تعجبنى مداعباتك الطريفة للدكتور زكى مبارك، ويدهشنى حقاً كما يدهش الكثيرين أن يقف الدكتور - وهو الصوال بالمقدام - هذا الوقف السلبى الغريب بازاء نقد أوشك أن يهدم أكبر أثر له طالما اعتز به وفاخر. وما دام قد لاذ بالصمت وآثر عافية غير محمودة، فلا مندوحة لسواه من أن يسد مسده فى التعقيب على ما يستحق التعقيب عليه من هذا النقد. وقد وقعت من ذلك على نقطتين فى مقالك الرابع عن (فساد الطريقة فى كتاب النثر الفني) الأولى: أنك ذكرت أن سر تفاهة البيت:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
ليس فى صدق هذا الكلام ومطابقته للواقع - كما زعم الدكتور فى كتابه - وإنما هو فى أن المشبه به فى الشطر الثانى من البيت هو المشبه عينه الوارد فى الشطر الأول مما أبطل التشبيه لعدم المغايرة بين طرفيه، فأصبح البيت من ناحية التشبيه بيتاً كذباً، ولو استبدل بحرف التشبيه حرف التوكيد لصدق البيت وارتفعت قيمته ارتفاعاً يجعله بمنجاة من أن يكون مثلاً مضروباً فى السخرية والاستهزاء الخ. . .)
وأقول إن البيت - حتى بعد هذا التعديل المقترح - يظل تافهاً، بل غير صحيح من ناحية اللغة، وذلك لأنه يشترط فى الخبر أن يفيد فائدة زائدة على المبتدأ، وفى ذلك يقول ابن مالك: والخبر الجزء المتم الفائده ... كالله بر والأيادى شاهده ولا معنى للخبر إن لم يكن كذلك. وما ورد فيه الخبر بلفظ المبتدأ لوحظت فيه مع ذلك فائدة زائدة على المبتدأ كما فى قول القائل: أنا أبو النجم وشعرى شعري. إذ عنى بقوله (شعرى شعرى) أن شعره الحاضر هو من جنس شعره المعهود للمخاطبين
من قبل. وعلى تقدير كهذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته
إلى ما هاجر إليه) فى حديث (إنما الأعمال) : (وليس فى الخبر الوارد فى قول القائل: (كأننا والماء. . . الخ.) فائدة زائدة على المبتدأ ولا هو مما يحتمل تقدير شيء من ذلك.
الثانية: ذكرت ما أورده الدكتور زكى فى كتاب النثر الفنى نقلا عن الباقلانى من تعريف الأخير للسجع بأنه: (ما يتبع المعنى فيه اللفظ الذى يؤدى السجع) ، وتقريره أن ما ورد فى القرآن على هيئة السجع لا يدخل تحت هذا التعريف، (لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى) . وأردفت ذلك بذكر عبارة الباقلانى التى أكد بها احتجاجه لرأيه المتقدم، وهى:
(وفصل بين أن ينتظم الكلام فى نفسه بألفاظه التى تؤدى المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ: ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)
ثم زعمت أن هذه العبارة لا تستقيم مع رأى الباقلانى المتقدم، وأنه لا بد أن يكون قد وقع فيها تداخل عند طبع الأصل أو عند النسخ استغلق به المعنى على القارئ مما لم يفطن إليه الدكتور (فدل بذلك على تقصيره فى فحص الكلام وتقليبه أو على قصوره فى الفهم والتفكير الخ. . .)
والواقع أنه لا تداخل فى العبارة ولا استغلاق فى معناها الواضح كل الوضوح، فهى تعنى أن الكلام الوارد على هيئة السجع على نوعين: أحدهما كلام منتظم فى نفسه بألفاظه التى تؤدى المعنى المقصود فيه. فلا مناص من إيراد اللفظ الوارد على هيئة السجع، لأنه لا بد منه لإفادة هذا المعنى، ولا يمكن أن يحل غيره محله فى إفادته، ويصبح المعنى فى هذه الحالة مرتبطا
بذلك كارتباط معانى غيره من الألفاظ التى لم ترد على هيئة السجع بهذه الألفاظ. فتكون إفادته كإفادتها، أى أنه لا يكون مستجلبا لغرض آخر غير إفادة المعنى. النوع الثانى كلام يكون معناه منتظما بغير اللفظ الوارد فيه على هيئة السجع، فلا يكون هذا المعنى مرتبطا بهذا اللفظ، لأنه يمكن الاستعاضة عنه بلفظ آخر يفيد هذا المعنى أيضاً، وعلى ذلك يكون الإتيان فى هذه الحالة بخصوص اللفظ الوارد على هيئة السجع قد قصد به إلى
غرض آخر غير إفادة المعنى، ألا وهو تجنيس الكلام. والنوع الثانى هو السجع الحقيقي، والنوع الأول - وهو وحده الوارد فى القرآن على ما يرى الباقلانى - ليس بسجع حقيقى وإن جاء على هيئته
ومعنى العبارة على الوجه المتقدم هو المستقيم تماماً مع رأى الباقلانى السابق فى تعريف النوعين. فالأول - وهو ما ورد على هيئة السجع وليس بسجع حقيقى - يتبع اللفظ فيه المعنى، لأنه إنما أتى باللفظ للتعبير عن ذلك المعنى المقصود بعد التثبت من إفادته التامة له. أما الثانى - وهو السجع الحقيقى - فيتبع المعنى فيه اللفظ الذى لم يؤت به بخصوصه لإفادة المعنى وإنما لغرض آخر هو تجنيس الكلام، أفاد المعنى المقصود بتمامه أو لم يفد. ومن ثم استهجن التزام السجع لأنه إنما يكون على حساب المعنى
هذا وتستطيع بعد الإيضاح المتقدم أن تتبين بأدنى تأمل ما فى عبارتك التى أوردتها تصحيحاً لعبارة الباقلانى من مناقضة لحقيقة رأيه ومجانبة للصواب وأعود فأكرر إعجابى بمجهودك الموفق فى نقد كتاب النثر الفنى.
