كنا في أيام التلمذة بالمدارس الثانوية نحب أن نشهد مباراة رياضية ظريفة اسمها (شد الحبل ) وهي لا تعتبر الآن من فنون الرياضة ، لأن الزمان قد تغير ولكل وقت أزياؤه الخاصة به في كل شئ . ومهما قيل في هذه المباراة من حيث صلاحها لان تعد نوعا من الرياضة ، فإنها بغير شك درس مفيد جدا للصغار وتنطوي علي فلسفة عميقة ويتمثل فيها سر عظيم من أسرار الحياة .
كان الفريقان يختاران اختيارا دقيقا ، وكان أنصار كل منهما يقفون حوله ويهتفون له ويصبحون له صياحا عاليا لكي يثبتوا أقدامه بتشجيعهم ، ولكن المباراة كانت لا تقيم وزنا للصياح ، بل تنتهي بفوز الفريق الأقوي المتضامن الذي يشد أفراده معا ويثبتون اقدامهم ويصبرون على بذل الجهد ويطيلون انفاسهم حتى لا يصيبهم التعب والإعياء سريعا .
وهكذا الحياة دائما ، فان الناس فيها يعيشون دائما على مبدأ ( شد الحبل ) فان المكابرة لا تغني فيها شيئا ، والذي يفوز فيها هو الرجل او الجماعة التي تحسن الشد وتتضامن فيه وتصبر على بذل المجهود .
والطبيعة نفسها لا تخادع أحدا . فاذا أراد أحد أن يضع قطعة ثقيلة من الحديد على كرسي واهي الأركان قد أكل السوس دعائمه لم تلبث ان تدكه وتخر به إلى الأرض . فالحياة في كل يوم تعلمنا أن الطبيعة تعمل دائما على مبدأ الضغط والمقاومة ، ولا يمكن ان يزيد الضغط على حقيقته ، ولا يمكن كذلك أن تزيد المقاومة علي حقيقتها .
وحبذا لو خرج شبابنا من الحياة الرياضية بمكسب واحد ، وهو ان يتعلم ان حقائق الحياة ليست سوى تجارب
للقوى المختلفة لإثبات أيها اعظم وأيها أضعف . ومن السهل علينا أن ندرك أن الحياة الاقتصادية كذلك تسير على نظرية ( شد الحبل ) فقد شهدنا في أيام الحرب أن التجار يشدون حبلهم شدا أقوي من طاقة الجمهور المستهلك ، ولهذا جرفوا ذلك الجمهور ودهدهوه ومرغوه في التراب ، وباعوا له السلع كما يريدون ، ونالوا من الأرباح ما طلب لهم أن يجنوه ، ولم يجد معهم الاسترحام ولا الاستعطاف ولا اللجوء إلي روح الوطنية ولا العاطفة الإنسانية ، والجمهور المستهلك في هذه الآيام يريد أن يرد لهم الجميل مضاعفا ، فهو الآن يشد الحبل من ناحيتة شدا عنيفا ، ولهذا بدأ التجار يلينون جانبهم ويسترحمون عواطف الجمهور ويلجأون إلي العواطف الوطنية لكي يحملوا الناس على أن يشتروا بضائعهم ، وسيأتي يوم يعود فيه التجار إلي الإعلانات وأنواع الترغيب المختلفة ويتأدبون في المعاملة ويتواضعون في الخطاب ليحملوا الناس على الشراء . ولكن الجمهور كما هو طبيعي لن يتأثر بشيء من هذا ، لأن المسألة لا تزيد على أن تكون تطبيقا لنظرية ( شد الحبل ) فالفريق الأقوى هو الذي يهدد الفريق الآخر دائما ويمرغه في التراب .
ومن الممكن بعد هذه المقدمة أن نطبق النظرية نفسها على مسائلنا العامة والسياسية والقومية ، فانه من السهل جدا على كل الناس ان يتكلموا وان يصيحوا ، ولن يتكلف أحد شيئا إذا أعلى صوته بالصياح إلا أن يبح صوته أحيانا إذا لم يرزقه الله حنجرة متينة . ومن السهل جدا على كل واحد أن يزعم للناس أنه الوطني الأول وانه هو المخلص الأعظم لمصر ، وانه احرص الناس على مصالحها واقدرهم على خدمتها هذا سهل جدا وهو في الوقت عينه لذيذ جدا
لأن الإنسان إذا زعم للناس أنه وطني عظيم وأنه مخلص كبير كان المنتظر طبعا أن يحبه الناس وان يعجبوا بوطنيته وأن يتخذوه اماما لهم . وهكذا الحال دائما في الرجل الذي يقف بين الناس وينفخ نفسه كما ينفخ الطير ريشه ويصيح
قائلا إنه أقوي الناس وأشدهم بطشا . فإن الناس كثيرا ما يخدعون بالمظاهر وينكمشون له ويتخذونه بطلا ، ولكن التجربة لا تلبث أن نظهر حقيقته ، فإذا ما وقف في حلبة المصارعة ونازله القرين القوي لم يبق محل للمكابرة ولا الصراخ ولا الاستجداء ولا البكاء ، بل كان القول الفصل دائما لمبدأ ( شد الحبل ) فالرجل الأقوي هو الذي يفوز ، كما أن الفريق الأقوي هو المنتصر دائما ، وقد وجد في مصر رجال كثيرون تصدروا في المسائل القومية وتظاهروا بكل مظاهر الإخلاص والقوة ، وكانوا في كثير من الأحيان طيبين لا يضمرون إلا كل الخير . فمثلا كان عرابي باشا بغير شك رجلا طيبا أو على الأقل هذا رأيي الشخصي فيه ، بناء على ما عرفته من سيرته وتاريخ أيامه ، وكان كذلك بغير شك رجلا مخلصا لوطنه ولا يمكن أن يداخلني ريب في ذلك ومع ذلك فقد اضطر إلي النزول إلي الميدان وطواب بالمصارعة أخيرا فماذا كان ؟ هناك تدخل مبدأ ( شد الحبل ) فلم يبق محل المكابرة ولا للصراخ ولا للادعاء ولا لاستجداء العطف ، ولا للتبرير بالاخلاص والوطنية ، فان الفريق الأقوي لا يعذر الفريق الأضعف ولا يتنازل عن دهدهته وتمريغه في التراب . ولهذا كان من الضروري لنا أن نقلل من الكلام والتظاهر بالوطنية وادعاء الاخلاص . بل إن هذا أمر من الجدير بنا أن ندعه جانبا ، لأنه قد آن لنا أن نعرف أنه لا يوجد مصري يضمر الخيانة لبلاده - وإذا وجد المصري الضعيف أو الأناني الذي يسمي إلي مصلحته الشخصية ، فهذا لا يمكن أن يخدع الناس طويلا ، ومن السهل أن يكشف المصريون أمره .
وأما سائر المصريين فانهم بغير شك مخلصون لوطنهم ، فلا محل لأن يصيح قوم لكي يظهروا أنهم أكثر إخلاصا . وواجبنا ان ننظر إلى الأمور بعين بصيرة يحكم فيها الذكاء وتدرك بها الحقائق ، بغير ان نسمح لأنفسنا بأن يجرفنا خداع النفس إلي مواقف لا تنتج لنا إلا الضرر فلنفرض
أننا جميعا فريق واحد نريد ان ننزل إلي مباراة ( شد الحبل ) ولنثبت أقدامنا معا ولتكن صيحتنا ( شد !) في وقت واحد وفي نفس واحد . وعند ذلك فقط يمكن ان نطمئن إلى الفوز - هذا لا جدال فيه لان قضيتنا عادلة ، والشد من جهتنا لا يكون إلا بإظهار حجتنا القوية وحسن نيتنا وادراك حقيقة مصالحنا . فإذا نحن فعلنا ذلك وفزنا كان بها ، وإلا عدنا إلي الحبل فاعتصمنا به واخذنا نجذب مرة أخري بثبات وذكاء وصبر حتى نفوز أخيرا .
لست أشك في فوزنا في النهاية لأننا شعب جدير بالحياة . فنحن نستطيع أن نتعاون مع الإنسانية تعاونا صحيحا قويا ، ونحن شعب قديم لنا مدنية راقية ، ونحن شعب فيه كل عناصر الذكاء الذي يمكننا من الانتاج في كل نواحيه وبلوغ المرتبة العليا من العلم . وإن شعبا مثل هذا لا بد له أن يفوز أخيرا إذا عرف كيف يأخذ بمبدأ ( شد الحبل ) . وأما هذا الذي نتجه إليه من مجرد التسابق في التظاهر والمزايدة في ادعاء ، الإخلاص فإنه لا يفيدنا إلا شيئا واحدا ، وهو ان تحمر وجوهنا اليوم من الحماسة وتحمر غدا من الخجل
