أعلنت الدول العربية الحرب على المانيا واليابان ولهذا ينبغي أن نلفت انظارها نحو الشرق وبالأخص نحو تلك المجموعة العظيمة من الجزائر التي تربطها بسائر الدول العربية رابطة روحية قوية ألا وهي العقيدة الإسلامية الحنيفة ، ولئن كان بعض الناس ينكرون أثر هذه الروابط الدينية فإن الساسة الأكفاء الذين لا يتقيدون بميولهم الشخصية والذين ينظرون إلى الأغلبية قبل الأقلية لا يستطيعون أن يغفلوا هذه الروابط الروحية الدينية ولا بد من أن يأخذوا لآثارها في تكييف الحوادث حسابا وإن الناظر إلي خريطة العالم يري أهمية موقع تلك المجموعة من الجزائر من ناحية المواصلات الدولية بحرية كانت أو جوية ، إذ أنها تقع بين قارة آسيا وقارة استراليا وبين المحيط الهادي والمحيط الهندي ، وقد أطلق عليها منذ ما يقرب من قرن واحد اسم إندونسيا وهي تتكون من جزائر كثيرة أهمها سومطرة وجاوه وبورنبو وشبه جزيرة الملايو وسيليس وغينة الجديدة وجزائر اللوكو وجزيرة تيمور وبالي وغيرها . وتبلغ مساحتها ٢٥٠٠٠١٣ ك . م أي أربع مرات ونصف مساحة فرنسا . ويبلغ عدد سكانها ٧٥ مليون نسمة ، خمسة وثمانون في المائة منهم أي حوالي ٦٤ مليونا مسلمون ، فهي تؤوي ربع مسلمي العالم تقريبا . وباقي السكان يعتنقون ديانات مختلفة ، منها المسيحية والبوذية والكومنوشيوسية
ونظرا لاتساع مساحة إندونسيا ولكثرة المواد الأولية فيها ولخصب أراضيها ولوفرة الأيدي العاملة فيها ولكثرة سكانها ، وبالتالي اتساع الأسواق فيها للمحاصيل الصناعية فلا عجب أن كانت هي من زمن بعيد ولا تزال حتى اليوم قبلة أنظار البلاد الصناعية الاستعمارية .
وهؤلاء المستعمرون يحاولون دائما أن تبقى إندونسيا بلادا زراعية بحتة وأن تكون دائما أسواقا خارجية واسعة رائجة لمصنوعاتهم ، ويسعون بشتي الوسائل ان تنحصر جهود الأهالي في الاستغلال الزراعي وفي استخراج تلك المعادن الكامنة في باطن أراضيهم فقط ، ويخشون أن تنصرف جهود هؤلاء الأهالي إلى الصناعة والتجارة لأن الاشتغال بالتجارة والصناعة كما أثبته التاريخ ينير أذهان الناس ويظهر لهم حقوقهم الاجتماعية والسياسية
حالة إندونسيا الاقتصادية :
في الواقع يؤلمني أن أصارح القارئ بأن حالة الأندونسيين الاقتصادية كانت سيئة جدا رغم كثرة خيرات بلادهم وغني مواردهم الطبيعية ، وما ذلك إلا لسوء النظم الاقتصادية السائدة في تلك البلاد بعد دخولها تحت عبودية الاستعمار التي تغلغلت فيها منذ ثلاثة قرون .
على سبيل المثال اذكر الآن واحدا من تلك النظم الاقتصادية الفاسدة ، أو بالتعبير الأصح اذكر مظهرا من مظاهر تلك النظم ، وهو ان الدخل الأعلى اي دخل المجتمع طبعا يتوزع على كل عنصر من وسائل الإنتاج وهي : رأس المال والطبيعة أو الأرض والتنظيم والعمل . فقائدة رؤوس الأموال او الربح يذهب إلى أصحاب المنشآت الصناعية والتجارية ومعظمها شركات أجنبية .
أي أن الربح يدخل في جيوب أصحاب رؤوس الأموال وحاملي أسهم تلك الشركات الكثيرة . وربع الأراضي الزراعية الواسعة وإيجارها وكذلك إيجار المباني والعمارات يقبضه أصحابها ، وهم كبار أصحاب الأملاك الأجانب ، وهؤلاء أيضا الذين يقبضون المرتبات والماهيات الضخمة لان تنظيم تلك المنشئات الصناعية والتجارية والزراعية وكذلك إدارتها كانت في أيديهم .
أما الأهالي والسكان الأصليون فبعد أن كانوا أصحاب
الأملاك وسادة البلاد تغلب عليهم الأجانب والمستعمرون وأصبحوا لا يملكون إلا العمل فقط ، هم الذين يعملون ويشتغلون عمالا في المتاجر والمصانع والمزارع ، فليس لهم من الدخل إلا الأجور فقط ، أي أن نصيب الأهالي من دخل المجتمع ليس إلا ربعه فقط مع أن عدد السكان الأصليين أضعاف أضعاف عدد الأجانب ، وزيادة على ذلك فانهم تحت ضغط الجوع أو الفقر السابق مضطرون أن يشتغلوا بأعمال شاقة في مدة طويلة بأجور منخفضة ، وإذا كانوا من صغار الملاك وهم كثيرون يضطرون إلى بيع محصولاتهم بأثمان زهيدة تبعا للخطة الموضوعة من الشركات التجارية الضخمة التابعة للأجانب ، وهذه الشركات التجارية والصناعية والزراعية كثيرا ما يتحد بعضها ببعض على شكل نقابات الانتاج cartels ( أو الشركات الموحدة Trunts ، وتستطيع أن تتحكم في السوق وتحدد الأسعار والأجور على ما تشاء ، ومن هنا ينشأ فقر هؤلاء السكان الأصليين .
وكل هذه الشركات تعتمد على الحكومة في تنفيذ تصرفاتها وبرنامجها ، كما ان الحكومة نفسها تعتمد عليها ايضا في تدعيم سلطتها وسياستها ، ومن هنا نكتشف سر استطاعة هولندة - وهي أمة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها ثمانية ملايين نسمة - في أن تحكم أمة كبيرة أكبر منها بسبع مرات
ونلاحظ أيضا أنه كلما اشتد هذا الفقر في وسط عامة الشعب كان متفقا مع مصلحة أرباب الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال فيها ، وذلك لأن الفقر بلا شك سبب من أسباب هبوط مستوي المعيشة ، وبالتالي يؤدي إلى قلة نفقات المعيشة ، وهذا الأخير يؤدي إلى انخفاض معدل الأجور ، ومتى انخفض معدل الأجور تقل تكاليف الإنتاج وتزيد الأرباح التي ترجع إلى خزانة تلك الشركات الكثيرة ، لذلك رأينا ان الحكومة وتلك الشركات بذلت كل منهما
جهودها في جعل نفقة معيشة الأهالي أدنى ما يمكن لكي تصبح نفقات الإنتاج ومصاريف الحكومة التي تنفقها على مصلحة الأهالي أقل ما يمكن
هذه هي خلاصة حالة إندونسيا الاقتصادية قبل هذه الحرب وأعتقد أن حالة إندونسيا في جميع نواحي الحياة وبالأخص حالتها الاقتصادية هذه لا يمكن أن تتحسن إلا بعد الاستقلال التام وبعد تخلص الإندونسيين من تلك القيود الثقيلة التى تغل أيديهم ، واتخيل أن إندونسيا بعد تخلصها من عبودية الاستعمار ستنهض نهضة سريعة نظرا لكثرة ثروتها ولوفرة مواردها الطبيعية ولحسن موقعها الجغرافي ولتوافر عوامل الانتاج فيها فالوقود والمواد الأولية متوافرة والأيدي العاملة كثيرة رخيصة
وربما يتساءل سيدي القارئ : " كيف يتيسر للأندونسيين أن يسيروا شؤونهم الاقتصادية ؟ وكيف يستطيعون استقلال منابع ثروتهم إذا خرجت من بلادهم رؤوس الأموال الأجنبية ؟
قد يبدو لنا لأول وهلة أن هذه المسألة مشكلة كبيرة ولكننا إذا أنعمنا النظر في حقيقة رؤوس الأموال نجد أنها ما هى إلا وليدة تعاون أفراد الشعب ، أو نتيجة مساهمة الأهالي في كل مشروع من مشرعاتهم زراعية كانت أو صناعية او تجارية ، وبما أن الأندونسيين كما يظهر من معاملتهم وحياتهم أنهم متعودون على هذا التعاون فيما بينهم وعلى النظام في أعمالهم وتصرفاتهم ، فانه من السهل جدا تكوين رؤوس الأموال التي تحتاج إليها البلاد
وبهذا البيان الموجز تتضح لسيدي القارئ حكمة تمسك زعماء الإندونسيين في سياستهم بعدم مفاوضة الحكومة إلا بعد الجلاء وعدم قبول أي منصب في الحكم إلا بعد الإستقلال التام .
( للكلام بقية )
