انشأت الحكومة المصرية وزارة جديدة للشئون القروية بقصد النهوض بالريف المصري من الناحيتين العمرانية والاقتصادية . وقد روعي في اختيار الوزير القائم على تلك الوزارة الجديدة أن يتحلى فوق الميزات الفكرية والعلمية بالشباب حتى يتمكن من الاضطلاع في حماسة الشباب وفتوته بهذه المهمة الضخمة الملقاة على عاتقه .
وقد جابهه العمل الشاق المضنى منذ جلس إلى مكتبه للمرة الأولى ؛ فمن اختيار المصالح الحكومية التي يدخل عملها في اختصاص وزارته ، ومن إنشاء مصالح جديدة يستكمل بها الوزير أدائه الوزارية ، ومن النظر في وسائل النهوض بالريف المصري ووضع خطوطها العملية الرئيسية .
وقد اكتظ مكتبه بسيل من البحوث التي تقدم بها المعنيون بمشاكل الفلاح . ولم يضن على الوزير واحد منهم ، فيما أعلم ، برأي يراه محققا لأهداف الوزارة الجديدة . فتشعبت المسالك أمام الوزير حتى لم يعد من السهل أن يختار من بينها المسلك الأمثل .
ونحن لن نسوق هنا بحثا في وسائل إصلاح قرانا . خشية أن نكرر ما سبق إليه غيرنا ، أو أن نزيد مكتب الوزير ازدحاماً بالمقترحات . ولكننا سنتحدث عن مسألة فرعية بسيطة نعتقد أنها جديرة بالالتفات برغم ضيق وقت الوزير وثقل أعبائه . وليس إصرارنا على التحدث عنها وسط زحام الأحاديث عن إصلاح القرية إلا لإيماننا بأهميتها البالغة . وهي مع ذلك سهلة البحث ، سهلة التحقيق . فوق ما يسفر عنه تحقيقها من منافع جلي . . إنها مسألة إنارة القري .
ليس بين المشروعات العديدة الخاصة برفع مستوي الحياة القروية مشروع واحد لا يحتاج تنفيذه إلى مال وفير وجهد جهيد ووقت طويل . فإنشاء القرى الجديدة وتزويدها بالمياه الصالحة للشرب ، وتدريب أهلها على
الصناعات الريفية ، وإقامة المؤسسات الصحية والثقافية التي تكفل حياة اجتماعية مريحة راقية . . هذه الوسائل الإصلاحية وما يماثلها تحتاج إلى أموال لا قبل لميزانية الدولة ببذلها دفعة واحدة ، وتحتاج إلى عدد كبير من ذوي الخبرة غير متوفر . ولذلك كان لا بد من تجزئة تنفيذها على سنوات عديدة . ولا شك أن وزارة الشئون القروية لن تتواني عن الشروع في تنفيذها الآن . ولاشك كذلك أنها ستجد التأييد والمؤازرة لدى كل وطني مخلص قادر على التأييد والمؤازرة . ولكن الذي نرجوه ألا يوضع مشروع إنارة القري في ذيل قائمة الإصلاح . فهو لايحتاج إلى ما تحتاج إليه للشروعات الأخرى من خبراء غير متوفرين ، ومال غير ميسور ، وزمن نريد أن نسبقه .
إذا نفذ الوزير هذا المشروع فهو يستطيع أن يقول مباهياً إنه أنار الريف المصري الذي لم ير النور قبله . نعم يستطيع أن يباهي بأنه نشر النور في القري المصرية فتلألأت بعد أن ظلت غارقة في الظلام الدامس منذ الأزل . وهو إذا أضاءها فإنه لن يضئ شوارعها ومحالها العامة فحسب ، ولكنه سيضئ بصائر قطانها ، ويغير عقلياتهم ، ويفتح لهم ميادين جديدة للعمل والرياضة ، وآفاقا جديدة للفهم والإدراك .
إن الذي يقرأ عن أول عهد الولايات المتحدة بالإضاءة الكهربائية ، ثم انتشار النور منها إلى بقية بلاد أمريكا وأوريا ، يستطيع أن يدرك اهتمام الشعوب على اختلاف أنواعها ودرجة ثقافتها بتلك التحفة العلمية السهلة التناول ، الضخمة الفائدة . لقد انتظر أهل نيويورك جميعاً نتيجة أول تجربة للاضاءة الكهربائية . انتظروا في شارع المدينة الرئيسى ساعات طويلة ، محتملين لفح البرد القارس وهم يتطلعون إلى بضع ثريات معلقة في أعمدة منصوبة ليروا النور منبعثاً لأول مرة في التاريخ بتلك الطريقة العلمية
التي تشبه السحر . وما انتشر النور اللامع في الشارع حتى هللوا وأبوا أن ينصرفوا إلى دورهم حتى أطفأ نور الصباح نورهم الصناعي .
وجاء أهل قرية قريبة ليشاهدوا معجزة العلم . وأخذوا يسألون عن سرها ، فما وقفوا عليه وتبينوا بساطته حتى اشتروا آلة الإنارة والأسلاك والثريات ، وعادوا إلى قريتهم فاناروا شارعها الرئيسي ، والمقهي الذي يجتمعون فيه مساء وطفقت القري الآخر تحذو حذوهم حتى عمت الإضاءة الكهربائية ريفهم ، ومن ثم عمته الحضارة ؛ ولا يقال إن النور الكهربائي انتشر هناك بسهولة لان قطان تلك البلاد كانوا على درجة من الثقافة حفزتهم إلى السعي للاستفادة من ذلك الكشف العلمي فإن الضوء الصناعي المتلألئ يبهر الناس جميعا على اختلاف ثقافتهم ، ولا يحتاج الأمر إلا إلى توجيه يسير حتى يتنافس أهل قرانا في إضاءة بلادهم بالكهرباء .
قد يعترض معترض بأنه من المتناقضات أن تضاء بيوت الطين المشيدة على طراز ما قبل التاريخ ، بالكهرباء وهي من أحدث المخترعات . وبقترح لذلك إرجاء إنارة القري حتى تبنى دورها الجديدة التي ستشيد على الطراز الحديث . وان يعوزنا الرد على ذلك ، فنحن لا نقترح إنارة القرى الحالية بالكهرباء . ولكننا نقنع بمطالبة وزير الشئون القروية أن يقصر الإنارة اليوم على شارع القرية الرئيسي ، وحانوتها الذي يسهر حوله السهار ، ومقهاها إذا كان لها مقهي . ومركزها الاجتماعي ، ومدرستها الإلزامية .
يمكن البدء فوراً بتنفيذ إنارة القري علي صورة غير دقيقة التنظيم ، وترك التجويد والإتقان للزمن . فإننا نعلم أن زمام كل قرية لا يخلو من آلات بخارية للري والحرث يملكها اغنياء الريف ، وليس أسهل على المجلس القروي من استئجار آلة من تلك الآلات لمدة أربع ساعات من كل يوم تبدأ بعد الغروب ، ثم لا يبقى بعد ذلك إلا أن يشتري المولد الكهربائي والأسلاك والنثريات وهي أدوات زهيدة الثمن ، ميسورة الاقتناء ، فإذا المشروع قد استكمل أسباب التنفيذ ؟ ولعل دعوة من الوزير إلى أغنياء الريف نوضح أهمية مشروع الإضاءة الكهربائية كفيلة بأن تحفزهم إلى التنازل
عن قيمة إيجار آلاتهم مدة الساعات الأربع المطلوبة . بل قد تكون كفيلة ايضا بأن تحثهم على التبرع بثمن المولد الكهربائي والأسلاك والنثريات . أما مصروفات الإضاءة فلا تزيد كل ليلة بحال عن نصف لتر من الزيت وصفيحة من الكيروسين يمكن تحصيل ثمنها من المقهى والحانوت وسائر المحال التي ستفيد من الإضاءة .
ولا يقال عن هذا المشروع ما اعتاد الناس قوله من أن المشروعات كثيرة ، ولكن تنفيذها عسير . فإنه سهل التنفيذ كما رأينا لسببين : أولهما أن نفقاته زهيدة إذ قيست إلى نفقات غيرها من المشروعات ، وثانيهما انه باهر مشوق ، يسترعي النظر إليه ، ويغري الناس بالإقبال عليه ، وإني لزعيم أن خطوة واحدة تخطوها وزارة الشئون القروية في سبيل تنفيذه حرية بأن تدفع أهل القرى جميعا إلى إتمام ما بدأنه .
أما إذا أرادت الوزارة أن تنفذ هذا المشروع على أساس وطيد منظم ، فإن كل قرية تحتاج إلى حوالى ألف وخمسمائة جنيه لشراء " ماكينة " ثابتة ، وإقامتها على بئر ارتوازي ، وتزويدها بمولد كهربائي وحجري رحي لتقوم علاوة على إنارة القرية ليلا ، يري أراضي الأهالي وإطفاء " الشراقى " وطحن الحبوب ، وتفتيت الفول والعدس ، وتنقية القمح ، وغير ذلك من الفوائد التى يمكن أن تجني من وراء تلك " الماكينة " ومن الميسور أن يسدد المجلس القروي ثمنها مما يحصله أجرا لتلك الأعمال في مدة لا تتجاوز خمس سنوات ؛ ويتبين من ذلك أن هذا المشروع كفيل بتسديد تكاليفه كافة في مدة وجيزة لا يلبث أن يدر بعدها ربحاً مادياً للمجلس القروي ، علاوة على تحقيق الغرض الأصلي منه وهو إنارة القرية .
ولا يحسبن القارئ أن أهل الريف ان يفيدوا من الإضاءة الكهربائية إلا المتعة والرفاهية ، فإن مشروعات كثيرة يتعذر تنفيذها في الريف قبل إنارته بالكهرباء . ويكفي أن نذكر من تلك المشروعات مشروع إنشاء دور للسينما والمسرح في القري بقصد التعليم والتثقيف . ومشروع مكافحة الأمية بتعليم الكبار نساء ورجالا في المدارس الإلزامية مساء بعد انصراف تلاميذها الأصليين ، وإنشاء الصناعات الريفية ؛ وتشييد المصحات والمستشفيات ، ونشر المذياع ( الراديو ) الذي أصبح من أهم عوامل التهذيب
والتثقيف في الوقت الحاضر . هذا إلى أن دخول الكهرباء الريف لابد أن يسفر عن خطوات أخرى يخطوها الريفيون في سبيل التقدم .
ونحن لا ندعي أننا ألمنا بجميع الفوائد التي تعود على الريف من مشروع إضاءته كهربائيا . فإن المتأمل يستكشف فوائد بعد فوائد كلما أمعن في تأمله . أما نتائج هذا المشروع غير المباشرة فلا يلم بها التفكير ، ولا يدركها الحصر . ويكفي أن نذكر في هذا المجال أن إضاءة الريف الأوربي والأمريكي
كانت أهم عامل من عوامل رقيه . إذا وفق وزير الشئون القروية إلى إضاءة الريف بالكهرباء فإنه سيهدي للريفيين كل يوم أربع ساعات مضيئة متلالئة بقضونها في تحصيل العلم ، أو في العمل المنتج المجدي . أو في الرياضة أو الفسحة والترفيه عن النفس بعد أن كانوا يقضونها في ذهول أو في سبات عميق . . إنها لأنفس هدية إلى أولئك الذين ظلوا آماداً سحيقة غارفين في الظلام ؟
