محطة بغداد:
حذار أن تخالني أيها القارئ أسوق إليك حديثاً من بغداد! فما كنت لأفضل ذلك وأنا ما أزال في حلب. ولكنها محطة سكة الحديد هنا يسمونها كذلك!
ها نحن قد بكرنا إليها مع الفجر، تجتاز شوارع المدينة التى هجت في أخريات الليل، مسترسلة في إقفاءة مطمئة على أنغام متقطعة من الرذاذ ههنا، ومن الوابل الهتون أحابين. وهي من وراء ذلك متلقمة بحجاب كثيف من الضباب الذي مابرح يحوطها بنطاقه منذ أقبل الليل في المساء العابر. ووقفت بنا السيارة أمام بناء غير مفرط في ضخامته، ووقف السائق امام بابها يفتحه وهو يمد صوته قائلاً: " دي أوصانا: كو محطة بغداد!."
أجل . لقد كانت تلك محطة القطار في حلب وها هم الناس يتدافعون بالمنا كب امام الباب الكبير، الذي فتح إيذاناَ يدنو ميقات السفر. وردت هذين الصديقين اللذين فكر ما فيكرا ليشيعاني إلى القطار. فيرياني من أين أسلك وماذا يجب أن أصنع في كل مرحلة من مراحل هذا السفر الطويل.
في تركيا:
وسار بنا القطار يحمل مزيجا من البشر، مختلفا في الهيئة والرطائة واللباس، مختلفا في كل مظهر تقع عليه عينك من مظاهر، فيه التركي والكردي والأرمني والتركماني، وفيه العربي من مختلف الأقطار من سوري وعراقي ولبناني ومصري. واخذت عتمة الصباح تنقشع
حتى انجلت ونحن نستقبل (مسلمية). وهناك مفترق الطريق: شمالا إلي اسطنبول وشرقاً إلى الموصل فبغداد. وتجاوزنا مسلمية إلي (اخترين) ، وهي الحد الفاصل بين سوريا وتركيا. وما كاد القطار يستأنف سيره حتى رأيناه يقص بالترك من عسكريين ومدنيين . فما تفرغ من موظف حتى يتسلمك آخر سواه فهذا يحمى عليك ما تحمل من نقود، وهذا بعدد ما تحمل من متاع، وهذا يسجل هويتك وإلى أي بلد تنتسب، وآخر يبحث عن سمة الدخول (الفيزا) ليقتطع أحد شقيها وعليه صورتك، ويعيد إليك الشق الآخر، فما يزال دولة بين المراقبين في سائر المحطات حتى نجتاز الحدود، وحينئذ يجمعون بين الشقين ليطمئنوا إلى مبارحتك.
ووقفنا في (شوبان بي) فرأينا انماطا من الجند يرتدون أخلاقاً بالية، ويعبرون بضابط منهم لا يختلف عنهم كثيراً، فيؤدون إليه التحية بأكفٍ مرتجفة معروفة وهو لا يريم ولا يحرك ساكناً من أطرافه، كأنما هو قطعة من الصلد! محتفظاً بهذه الجهومة العابسة، وهذه النظرة الشزراء التي كان يرمي بها كل من يعبر من أولئك الجنود
تركيا والعربية
بزعمون أن تركيا جردت لغتها من العربية، وليتك تعرف مبلغ هذا من الصواب، فها هو ذا مراقب الجوازات قد تقدم يسألني عن السمة بقوله "فيزا حاضر أفندم؟" وهأنذا أقرأ على جدران قاعة الطعام في القطار إملاءات وتعليمات متعددة، منها : "اسطنبول مستحضراتي!" أي مستحضرات اسطنبول . و "بالجملة تأدية (اجن بر) مقبوض طلب (ادلى) رجاء (أولو نور )!" ومعناه : إذا اديت جملة فالرجاء طلب مقبوض (أي وصل). وهذه
صحيفة إحصاء ما أحمله من الأوراق المالية تركها بين يدي موظف الجمارك ، فأفرا في ذيلها : " جمروك مأمورو إمضاء رسمى مهور ..." ومعناه كما هو واضح . توقيع مأمور الجمرك الرسمي. ولو ذهبت اقرا لك جميع ما يقع عليه نظري من لوحات ورقاع لأسمعتك العجب العاجب، ولكنني كتفي من ذلك كله بما ذكرت. ومنه نجد أن العربية ما تزال شائعة في لغة القوم.
في مختلف المحطات
ها نحن تجتاز (حولمن) و (كر كيش) و (أرشد بونار) و (هرب ناس) و (تل ابيض) وكثيراً غيرها ، ونقف في معظم هذه المحطات لنبتاع (الكباب) ملقماً بالرقاق التركي، ونبتاع فواكه تلك المنطقة الجبلية من جوز ولوز وفستق وتين يابس. وهناك يسترعي انتباهك ألوان عجيبة من الحلوى، هي آناً حبال كالأفاعي، وآناً فصوص شفافة بداخلها الفستق، وكل طائفه في سمط تختلف في أشكالها عما سواها. وهي آناً ألواح متقارئة في منقبتها (بين غليظ ودقيق) ، وجميعها ضروب من خبيص العنب، الذي يسميه أهل الشام (اللبن) ، ويسمونه بلسانهم (صوجو !!)
وقد إعادت إلى تلك المشاهد هناك، ذكريات حبيبة لعهد الطفولة في بليدة (السلط) من "مشارف الشام" التى شاء الله ان يجعلها مملكة، تؤلفها قبضة من قرى وبليدات أربع، تبلغ القلة بعدد بعضها الا يصل (خمسة آلاف) إلا بجهد جاهد! وقد كانت بليدة السلط إلي أواخر العهد التركي مدينة عامرة بحماماتها وأسواقها وخاناتها وطرقها المرصوفة، وكرومها الواسعة الممتدة إلي بعيد الأرجاء وكان عدد سكانها يرتقي إلي خمسة وثلاثين ألفاً أو يزيدون، وكانت كرومها (التي حول معظمها المصرف الزراعي إلي أراض عامرة) تنتج من اصناف العنب ما يخطئه العد ، فيشرق في
أكناف الأرض ويغرب، لا تعوقه عكوس ولا تقف في وجهه حدود، حتى اصبح مضرب الامثال. فأنت إذا قلت علي غرار القدامى " مرمى ولا كالممدان، ورجل ولا كمالك .. " جاز لك أن تقول متشبهاً وأنت صادق: " عنب ولا كالسلطي!!.."، وكذلك عرفه الناس في ذلك الإيتان؛ إذ السلط مدينة في بلاد الشام ... وكانت أسواقها يومذاك طافحة بالكثير مما رأيت من خيرات هذه القري التي نعبر بها في بلاد الترك.
وها هي السهول الواسعة تمتد عن يمين وشمال، حتى تغيب في الأفق القصي دون أن تبدو لها نهاية. وما يزال هذا الفلاح يبدو بين فترة رآخري بدفع محراثه (كما ورثه عن أبي البشر) خلف حمارين، أو حمار وثور، وهو بذلك يشابه فلاحنا البائس في جبال البلقاء ومؤاب، فكان لي من ذلك عزاء عما نحن فيه وقلت في نفسي: لعل تركيا أغفلت هؤلاء البؤساء حين شغلتها ظروفها في إنشاء السفارات وإيفاد الرسل واستقبال الوفود، ما جعل لله لرجل من قلبين في جوفه ..."!!
وإنه ليدهشك أن تري قرية تركية من عشرين بيتاً تقابلها قرية عربية في الحدود السورية تتجاوز أضعاف أضعافها عدداً وأتساعا! وأغرب من ذلك ان كلاب هذه القري (وهي كلاب ضخمة رديعة) ما تكاد تبصر القطار حتى تهرع إليه، لتستجدي جماعة المسافرين ملحة ملحقة، وقد تزاحهم على الصاعد وفي الممرات دون ان يتعرض لها أحد بأذى ..
على مائدة العشاء :
وخيم المليل - والقطار دائب في سيره - وحان موعد العشاء، فذهبت احتجز مكانا بين جماعة من الترك . ثم ما لبثت أن رأيتني استرق السمع على عربيين يتحدثان من ورائي، وكان أحدهما عراقياً، فإذا هو يحدث جاره عن
أماني العراق القومية وما يصبو إليه من آمال ، ثم سمعته يتفاءل إلى حد أدائي إلي اتهامه بالإفراط فيه، بعد أن رأيت في شمال المراق ما رأيت.
وجلس قبالتي (مصادفة) ونحن نتناول الشاي في العاشرة ليلا، رجل من سراة بغداد كان قادماً من تركيا فجعل يحدثني عن العاطفة الإسلامية المشبوبة لدى الترك في أيامهم الأخيرة، وانهم مزمعون على ان يرجعوا تدريس الدين في مدارسهم، والعود إلي الأذان بالعربية، وأنهم يكتبون من جديد آيات القرآن بحروف عربية، وأنهم وأنهم .. وسمعت ذلك كله وجعلت أعجب! ثم قلت في نفسي: لعلها بداية الغزو (بعد الإسكندرية) لاستعمارنا من جديد عن هذا الطريق؟!
حدود العراق :
ووصلنا إلى (نصيبين) فانتهينا من حدود تركياود خلنا في حدود الجزيرة، فعدنا كرة أخرى إلى سوريا، وطالعتنا من جديد علمها العربي الحبيب يرفرف خفاقاً مكرما، فيثير في النفس اشتاتاً من الأماني، ويحملها على جناح من ذكريات الماضي المجيد. وما لهذا القلب لا يغتبط حين تطالعه سوريا الحرة المستقلة؟! أليست البلد الذي يأمن الإنسان فيه على نفسه وكرامته ؟! أليست معقلاً حصيناً لمن أخرج من دبيره يجد فيها وطناً وفي أبنائها أهلاً ؟ إنها لكذلك. ومن حق هذا القلب أن يغتبط بمرآها.
ثم وصلنا إلى (القامشلي) وهي حاضرة الحزيرة، نزل معظم ركاب القطار ولم يبق فيه إلا نفر قليل. وأخيراً وصلنا إلى (تل كوجك) وهي بداية حدود العراق. وهناك تري العجب حين تنظر إلي ساعة المحطة، وهي ذات وجهين أحدهما يسير حسب توقيتنا، وهو المتجه نحو المحيطة
السورية، والثاني يزيد ساعة كاملة وهو المتجه نحو المحطة العراقية.
واختلاف الزمن بين سوريا والعراق ليس بتأثير صيف أو شتاء (وهي البدعة التي خلفتها الحرب وزالت بزواله). وإنما هو توقيت دائم يسببه الاختلاف الإقليمي.
وأخيرا لاحت تباشير الصباح ونحن نستقبل أرياض الموصل. ثم وصلناها في التاسعة صباحاً (من توقيت العراق). وكان أول ما ظهر منها منارتها (الحدباء) ثم منارة النبي (شيث) ، ثم منارة (نينوي) القاعة على ضريح النبي (يونس) هناك، ثم بناء المحطة الضخم وما يحوطه من دارات (فيلات)، هي غاية في جمال الهندسة وإبداع البناء.
وسألقاك في حديثي المقبل لاقدم إليك وصفاً عن الموصل (ذات الربعين)، وإن فيها ما يرضيك ويستهويك (له معقبات)

