الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 111الرجوع إلى "الرسالة"

إلى صديقي العلامة الأمير شكيب أرسلان

Share

نعم شقّ عليّ يا أخي أن تلقى دلوك في الدلاء، وأن تكتب  مقدمة كتاب   (قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث)   بهذا اللسان الذي ما عهده فيك من تأدبوا بأدبك، وأكبروا  عظمة بيانك. بالأمس كتبت مقدمة   (النقد التحليلي لكتاب  في الأدب الجاهلي)  للأستاذ محمد أحمد الغمراوي، فمن منا لم  يعجب بما كتبت وحبرت، وإن كنت أطلت وتوسعت؟  واليوم تكتب ما تكتب لقواعد التحديث، في فن لست منه  ولا أنا في العير ولا في النفير، وجئت تغالي بكتاب ليس فيه من  حديثه ولا أسلوبه أسلوب المؤلفين، ولا يستحق هذه العناية  والدعاية وهذه الضجة؛ ولكل رأيه واجتهاده

أنا أجلك عن الدخول في هذه المآزق، لأنك في غنية عنها،  ولست بحمد الله محتاجاً إلى مصانعة الناس، ولا نضبت  أمامك الموضوعات، تحتاج لمعالجتها لتورثك شهرة وحسن ذكر؛  وما أخالك إلا كتبت ما طلب منك في غير وقت نشاطك، وليس  لك من القول ما تقول فتبدع على عادتك. ومهما كانت منزلة  الكتاب وكاتبه من نفسك، ما أرى لقلمك أن يجري إلا فيما  يصلح أن ينسب إلى إحسانه؛ وحملة الأقلام مسؤولون إذا اقتصروا  مع المؤلفين والطابعين على مقارضة الثناء، ولم يتعاودوهم بالنقد  الصحيح؛ والإفراط في التقريظ شيمة المتأخرين من أهل  عصور الانحطاط الأدبي في العرب؛ والنقد المفيد عادةُ نقاد  الإفرنج في زماننا. ومن الأمانة للعلم والأدب أن يُدَلّ كل كاتب  على مواضيع الخطل من كلامه، إلا أن نغشه ونغش قراءه، فنجسم  ما صغر حجمه في العيان، ولا يشول مهما نفخناه في الميزان

وأكتفي الآن بجملة من مقدمتك، وقد بدأتها بقولك:  (لا يخفى على أهل الأدب، أن الجمالَ والقسام في العربي   (؟)   واحد، وأن معنى القاسم هو الجميل، فلا يوجد إذن لتأدية هذا المعنى  أحسن من قولنا   (الجمال القاسمي)  الذي جاء اسماً على مسمى،  مع العلم بأن الجمال الحقيقي هو الجمال المعنوي، لا الجمال الصوري،  الذي هو جمال زائل؛ فالجمال المعنوي هو الذي ورد به الحديث  الشريف: إن الله جميل ويحب الجمال. وعلى هذا يمكنني  أن أقول إنه لم يُعط أحد شطر الجمال المعنوي الذي يحبه الله  تعالى، ويشغف به عباد الله تعالى، بدرجة المرحوم الشيخ  جمال الدين القاسمي الدمشقي، الذي كان في هذه الحقبة الأخيرة

جمال دمشق، وجمال القطر الشامي بأسره، في غزارة فضله،  وسعة علمه، وشفوف حسه، وزكاء نفسه، وكرم أخلاقه،  وشرف منازعه، وجمعه بين الشمائل الباهية، والمعارف المتناهية،  بحيث أن كل من كان يدخل دمشق، ويتعرف إلى ذاك الحبر  الفاضل، والجهبذ الكامل، كان يرى أنه لم يكن فيها إلا تلك  الذات البهية، المتحلية بتلك الشمائل السرية، والعلوم العبقرية؛  لكان ذلك كافياً في إظهار مزيتها على سائر البلاد، واثبات أن  أحاديث مجدها موصولة الإسناد. . . الخ)

بأبي أنت وأمي يا شكيب! هل هذا بيانك الذي عرفته  وعرفه فيك قومك؟ أنا لا أطلب غير حكمك، فلا أحتكم إلا  إليك. أهذا كلام ترضاه لنفسك في كتاب يبقى؟ وما هذا القلق  في المعاني والمباني؟ ربما أغتفر صدور مثل هذا الصدر من فتى  يشدو في الأدب، ولكن من شيخ كتاب العرب لا ثم لا!  وحديث السجع أنت عرفت رأيي فيه، ولعلك تذكر أني كنت  لفت نظرك إلى ما أسميت به كتاب رحلتك إلى الحجاز:    (الارتسامات اللطاف، في خاطر الحاج إلى أسمى مطاف)  وقلت  لك يومئذ إن القارئ مهما بلغ من ثقوب ذهنه لا يدرك لأول وهلة  معنى هذا العنوان المسجوع، إلا بكثير من إجهاد الفكر؛  وهكذا كدت باستحسانك السجع في بعض المقامات والغلو في  تقريظ من ترى تقريظه، أن تنسينا حسناتك علينا في كلامك  المرسل الكثير، وأنا على ما تعلم من أحرص الناس على  تخليده وتأبيده

بحقك، هل رأيت لأحد من بلغاء القرون الأولى سجعاً  في شيء من أسماء كتبهم؟ وهذا الجاحظ وابن المقفع، وهذه  أسماء كتبهما ورسائلهما، هل وجدت لهما سجعاً تتقزَّز منه  كصاحبك أبي إسحاق الصابي الذي أفسد اللغة على علو مكانته  في الأدب بما سجع ورصع؟ وأظنك موافقي على رأيي في أن  التسجيع أضعف ملكات المؤلفين من عهد ابن العميد إلى زمن  أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده الذي قضى بقوة حكومته على  استعمال السجع في الصحف والرسائل الرسمية، فعدّ عمله هذا  أكبر حسنة منحسانته؛ ولولا عمله ما دخلت اللغة في هذا  الأسلوب الممتع الذي نقرؤه اليوم للمنشئين والمؤلفين؛ ونرجو  أن تعود به اللغة إلى رونقها السالف من الرشاقة والجزالة، على  نحو ما كانت على عهد سهل بن هرون والجاحظ وعمرو بن مسعدة

وأحمد بن يوسف الكاتب وابن المقفع وإضرابهم. وما أظنك  تنكر عليّ أن رصف أبي حيان التوحيدي في القرن الرابع،  وابن خلدون في القرن التاسع، أرفع وأمتع من تعسف الصابي  والصاحب بن عباد وأبي بكر الخوارزمي والقاضي الفاضل والعماد  الكاتب وابن الأثير إلى آخر أعيان ذاك المذهب المتكلف. وأظنك موافقي أن في قولك: (وإن كان يجب حذفه   (السجع)   من هذه اللغة من أجل كونه في طريقة قديمة، ومن أجل أنه  عبارة عن زينة كلامية، فإن هذا يؤدي بنا إلى اقتراح حذف  الشعر أيضاً) - إن في قولك هذا مغالطة لطيفة، وفي علمك  أكرمك الله أن النثر غير الشعر، والكراهة آتية من  التزيد والتكلف

لو كنت على مقربة منك ما تركتك تقول في مقدمة الديوان  الذي نشرته بأخَرةٍ ودعوته:   (روض الشقيق، في الجزل الرقيق)   ما قلته في فاتحته:   (. . . الذي لا أجد لشعره وصفاً أو في من  عرضه على الأنظار، ولا لديوانه حلية أجمل من نشره في الأقطار؛  وخير وصف الحسناء جلاؤها؛ والجواد عينه تُغني عن الفُرار.  ولعمري لو وصفته بأزهار الربيع، وأنواع البديع، وشققت  في تحليته أصناف الأساجيع، وكان هو في الواقع دون ما أصف  لما أغنيته فتيلاً، ولا رفعته عن درجته كثيراً ولا قليلاً؛ كما أني  لو قدمته للقراء فريدة معطالاً، لا يرن له حجل ولا سوار، ولا  يتلألأ عليه ياقوت ولا نضار، وكان هو في نفسه دراً نظماً، وأمراً  عظيماً، وديواناً تتأرج أرجاؤه ندّاً ولطيماً، لما خفي أمره على ذوي  الوجدان، ولا تعامى عن سبقه أحد ممن له عينان. .)  ولو كنت  مكانك لقلت وما باليت:   (. . . الذي لا أجد لشعره وصفاً  أوفى من عرضه على الأنظار؛ ولو وصفته بأزهار الربيع، وكان  هو في الواقع دون ما أصف لما أغنيته فتيلاً؛ ولو قدمته للقراء  فريدة معطالاً، وكان هو في نفسه دراً نظيماً، لما خفي أمره. .) أليس هذا الإيجاز أوقع في النفس، وأجمل في أداء المعنى، وأدعى  إلى الأفهام من أسجاع تثقل على الطباع؟ ونحن إنما نكتب  لنُفهم، لا لنُعجم ونُبهم. وبعد فمالنا وللتقيد بما قاله بعض  المتأخرين في معنى التعلق بأهداب السجع، ولدينا في أقوال  المتقدمين والمأثور من كتاباتهم ما يحملنا على تقليدهم في أساليبهم،  يوم لا هذا الترصيع والتسجيع، ولا ذاك الضرب المستكره  من أنواع البديع

اشترك في نشرتنا البريدية