامة هو ان نعرف الحق لاهله فاقبال هو الذى دعانا الى الخير واشاع فينا هذا الامر ، وطلب منا ان نضحي فى سبيل الخير والحق والجمال.. واذا ذكرنا اقبال فاظن انه من الواجب علينا ان نذكر الدكتور عبد الوهاب عزام صاحب الخير والفضل ، الذى كان صلة بيننا.
