مولاتي
إليك أقدم نجوى القلب وحنين الروح، ثم أعتذر عنك إن سمحت، ففي رسالتك الكريمة ألفاظ تحتاج إلى اعتذار، فليس من الصحيح أني أصانع فلاناً وأتوسل إلى فلان، كما تتوهمين، وإنما أنا رجل مر العداوة حلو الوداد، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يوغل في مخاشنة أعدائه حتى يوصم بالإفراط في القسوة والعنف، وأن يكثر من محاسنه أصدقائه حتى يتهم بالإسراف في الرفق واللين
ومع أني أنزه نفسي عن اختلاف المعايب لأعدائي فأنا أترفق في ابتداع المحاسن لأصدقائي، ولست من الذين يستبيحون إيذاء أصدقائهم باسم الحرص على منفعة المجتمع أو الصوالح القومية لأن الصداقة عندي مبدأ من المبادئ ورأي من الآراء وعقيدة من العقائد، وأنا أعد الاستهانة بحقوق الأصدقاء جريمة روحية تعرض القلب لعقاب الله ذي العزة والجبروت
أنا يا مولاتي أومن بأني مسئول أمام الله عن واجب التلطف مع أصدقائي، بل أنا مسئول عن وجوب الاعتقاد بأنهم منزهون عن المآثم والعيوب، فاحترسي من اتهامي بالتقرب والتزلف، فلله غَضَبات تنصبُّ على رءوس من يتهمون الأبرياء، حماك الله من التعرض لغضبات السماء!
وقد يقع أن أصوب سنان القلم إلى زميل أو صديق، ثم أظل مع ذلك سليم القلب، أمين الروح، لأن لي رأياً في البر بأصدقائي، وذلك الرأي يحتم الاهتمام بآثارهم الأدبية والعقلية من حين إلى حين، لأني أومن بأن النقد البريء من الغرض صورة جميلة من صور العطف والرفق والإعزاز، وأصدقائي يرون في هذا المسلك ما أراه، إلا أن ينحرفوا عن القصد فيروه من مذاهب الاستطالة والكبرياء، كالذي وقع من فلان وفلان وفلان. على أيامي في صحبتهم ومودتهم سلام الروح وتحية الفؤاد! أما بعد فما هذا الذي تقولين؟
كنت مريضة منذ شهور طوال؟؟؟
لله الحمد وعليه الثناء، فما كان المرض أهول ما أخاف، وإنما كنت أخاف عليك بغي وعدوان العقوق!
كان قلبي في تلك الشهور يهتف بالشوق إلى الروح اللطيف الذي كان يتصدق على بالسؤال من وقت إلى وقت، ثم انقطع عني مع قدوم الصيف، كأن لم يكف ما حل بنا من المخاوف مع قدوم الصيف! كان قلبي يقول ويقول ويقول، لقد قال كل شيء، ولم يقل إنك مريضة، ولو أنه قال لقدمته فداء لأظرف فتاة فهمت أسرار قلبي وسرائر روحي
كنت يا مولاتي أرجو دائماً أن أصل من الهتاف بالحب إلى محصول نفيس من فهم ما في الوجود من تيارات خفية تصنع ما تصنع في وصل القلوب بالقلوب، والأرواح بالأرواح، بلا جهد ولا مشقة ولا عناء
فهل أستطيع القول بأن قلبك الغالي كان من نفائس ذلك المحصول؟
وأعيذك أن تظني - وبعض الظن حق - أني أستهدي لمحة جديدة من لمحات العطف، فأنا راض بأن تظلي محجوبة عني، مادام لك هوى في ذلك الحجاب، فهو على كل حال فرصة ثمينة لمن يزدهيها أن تقول: أتحداك أن تعرف من هي (ليلى من الليالي) وأنا يا مولاتي أعرف، فلقلبي أرصاد وعيون يطلع بها على الذخائر التي تفرد بها وطني، الوطن العظيم الذي ينجب عرائس لها أرواح في مثل روحك العذب الجميل
وهل خفي عني منك شيء؟ في كل لفظة من رسائلك الكريمة عروس تتخطر وتميس في دلال وكبرياء، وفي كل نبرة من صوتك الرنان - ولم أسمعه إلا عن طريق التليفون - في كل نبرة من صوتك لحن ينقل قلبي برفق ولطف إلى أجواز الخلود
فإن كنت فتاة حقيقية، فأنت البشير بأمل معسول، وإن كنت فتاة خيالية، فأنت المطلع الجميل لأنشودة رائعة من وحي الخيال. . .
ولي غرض من هذا التشكيك، فما أحب أن تكوني أنت أنت، لئلا يعرف السفهاء باب التطاول على نجم السماء
إن الغرض الأصيل من نجوانا هو خلق روح جديد في الأدب الحديث، ولابد من أن نقول مثل هذا القول دفعاً
في بحثه على ضوء الشعر الغربي والحوادث الغربية فيرى الحروب لا تشحذ ملكة الشعر جعلت استضئ بالشعر العربي والحروب العربية فرأيت الحرب كانت لدى العرب من افعل مثيرات الشعر كما يقولون : الشعر يوحيه الحب والحرب والموت
لقد هاجت الحروب شعراء العرب فقالوا فى التحريض على القتال ، ووصف المجامع ، والسير والإقدام فيها ، والجبن والفرار ، والنوح على القتلى ، والتغنى بالانتصار ووصفوا الخيل والسلاح ، وأكثروا في كل ذلك وأتوا بالعجيب
واننا لو نظرنا فيما بين أيدينا من شعر العصر الجاهل لوحدنا نحو نصفه مقولا فى الحروب وما يتعلق بها ، وكان كثير من الشعراء يستوحون الحرب كتر ما ينشذون مثل عنوة الفوارض وعمرو بن معد يكرب
وقد اختار ابو تمام مجموعة من شعر العرب فكان نصيب الحروب منها اكثر من الثلث ، على تنوع الأغراض الأخرى ، وسماها ( الحماسة ) تغليبا للشعر الحماسي
وقد اطرد قول الشعراء في الحروب ، في العصور الإسلامية المختلفة ، فكان الشعراء يصفون المعارك الحربية فى صدة مديحهم للخلفاء والا مراء ويشيدون بشجاعتهم وبلائهم فيها . وقد صحب الثورات والأنقلابات في الدول الإسلامية قيام كثير من الشعراء مناصرين ومعارضين ، وهذا ابن هاني الا ندلسي - مثلا - يجد متصفح ديوانه اغلب قصائده فى مديح الفاطميين ووصف حروبهم وشجاعتهم .
وقد كان من كل ذلك نتاج شعري عظيم تزخر به كتب الأدب العربي ومن احسن ما قيل في وصف الحروب قول عمرو ابن معد يكرب :
الحرب أول ما تكون فتية تسي بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب ضرامها عادت عجوزا غير ذات حليل
جزت رأسها وتنكرت مكروهة الشم والثقبيل
ألا ليت شعري ، ألم يشعر جبابرة الحرب الحاضرة الذين يحيلون خيرات العالم إلى حم - أن الحرب قد صارت عجوزا شمطاء لا تطاق عشرتها . . ؟ وللأستاذ العقاد نحيي وإكبارى

