( مهداة إلى الاستاذ الزيات مترجم "آلام فرتر")
في ليلة من ليالي هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر، أيام الوداع والرجاء، وداع عام مضى ورجاء عام جديد، جلس إنسان وحده في حجرة باردة، طقسها بارد ولكنها حارة الذكريات
إنسان وحيد جلس يكتب فلم يستطع، ما يحسه في قلبه لا يستطيع أن يكتبه، وما يكتبه يجده بعيدا غريبا عما في قلبه وصدره. ما يكتبه يجده بارداّ كصورة الصورة الحريق واللهب والبركان على قطعة من الشمع الملون، وفي شعر هندي يقال: (مات المعنى الحى حين احتواه اللفظ. ينطق اللسان فضلة ما في القلب)
إنه يجلس إلى الراديو يدير مفتاحه، ينتقل به من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، فلا يسمع إلا الرقص والغناء والموسيقى. الأحاديث لا يسمعها، يمر عليها في مفتاح الراديو، كما يمر الشهاب في السحاب
الدنيا كلها تغني وسط هذه المذبحة البشرية، والناس كلهم يرقصون على دقات الجاز الصاخب وعلى أنغام الفالس الهادىء الناعم كأحلام الصفاء في آخر الليل، وبعض الناس في هدوئهم وسمت وقارهم وصفاء قلوبهم ينشدون ويرتلون. أولئك هم المتوجهون إلى الله في السماء
أيها الصاخبون الراقصون على الجاز والفالس، خذوني معكم أنا إنسان وحيد غريب في هذه الدنيا. إنسان يريد أن يعيش وأن يعرف الحياة وأن ينطلق بعد حبس طويل. يريد أن يفرح ويقفز ويبتهج كما تفعلون. ثم يلقي جسمه المنهوك في الفراش بعد المرح الطويل فينام وقد حل في قلبه السلام
أيها المؤمنون الخاشعون المرتلون المتوجهون إلى الله في السماء , خذوني معكم. أنا إنسان يريد أن يهدأ وأن يعيش وأن يهب قلبه الصفاء والنقاء بعد سواد طويل، يريد أن يتوجه إلى أن يتأمل ويصلي،
قد انصرفت عنه دنياه ويئس منها، يحبها ويريدها ولكنها لا تريده. قد أشقاه إدبارها ولم تقبل عليه مرة، فهو يريد أن يعلو عليها يأساً منها، وأن يتوجه إلى ربه مثلكم يرتًل ويتأمل ويصلي ويتبتل حتى ينهك جسمه كما أنهك الرقص جسوم الراقصين فينام وقد حل في قلبه السلام
إنه يسير في الطرقات ويركب ما يركب الناس، فيجد الشاب والفتاة والعجوز والصبي كلً قد أمسك هدية لمن يحب قربان حبه، الورود والأزاهير يحملونها يضمونها إلى صدورهم ضمة العشق
ويرى الناس قد أذهلهم الشقاء واستولى عليهم جهد العيش فلا يتحدثون ولا يفكرون إلا فيما يأكلون ويكتسون، ليس لهم حبيب ولا يريدونه، وليست لهم زهور ولا قرابين ولا يريدونها
أيها العاشقون السعداء يحملون الهدايا، خذوني معكم أنا إنسان وحيد يريد أن يهدي إلى من أحب شيئا، يهدي إليه قلبه وحنانه وحبه وحاضره كله ومستقبله كله
بلى. لقد أهدى إلى من أحب هذا كله وفوق هذا كله، ولكن من أحب لم يقبل منه ما أهدى، وطرد الرسول والمرسل وانصرف عنه كما انصرفت عنه دنياه ويئس منه. . . من حبيبه. إنه يحبه ويريده ولكنه لا يريده
قلبه وحنانه وحبه وحاضره كله ومستقبله كله، لا يريده. وفوق هذا كله لا يريده أيها الحاملون الهدايا والأزاهير إلى عشاقكم ومحبيكم وأزواجكم، خذوني معكم
إني أريد أن أكون واحداّ منكم فأقدم إلى حبيبي خيرا مما تقدمون. . . مع قلبي وحناني وحبي، فإذا رضي عن هديتي وتقبًل قرباني ملأ قلبي الفرح وشمخ رأسي فوق كل رأس، وأتعبني حمل السعادة فأنام وقد حل في قلبي السلام
أيها الأشقياء الناعسون خذوني معكم أنا إنسان وحيد أريد أن ابتئس وأن أشقى حتى أذهل، وحتى يموت في قلبي الرجاء من كل شيء والأمل في كل شيء، وأن يستولي علًي جهد العيش والفكر فيما آكل وما أكتسي
حتى يرهق جسمي الفكر والجهد فأنام وقد حل في قلبي السلام
رأيتكم من قبل في كثير من مثل هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر، أيام الوداع والرجاء
رأيتكم من قبل أيها الراقصون والمرتلون والعاشقون والذاهلون بالشقاء فلم أطلب أن أكون منكم. لأني كنت أوقن أني سأكون خيراً منكم عندما تقبل علي دنياي
دنياي كانت أخي الغائب حتى يعود، والقلب الذي رجوته واصطفيته وأحببته وارتقبته، وصبرت على ما لم يصبر له الصابرون حتى يكون معي، حتى يكون لي وحدي
وكنت في سنوات كثيرة أجلس في هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر أسمع وأرى مواكب حياتكم أيها السعداء فأبتسم، ستقبل دنياي وأغدو خيراّ منكم يوم يعود لي أخي البعيد، ويوم يكون القلب الحبيب لي وحدي
ثم جاءت الأيام الأخيرة من ختام هذا العام، فإذا الأخ البعيد لم يعد، ولن يعود، وإذا القلب الحبيب قد رد علي- مطرودا - قلبي وحناني وحبي، واختار أن يكون لغيري، له وحده، وإني أحبه وما كرهته
في هذا العام أجلس وحدي في غرفة باردة، طقسها بارد لكنها حارة الذكريات، أسمع وأرى مواكبكم أيها السعداء، ولكني لا أبتسم. لن أكون في يوم ما خيراً منكم ولا واحد منكم إن أخي لن يعود، والقلب الحبيب لن يعود، فلن تعود لي دنياي، وما كانت دنياي لي حتى تعود
إنسان وحيد في العيد كان يسير في ركب الحياة معه أخوه وحبيبه. . . زوجه. . . لا يريد غيرهما ولا يرجو، فسقط أخوه والركب يسير. فتخلف يقضي حقه يواريه ويبكيه، وقلبه يتوجه إلى حبيبه الذي بقى يرجوه لا سواء يتوجه إليه بالرجاء والعزاء، يريده وحده لا يريد غيره ولا يرجو
وماذا يهمني من الركب وليس لي فيه. . .؟ إنه- القلب الذي أحببته- معي. وأنا به مع الركب وأمامه أسبقه وأعلو عليه. ونحن وحدنا القافلة والركب والحياة والدنيا لنا أنا- معه- غني عن جميع الناس إنني به غني عن العالمين
فلما أفاق وقضى لأخيه بعض حقه تلفت فإذا الحبيب الذي كان بقي. ما بقي. . .! سلك بنفسه في زحمة الحياة وخلف القلب الوحيد لا رجاء ولا عزاء. وشق الطريق لذاته لم يلتفت. الركب بعيد، وهو منه منفرد وحيد. ما بقيت به قوة. ليس حوله سوى الظلام والوحشة والأحزان وذئاب الطريق. وفي قلبه الحسرات الباقيات ولا أحد معه
أيها السعداء الذين أرى مواكبهم وأسمع رقصهم على الجاز الصاخب والفالس الهادىء الناعم كأحلام آخر الليل، والذين يقضون هذه الأيام الأخيرة من العام. أيام الوداع والرجاء، ثم ينامون وفي قلوبهم السلام.
خذوني معكم. . .

