من البديهيات في الشئون الاقتصادية أنني إذا صرفت جنيهاً واحداً ولم أحصل من ورائه على فائدة تعادل قيمته كان ذلك إسرافاً شديداً ، ولكنني - إذا كان معي ألف جنيه - وصرفت ذلك الألف كله في أبواب تعود بالنفع الذي يكافىء قيمتها كان ذلك هو الاقتصاد بعينه .
ويخيل إلي أننا عند ما نتعرض للأموال العامة وطرق التصرف فيها قبل دائماً إلي تقدير أحكامنا على أساس مقدار الأموال التي تصرف . فمثلا إذا رأينا أن الميزانية تحتوي علي مبلغ ضئيل أرصد على عمل من الأعمال لم نقف عنده طويلا ، لأن صرف المبالغ الصغيرة لا يتعرض في نظرنا لخطر الإسراف ، وأما إذا كانت المبالغ المرصدة في الميزانية
كبيرة فإننا نقف عندها مترددين ولا نطمئن إلى صرفها إلا علي مضض وكراهة ، لأننا تعودنا أن نحكم على الذين يكثرون من الإنفاق بأنهم من المسرفين .
وقد كنت منذ حين أتحدث مع بعض المسئولين عن المبالغ التي أرصدت لإزالة الأمية في وزارة الشئون الاجتماعية ، وكان الذي يحدثني مهتما بالدفاع عن سياسة الوزارة في هذا الشأن ، فكانت حجته التي دافع بها عن تلك السياسة أن المبالغ التي صرفت لا تتجاوز ربع الميزانية التي أرصدت لهذا الباب من الإصلاح . وهذا يدل دلالة واضحة على أنه كان يري أن السياسة المالية الحكيمة لا تتعدي الإفلال من الصرف . في حين أن المال القليل إذا صرف ولم ينتج فائدة تعادله كان صرفه تبذيراً وإسرافاً عظيما كما قدمنا .
نقول هذا القول على سبيل التقديم لموضوع آخر سبق لما التحدث فيه من المكافآت السنوية التي اعتادت وزارة المعارف العمومية أن نصرفها لمن نسميهم النوابغ حتي تشجع على زيادة الاهتمام بتحصيل العلوم .
وهذه المكافأت نوعان : أما النوع الأول فهو الذي يخصص المتسابقين في العلوم المختلفة في نهاية التعليم الثانوي ، وفائدة هذا الامتحان مزدوجة ، فهو يحفز الطلاب إلى الإقبال على التحصيل والدرس ، وفي هذا ما فيه من فائدة محققة ، وهو في الوقت عينه يتيح لأولي الأمر فرصة لتصفية أبناء الأمة في نهاية مرحلة التعليم الثانوي ، وبذلك يتمكنون من معرفة النوابغ في المواد العلمية المختلفة.
وهؤلاء النوابغ إذا تمكنوا من مواصلة الدراسة في الجامعة كانوا من أجدر الناس بالنبوغ في العلوم التي ظهر استعدادهم لها . والوزارة تشجعهم على مواصلة الدراسة بالجامعة لأنها تعفيهم من رسوم الكليات المختلفة ، ولاشك أن أكثرهم بنتهزون هذه الفرصة لمواصلة حياتهم العلمية
فهذه السنة التى سنتها وزارة المعارف في مقد امتحانات المسابقة في المواد المختلفة ومكافأة المبرزين فيها بالأموال
والإعفاء من رسوم الكليات الجامعية ، لا شك في أنها سنة حميدة ، نرجو من الوزارة أن نواصل السير عليها وأن تتفنن فيها ، وأن تعممها إذا استطاعت في مراحل الدراسة العليا . فكل مال يصرف في هذه السبيل يؤتى ثمرته. ولا يمكن أن يتهم الذي يصرفه بالإسراف بأي وجه من الوجوه .
ولو خصصت وزارة المعارف لهذه الغاية مئات الآلوف بدلا من مشرات الألوف من الجنيهات سنويا لما وجد عاقل مطعننا على سياستها في ذلك.
ولكن هناك نوعا آخر من المكافآت سبق لما التعرض له بالنقد ، وقد كان يلوح لنا دائماً في صورة " بدرة اللبس " القديمة التى يعرفها شيوخنا والتي يمكن شبابنا أن يسألوا عنها من هم أكبر منهم سناً .
ففي كل عام تعقد وزارة المعارف حقلا عظيما يشيع فيه المرح وتخفق فيه القلوب سروراً وكبرا ، ويشترك فيه الكبار والصغار في هزة تشبه هزة الابتهاج بالأعياد ، ثم نوزع في هذا الحقل مقادير من المال على الأوائل في الامتحانات العامة!
وقد حاولت بكل ما استطعت من تفكير أن أدرك الحكمة من صرف هذه الأموال ، فلم أقدر أن أدرك شيئا ، وحاولت أن أكشف عن الفائدة التي يحققها صرف هذه العشرة من الألوف من الجنيهات فلم أهتد إلي فائدة.
وقد تحدث إلي بعض الفضلاء في هذا الشأن ، فكان رأيهم أن في صرف هذه الأموال نوعا من الإسراف والتبذير . ولكن أبعد الناس من النظر إلى الموضوع من هذه الناحية ، فلو صرفت وزارة من الوزارات الملايين من الجنيهات في أبواب ممكن أن تدرك حكمتها لحمدنا لها الصرف واعتبرنا عملها منتهي مراتب الاقتصاد والحكمة في التصرف . فالذي لا تقر وزارة المعارف عليه ليس هو مجرد صرف الأموال بل هو عدم ظهور النية التي تصرف فيها هذه الأموال .
فنحن اليوم على أبواب العام المقبل ، ونخشى أن صيحتنا الماضية سوف تذهب في الهواء كما اعتدنا أن يرسل كثيراً من الصيحات في الهواء ، ولهذا بادرنا منذ الآن وقلينا مملوء بالإخلاص لأولي الأمر وللعلم والمتعلمين لكى نوجه الأنظار إلي هذا الأمر ؛ ولا نطلب أن تعدل الوزارة من خطتها ، بل نطلب أمراً واحدا ، وهو أن تكشف لما من غايتها وعن الفائدة التي تلتمسها من وراء صرف هذه الأموال .
قلنا من قبل إن الله عند ما خلق الامتحانات قدر أن يكون للطلبة الناجحين فيها ترتيب مدرج ، فلا بد أن يكون منهم أول وثان وثالث ، وهكذا . فما حاجتنا إلي صرف الأموال للأوائل في هذه الامتحات ؟ وهل نساعد أحدا أو نحقق غرضا بأن نعطي كل واحد من الأوائل في معاهد العلم المختلفة مقدارا من المال ؟
إن المال الذي يصرف لابد أن يهيء للأمة فائدة جديدة ، فاية فائدة جديدة تهيئها لنا هذه المكافآت ؟ لقد ذنت أفهم أن هناك حكمة إذا كانت المكافآت تصرف للذين يصلون إلى مستوى معين في علم من العلوم أو في مجموعة من المواد . ولو كانت الوزارة تكافئ للممتازين في دراستهم لما كان في رأيها غموض ولا عليها انتقاد ، ولكنها تكافئ الأوائل أيا كانوا وأياً كانت مقدرتهم العلمية . فهذه الخطة لا تزيد في نظرنا على أن تكون تمليقا للكبرياء . إن المنافسة المثلى هي منافسة الإنسان لنفسه أو يقول آخر يجب أن نشجع على أن يقبس طلاب العلم مقدرتهم إلي مستوي خاص يرضونه لأنفسهم ... ومن العار أن نشجعهم على أن يقيسوا مقدراتهم بالنسبة إلى الغير دائماً.
قد يعتذر الضعيف عن ضعفه بأن غيره أضعف منه ، وقد يعتذر المقصر عن تقصيره بأن غيره أكثر منه تقصيراً وهذه علة اجتماعية فينا آن لنا أن نحاربها فيما نحارب من أمراضنا . وينبغي لنا أن نجعل طالب العلم يحاول أن يقيس نفسه إلي المثل الذي يجب أن يكون عليه لا إلي
أقرانه الذين يبارونه مكتفيا بأن يكون الأول بينهم . ففي هذا انعدام للغاية المثلى ، وفيه انحراف بالشباب عن الطريق الجدي في الحياة . ينبغي أن يكون لكل من شبابنا غاية يحاول الحصول عليها في ذاتها . ينبغي ان يكون لكل منهم غاية يخصص حياته لتحقيقها في ذاتها. ينبغي أن يكون لكل منهم غاية يحاول الحصول عليها في ذاتها، ينبغي أن يكون لكل منهم غايه يخصص حياته لتحقيقها سواء أكانت هذه الغاية بحثاً علميا أو عملا أدبيا أو اقتصاديا أو رحلة أو مخاطرة أو تبريزا رياضياً .
وبهذا وحده تكون الاستفادة بحماسة شبابنا وتوثبه نحو المستقبل . فينبغي لوزارة المعارف أن تشجع على أن يكون للشباب غابات محددة ، ولها في هذا وسيلة قوية في تلك المكافآت التي تصرفها كل عام . فبدلا من صرفها لأوائل الامتحانات أياً كانوا ، يمكنها أن تصرفها لمن يحقق غاية بذانها من غايات الحياة ويظهر في تحقيقها جدارة أو تبريزا.
فنحن نرجو أن يكون في وزارة المعارف هذا العام تجديد في سياسة منح المكافآت ، غير هذا الاسلوب الذي يشبه بدرة الملبس التي تصيب الناس عفواً كانها ضربات القضاء والقدر العمياء . ولعلنا نكتب مرة أخرى في هذا الموضوع شاكرين على أن صرخات االمخلصين لا يذهب صرخات في واد .
