الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 599الرجوع إلى "الثقافة"

إلى أى الدول اتجه محمد على، عند النقل عن الغرب

Share

بينا فى حديثنا السابق أن محمد على اتجه إلى أوربا والأوربيين عند القيام بإصلاحاته المختلفة ، وسنحاول اليوم فى حديثنا هذا أن نبين إلى أى دول أوربا اتجه محمد على وبأيها استعان ، لما لذلك من أثر واضح سيصبغ ثقافة مصر بصبغة خاصة طول القرن التاسع عشر :

كانت دول أوربا صاحبة الصدارة فى العصور الوسطى المتأخرة ومطلع العصر الحديث ، هى : انجلترا وفرنسا وجمهوريات إيطاليا :

أما انجلترا فلم تفكر يوما - حتى أواخر القرن الثامن عشر - فى أن تكون لها بمصر علاقة ما ، وخاصة من الناحية السياسية ، وذلك إذا استثنينا الدور الذى لعبه الملك (( ريتشارد )) (قلب الأسد) فى الحروب الصليبية ، وما كان بينه وبين سلطان مصر وقتذاك صلاح الدين الأيوبى وأخيه الملك العادل أبى بكر من علاقات صداقة كانت توحى بها روح العصر والمثل العليا لنظام الفروسية السائد فى تلك الأيام ، وما كان يتمتع به كل من صلاح الدين و((ريكاردوس)) من صفات البطولة الصادقة .

وبانتهاء تلك الحملة الصليبية انقطعت العلاقات بين مصر

وانجلترا ، حتى إذا كان النصف الثانى من القرن الثامن عشر سمعنا عن مساع كثيرة يبذلها الانجليز فى مصر للعودة إلى استعمال الطريق البرى القديم عبر مصر والبحر الأحمر للوصول إلى الهند ، لما يمتاز به هذا الطريق من قصر وسرعة تتناسب ومبشرات الرغبة فى هذه السرعة التى ستكون أهم مميزات القرن التاسع عشر، وخاصة بعد الانقلاب الصناعى .

وأحست فرنسا فى نفس الوقت أهمية مصر من هذه الناحية ، وبدأت المنافسات التحتية مع مولد القرن التاسع عشر بين هاتين الدولتين لامتلاك مصر ، وظهرت أروع صور هذه المنافسة فى النضال الذى انتهي بإخراج الفرنسيين من مصر سنة ١٨٠١ ، وتلكأت الجنود الانجليزية فى مصر بعد خروج الفرنسيين حتى اضطرت إلى الجلاء بعد قليل ، ثم عاودت محاولتها مرة أخرى سنة ١٨٠٧ فمنيت هذه المحاولة بالخيبة .

فهل نستطيع أن نقول إن محمد على يتجه فى محاولاته للإصلاح إلى انجلترا ، أو أن يستعين بالانجليز ولم يكن فى مصر منهم جاليات كبيرة ؟؟.

فإذا تركنا انجلترا إلى فرنسا لاحظنا أن محمد على قد اشترك فى المعارك التى انتهت بإخراجهم من مصر ، وقد خلصت له مصر بعد عهدهم مباشرة ، فهو يحس تماما ما تركوا فى مصر من آثار ، ولكن لعله كان لا يزال يتخوف منهم ؛ ثم إن عدد الجالية الفرنسية فى مصر قد نقص نقصا كبيرا بعد خروج الحملة . فلم يكن من الطبيعى أن يتجه محمد على أول ما يتجه إلى فرنسا ، وإن كان سيتجه إليها بعد قليل لعوامل أخرى .

انحرف محمد على عن الاتجاه إلى هاتين الدولتين والاستعانة برجالهما أول الأمر - برغم ما كان لهما من زعامة على دول الغرب وقتذاك - واتجه أول ما اتجة إلى إيطاليا والإيطاليين ، ولذلك أسباب :

فقد ظلت العلاقات التجارية بين مصر وجمهوريات إيطاليا متينة وثيقة طول العصور الوسطى ، وكان للإيطاليين حتى أوائل عهد محمد على جاليات كثيرة العدد فى ثغور مصر والشام ، كما كانت اللغة الإيطالية هى اللغة الأجنبية الأكثر شيوعا وتداولا ، بل لقد كانت لغة المخاطبات الرسمية حتى بين القنصليات غير الإيطالية ، وكان هؤلاء الإيطاليون يعرفون العربية ، كما كان عامة الأهالى فى الثغور المصرية - وخاصة الاسكندرية - يتكلمون الإيطالية .

فلما انتهت مذبحة القلعة ، وأصبح أولاد المماليك وغلمانهم ملكا لمحمد على ، بدأ الخطوة الأولى لإصلاح الجيش . فأنشأ لهؤلاء الغلمان مدرسة فى القلعة على نمط مدارس المماليك القديمة ، غير أنه كان يدرس فيها إلى جانب الفنون الحربية اللغات العربية والتركية والإيطالية ؛ فاللغة الإيطالية هى أول لغة أوربية قرر تدريسها فى مدارس محمد على ، وستكون للغة الإيطالية مكانتها فى المدارس التى تنشأ بعد ذلك فى عصر محمد على ، فقد قرر تدريسها فى مدرستى بولاق وقصر العينى ، ثم فى مدرسة المهندسخانة ببولاق وفى بعض المدارس الحربية فى صفها الأولى .

وعندما فكر محمد على فى إرسال البعوث إلى أوربا كانت أولى بعثاته فى سنة ١٨٠٩ وثانيتها فى سنة ١٨١٣ إلى مدن إيطاليا المختلفة : ليفورنو وميلانو وفلورنسا وروما ، وذلك لدراسة فن سبك الحروف والطباعة ، وبعض الفنون

العسكرية وبناء السفن ونظم الحكم .       (( ومن إيطاليا استدعى محمد على المعلمين للمدارس والضباط للجيش ، واشترى آلات الطباعة والكتب التى دفعها إلى المترجمين لينقلوها إلى التركية أو العربية )) .

وقد ذكر كلوت بك فى تقريره عن الطب فى مصر الذى قدمه فى ديسمبر سنة ١٨٣٧ للدكتور بورنج - مبعوث الحكومة الانجليزية فى مصر - أنه بدأ عمله فى مصر والإدارة الصحية يشرف عليها - فى معظمها - الإيطاليون . ثم ذكر فى إحصائية صغيرة أن مائة وخمسة من الأطباء والصيادلة فى الجيش والمستشفيات العسكرية كانوا من الإيطاليين ، واثنين وثلاثين من الفرنسيين ، وستة من الانجليز ، وخمسة من الألمان ، وأربعة من البولنديين ، واثنين من الأسبان .

وعندما استقدم محمد على بعثة حربية من فرنسا للاشتراك فى تنظيم جيشه كتب الجنرال بواييه (Boyer) رئيس هذه البعثة إلى صديقه المسيو جومار - عضو المجمع العلمى الفرنسى والمشرف على بعثات محمد على إلى فرنسا فيما بعد - يقول : (( وجدت أن إدارة الشئون كلها فى مصر فى أيدى الإيطاليين ، واللغة الفرنسية فى المحل الثانى ، ولا يعلمون فى المدارس الحربية سوى اللغة الإيطالية ، ولا يترجمون سوى الكتب البسيطة التى وضعها مؤلفون من ذلك الشعب ، ومدرسو الرياضيات واللغات والعلوم والفنون وغيرها كلهم إيطاليون ، وفى كل عام يرحل إلى أوربا ثلاثون أو أربعون شابا ليتعلموا علومها وفنونها ، وإلى ( بيزة ) يتجهون حتى فى دراسة الفنون الحربية ، ويظهر الوالى دهشته من هذا التفوق الإيطالى ، وإنهم ليبثون فى ذهنه المخاوف من ناحية الفرنسيين ( الخادعين ) . أما من ناحية الإيطاليين فلا يجب أن يخشى شيئا ... )) .

ومن الفقرة الأخيرة من هذا الاقتباس نعلم مبلغ المرارة التى كان يحسها الفرنسيون من تفوق الإيطاليين ولغتهم فى حكومة محمد على وفى إدارته وجيشه ومدارسه ؛ ولهذا نلاحظ أن الفرنسيين سيبذلون كل الجهود للقضاء على هذا النفوذ لكي تكون لهم وللغتهم الصدارة بين الأجانب واللغات الأجنبية فى مصر . وقد ساعدهم على ذلك أن الطوائف

الأولى من الإيطاليين لم تكن من العنصر الممتاز ، بل كان معظمهم من ذلك اللفيف من الأطباء الذين وصفهم ( ادوار جوان ) بأنهم كانوا من (( أفاقى اليونان والطليان )) وذلك فى الوقت الذى ترك فيه الفرنسيون القلائل الذين التحقوا بخدمة محمد على . وخاصة ( الكولونل سيف ) و ( كلوت بك ) ، أطيب الأثر وأجمله .

كذلك قد يرجع بعض الفضل إلى أن فرنسا كانت تسعى - برجالها وعلمائها وضباطها - إلى مصر وإلى محمد على سعيا ، فقد كانت تعتبره منفذا ومتمما لما بدأه علماء الحملة من أبحاث ، ولما بدأته الحملة نفسها من إصلاحات .

وأخيرا لقد كان لمركز فرنسا الدولى الممتاز حينذاك - كدولة من دول البحر الأبيض المتوسط - أثر كبير فى إشاحة محمد على وجهه عن إيطاليا والإيطاليين ، وإتجاهه فى سياسته الإصلاحية نحو فرنسا والفرنسيين .

نجحت فرنسا فى حلية هذه المنافسة ، وألغت اللغة الإيطالية شيئا فشيئا من المدارس المصرية ، واستغنى عن الضباط والمدرسين الإيطاليين ، واستعيض عنهم بضباط ومدرسين فرنسين ، وعدل عن ترجمة الكتب الإيطالية . فأصبحت الترجمة عن الكتب الفرنسية ، وألغيت البعوث الإيطالية ، فغدت ترسل - فى معظمها - إلى فرنسا ؛ وفى كلمة واحدة لقد تحولت مصر عن النقل عن الثقافة الإيطالية إلى النقل عن الثقافة الفرنسية ، وسيكون لهذا أثره الملحوظ ؛ فستظل مصر طول القرن التاسع عشر مصطبغة بالصبغة الفرنسية فى شتى نواحيها التفكيرية ؛ غير أنه لزام علينا أن نشير فى ختام الكلام عن هذا الموضوع إلى أن محمد على لم يكن أسيرا لحبه لفرنسا وللثقافة الفرنسية وحدها ، بل كان يحب دائما أن يستعين برجال كل دولة امتازت فى ناحية من نواحى العلم والعرفان ، فكانت من بعثاته مئات أرسلت للنمسا وانجلترا ، كما كان يدير بعض مدارسه ويعلم فيها أفراد من الإسبانيين والانجليز وغيرهم .

اشترك في نشرتنا البريدية