الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 344الرجوع إلى "الثقافة"

إلى من يلزم من الأذكياء :، أصحاب الملاعق الفضية

Share

يقولون في اللغة الإنجليزية إن فلانا قد ولد وفي فمه الملعقة الفضية ، ويقصدون بذلك أنه من نسل قوم من أهل النعيم نشأ مدللا لا يعرف معنى الحرمان ، فكل شئ ميسر له وكل شئ حوله باسم ضاحك ، لا يعرف معني الحاجة إلي الطعام ، بل لا يفكر في أن الطعام شيء يحتاج إليه الناس ويتحملون المشقة في الحصول عليه ، لأنه لا يعرف في الطعام إلا أنه أصناف مختارة من طرائف المأكول يتلذذ بها الآكل ويمتنع بها ذوقه وشمه وحلقومه . وأما أن ذلك الأكل من شأنه أن يشبع الجوع فأمر بعيد عن تصوره لأنه لم يحس الجوع يوماً من الأيام . وهؤلاء الذين يولدون وفي فمهم الملعقة الفضية لا يعرفون الخبز الذي يعتمد عليه غيرهم من الناس ويجعلون له من نفوسهم أسمي مكان ، فهم إذا أكلوا الخبز فعلوا ذلك تقليدا وتنازلا منهم ، وهم لا يكثرون من أكله لأنهم يؤثرون عليه الحمام والأرز والدجاج وأنواع اللحوم الأخرى بين بيضاء وحمراء وغير ذلك مما لا أعرفه ولا أحسن وصفه لأنني والحمد لله من عباد الله آكلي الخبز وأكثر أكل هؤلاء من أطايب الفواكه والحلوي ، فهم إذا كانوا صغارا أكثروا من أكل الجاتو والشوكولاته والملبسات المعروفة بين الأحمر والأصفر والأخضر وأصناف أخري لا أعرفها ولا أحسن وصفها - فإذا ما كبروا طاب لهم أن يتفننوا في أنواع المأكول والمشروب ويجمعون إلي ذلك مرفهات أخري يحيطون بها الأكل والشرب من رقص ونزهة وسهر بالليل ونوم بالنهار وما إلي ذلك مما لا أعرفه ولا أحسن وصفه لأني بحمد الله لم أولد بملعقة  فضية في فمى . وهؤلاء علي الأكثر أو في العادة هم السادة بحكم مولدهم فإذا نضجت أجسامهم وتضخمت رؤوسهم

وطالت شواربهم وبلغت لحاهم مبلغ الحلاقة صاروا بإذن الله حكاما وأعيانا وعظماء يشار إليهم بالبنان ، ومعنى ذلك أنهم لا يصنعون شيئا إلا أن يجلسوا على الكراسي العالية ويزينوا المكاتب الفخمة بجلوسهم عليها ثم يأمرون أو يشيرون إلي أنبائهم أن يأمروا باسمهم بما شاءت لهم عواطفهم الرقيقة التي تعودت نعومة الحياة ووداعتها  وهؤلا ، قد يرتكبون القسوة من غير عمد لأنهم لا يعرفون أن في هذا الوجود من يستحق الرحمة ، وقد يكونون خاملين عن غير قصد لأنهم لم يعرفوا في الحياة شيئا يدعو إلي " النشاط ، وقد يفسدون في تصرفهم عن غير قصد لأنهم لم يعرفوا من الحياة شيئاً يحملهم على حسن التصرف . قد يجودون على من لا يستحق الجود وقد يصرفون قلوبهم عن مصلحة كانت تستحق منهم أن يصرفوا لها كل قلوبهم ، ولكن ذلك كله لا يكون عن عمد لأنهم لا يقدرون على تعمد شيء سواء أكان خيراً أم شراً .

ولكن ليس كل من يولد يجد في فمه الملعقة الفضية ، فمن الناس من يولد وفمه كسائر الأفمام ليس فيه شئ ثم يفتح الله عليه بطريق من الطرق حتى يدخل إلي صفوف الأعيان والعظماء . وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين : فمنهم قسم يصل إلى تلك المرتبة في شيء من اليسر كما لو وجد من دونه من يدفعه إلى الأمام أو من يرفعه إلى أعلى . ومنهم من يصل إلى السيادة عن طرق أخرى فيها شئ من الالتواء أو شئ من التساهل فيما يسميه المتزمتون قواعد الخلق السليم . وهؤلاء جميعا في أكثر الأحوال ينسون أنهم عندما ولدوا لم تكن في أفمامهم ملاعق فضية ، بل يكاد كثير منهم يغالط نفسه ويقنعها بأنه قد ولد وفي فمه ملعقة  فضية ، فيعمدون إلي تأليف القصص الخيالية عن منشئهم  وعن الدماء التي تجري في عروقهم ، وقلما يعبأ الناس بتكذيبها ، ولا سيما إذا كانوا قد بلغوا في الحياة مرتبة تجعل لهم شأناً خطيراً .

وهؤلاء جميعا يتعمدون أن ينافسوا أصحاب الملاعق  الفضية في أساليب حياتهم وفي تفكيرهم ، ولكنهم يكونون  في أكثر الأحوال أشد قسوة وأكثر عنفا في تصرفهم ، وتكون قسوتهم عن عمد ويكون إفسادهم عن قصد لأنهم  لا يمكن أن يتهموا بجهل الحياة وما فيها من مساكين وما في أركانها من مواضع تستحق الرحمة وما في مصالحها من أمور تستحق بذل الجهد والاخلاص في الخدمة . فهم يعرفون قسوة الحياة ولكنهم مع ذلك لا يترددون في القسوة ، وهم يعرفون ما عليهم من دين للحياة ولكنهم يجحدون دينهم .

ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم قد ذاقوا الخبز الأسود وملأوا منه البطون أحيانا ومع ذلك نراهم يتظاهرون بأن أمعاءهم تتأذى من أكل الخبز الأبيض الذي كانوا من قبل يشتهونه ، فإذا ما رأيت أمثال هؤلاء في مسارح المجتمعات العليا رأيتهم ألمع الجميع صورة وأكثرهم انتفاخا وأعلاهم صوتا .

ومن أعجب عجائب هؤلاء أنهم نهازون للفرص ، فإذا رأوا أن التقرب إلى الوزراء ينفعهم تقربوا إلى الوزراء ، وإذا رأوا مشايعة الاحزاب تفسح لهم الطريق شايعوا الأحزاب ، وقد يشايعون اليوم حزبا من أجل مصلحتهم ثم يشايعون  غداً غيره من أجل مصلحتهم ، ولا يتكافون في هذا غير أن يقلبوا مظاهرهم كما يقلب الناس في هذه الحرب جاكتاتهم ، وهم إذ يحسون أن المرونة الخلفية تفسح لهم مجال الغني جعلوا ضمائرهم مرنة كالمطاط الأصيل . ولكنهم مع ذلك يتصفون بشيء من الغيرة أو الحسد ، فإذا لمحوا أحدا يريد أن يشق الصفوف إلى ميادينهم وقفوا له صائحين في وجهه أو دبروا له المقالب البارعة أو أثاروا عليه العواصف  الثائرة حتى يعيدوه بالخيبة والخسران ، فما ينبغي لأحد - في نظرهم - أن يدخل إلى حظيرتهم خوف أن ينزع من يدهم الملعقة الفضية التي وضعوها كباراً في أفمامهم .

حكي لي أحد المساكين أنه قد حدثته نفسه يوماً بأن يسوق إلي بعض أمثال هؤلاء السادة فكاهة ، فذهب إلي واحد منهم وقال له إنه يريد أن يستعين به على نيل وظيفة من الوظائف السمينة التي جرت عادة السادة أن يحجزوها  لأنفسهم ، فسأله السيد : "وما الذي حملك علي هذا الطلب ؟ " فقال المسكين منصفا الجد: " أقول لك بالصراحة ؟ إني أريد هذه الوظيفة لأنها سمينة وأحب أن أذوق من ذهنها " . فضحك السيد ثم نظر إليه وقال له عاطفا : " يا لك من رجل فكه" ، ثم صرفه خائبا بظرف ولباقة وهو مستمر في الضحك .

وهذان الصنفان اللذان قدمنا وصفهما هما جمهور العظماء في كل أمة وفي كل دولة تقريبا ، وليست مصر بالبلد الوحيد الذي تربع فيه أمثال هؤلاء علي أكثر كراسي السيادة فيه . فلسنا نعدم أن نجد من هؤلاء من يملأون القصور المشيدة ويفوزون بأكبر الأقساط من خيرات شركات التجارة والصناعة أو يأسمن الوظائف وأعلاها - أعني أقل الوظائف عملا وأكثرها أجرا - فنجدهم في كل وزارة وفي كل مصلحة ، فإذا أردت لهم تعريفا فهم أصحاب الرياسات الذين إذا فحصت أعمالهم لم تجد لهم أعمالا وإذا أردت أن تري آثارهم لم تجد آثارا وإذا علت الأصوات في المصلحة العامة لم تسمع لهم أصواتا ، وكل همهم أن يكونوا سادة يتصرفون ويأمرون ويظهرون السلطان ، ثم ياكلون ويشربون ويتنعمون ، ولست تستطيع أن تسمع لهم غضبة إلا إذا أرادوا أن يجذبوا إليهم الأنظار طمعا في مغنم مقبل أو خوفا على مغنم مدبر . وأما أداء الواجبات وتكليف النفس بعض العناء في سبيل خدمة عامة فلا يقوم عندهم مقاما ولا يحس في قلوبهم صماما .

ومن هؤلاء ، من " يرمون مقدما على الأقطان " والرمى  على الأقطان فن من الفنون لا يعرفه إلا المهرة الحاذقون ، وفيه صنوف من الحيل وألوان من الحركات الحقيقة الخلاية .

وأما من عدا هؤلاء من السادة فلا يزيدون على جماعة يولدون بغير معلقة فضية وينشأون بغير ملعقة فضية ثم يبقون بعد ذلك إلي يوم الوفاة بغير ملعقة فضية

فهؤلاء تعودوا في الحياة أسوأ العادات ، وتحلوا في أنفسهم بأرخص الصفات مثل الأمانة والإخلاص والوطنية . كانوا شبابا فقفزوا أيام الشباب حتي صاروا في الصبا كهولا . وكانوا في سن العشرين يديرون في رؤوسهم من المثل العليا ماضلل أحلامهم فقد كانوا مثلا يقدسون الوطنية ويهيمون  بالواجب ويخلصون في الخدمة العامة ويضحون من ذات أنفسهم وأموالهم في سبيل العمل النافع ، وبتحملون أشق الأعمال حبا للآمانة وقد بلغ من امتلائهم بهذه المعاني  الرخيصة أنهم قد أصبحوا اليوم في سوق السيادة لا يقام لهم إلا الثمن الرخيص . ومن عجيب أمرهم أنه قد تحدث

في الأحوال فلتة من الفلتات فيدعى بعضهم إلي تحمل بعض التبعات ولكنهم مع ذلك لا يعودون من تلك التبعات إلا بالهم والتعب ، فلا ينالون جزاء إلا ثقل الأحمال وعناء الأهمال فهم يجهدون أنفسهم ويحملونها أعظم المشقة حيث كان غيرهم من السادة أصحاب الملاعق الفضية يكتفون بالانتفاخ والالتهام ، ومع ذلك لست تجد منهم من فاز بقطعة من دهن أو قبضة من نضار . وياليتهم  بعد هذا يفوزون بالسلامة والعافية فان أصحاب الملاعق الفضية يأبون إلا أن يثيروا عليهم سحائب الغبار ، ولا ييمدمون أن يجدوا في مثل هذه الأيام العجيبة من يستفيد بألاعيبهم ، فالحرب والحب كما يقولون لا ينبغى فيهما التدقيق في اختيار وسائل النضال .

اشترك في نشرتنا البريدية