في ميادين الاستعمار والتوسع الخارجي ، دخلت كل من المانيا وإيطاليا متأخرتين ، فإن كليهما لم يستكمل تكوينه السياسي إلا في النصف الأخير من القرن الماضي ؛ ولكن المانيا تكونت على اثر انتصار ساحق هزمت فيه دولة من أكبر دول أوربا ؛ وكان لها من قبل ماض مجيد في الحرب والسياسة ، بفضل ما كان لمملكة بروسيا من من القوة الحربية والاقتصادية . ولهذا فإن ألمانيا فازت في الميدان الاستعماري بممتلكات واسعة في غرب إفريقية وشرقها ، وفي المحيط الهادي .
أما إيطاليا فكانت مجرد تعبير جغرافي عن إقليم من الأقاليم ، ينقصه الوجود السياسي بجميع مظاهره ، إلي أن أتيح لها أن تتكون وأن تتحد ما بين عام ١٨٦٠ و ١٨٧٠ . ولم تكد المملكة الإيطالية تظهر في الوجود حتي أخذت تطمح إلي أن تصبح في عداد الدول الكبرى .
وان تكون لها ممتلكات ومستعمرات . ولم تلبث أن أخذت تبذل جهودا عنيفة لكي تستولي على أقطار جديدة . وبدأت ترسم الخطة لسياسة استعمارية واسعة النطاق . كل هذا وايطاليا بعد في حاجة لأن تقوي وحدتها ، وأن يكون لها اسطول تجاري وحربي ، وجيش قوي ، واقتصاد قوي وثروة قوية تساعد في التوسع واستغلال المستعمرات
وبرغم هذه العوائق ، مضت الحكومات الإيطالية في برنامجها الاستعماري ، وهي تؤمل ان تهض بالعبئين في ان واحد ، وان تخطو خطوات واسعة في السياستين الداخلية والاستعمارية
وهكذا دخلت إيطاليا ميدان التوسع في أول الربع الأخير من القرن الماضي ؛ وكان أول ثمرة تطلعت في اقتطافها قطر تونس في إفريقية الشمالية ، فقد رأت حكومتها أن هذا القطر قريب جدا من إيطاليا ، وان صقلية لا تبعد
عن رأس بون (في تونس ) بأكثر من مائة ميل ، وليس في دول اوربا دولة تعادل إيطاليا في قربها من تونس . وليس هناك دولة لها تلك الصلات التاريخية المتينة بأرض تونس يوم كانت روما تسيطر على إفريقية الشمالية كلها . وفوق هذا كله فإن هناك عددا عظيما يتزايد على مدى السنين من الرعاية الإيطاليين ، قد هاجروا إلي تونس ، وأخذوا يعملون فيها في مختلف الحرف والصناعات
وهذه الاعتبارات جميعا - بمقتضي المنطق الاستعماري تجعل إيطاليا أحق الدول بأن تتطلع إلي السيطرة على تونس ولكن شاءت الصدفة ان تكون هنالك دولة اخري اعرق واقوى من إيطاليا ، قد بسطت نفوذها من قبل على الجزائر ، ورأت انها بحكم الجوار ، ومقتضي الحق الذي يعبر عنه في الشريعة باسم الشفعة ، أولى بالسيادة على تونس ، ولم
سكن إيطاليا قادرة في ذلك الوقت ( عام ١٨٨٠ ) على تأييد حقها بالمدفع والنار ، فاضطرت إلي الإذعان ، ورات الحماية الفرنسيه تعلن على تونس ، فقبلت على مضض ، ورضيت بأن تترك مصالح رعاياها الكثيرين في تونس ترعاها الدولة الحامية بقدر الإمكان .
ولم يكن نجاح إيطاليا في إفريقية الشرقية عظيما إلي درجة تنسيها صدمتها في إفريقية الشمالية . فقد تركت لتستولي على بلاد الصومال على المحيط الهندي ، وبلاد الإرتريا على البحر الأحمر ، وكلاهما قطر تغلب عليه الطبيعة الصحراوية ، ولا تستطيع الدولة صاحبة السيادة ان تجد
فيه ميدانا للنشاط السياسي والاقتصادي الذي يحقق ما تطمح إليه من المكان السامي بين الدول الكبرى . وزاد في إحساس إيطاليا بالنقص ، تلك الصدمة الاليمة التي لقيتها في معركة عدوة في أول مارس عام ١٨٩٦ حين احتملت هزيمة أليمة على أيدي جيش متليك الثاني ملك الجيش .
فلم تكن إيطاليا بحكم هذه الظروف في مركز يحملها
على الرضا ، وعادت تتطلع مرة اخري إلي شمال إفريقية ، فلم تجد بين اقطاره ما تستطيع ان تطمع في امتلاكه سوى إقليمين : طرابلس وبرقة ، والاراضي الواقعة إلي الجنوب منهما . كانت هذه الأقطار خاضعة خضوعا ضعيفا للدولة العثمانية ، صاحبة السيادة الأسمية فيها . ولم تكن إيطاليا
تخشى جانب حكومة الآستانة ، بل كانت تخشى معارضة دول اوربا الغربية والوسطى . وكانت أكثر الدول معارضة هي فرنسا ، ولكن لم تلبث هذه ان رضيت بإطلاق يد إيطاليا في طرابلس ، في مقابل إطلاق يد فرنسا في مراكش . وأخذت إيطاليا بعد ذلك تتحين الفرص ،
وتعد العدة منذ أوائل القرن العشرين . وأخيرا في السابع والعشرين من سبتمبر سنة ١٩١١ اعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية ، وشرعت في محاولتها الطويلة للاستيلاء على برقة وطرابلس وإخضاع القبائل العربية ، التي تحتل هذين القطرين الواسعين .
والآن لتنظر في هذا الإقليم العظيم الذي أرادت إيطاليا أن يكون لها مثابة تعويض عما " خسرته " باستيلاء فرنسا على تونس ، وباطلاق يدها في مراكش
تبلغ مساحة ليبيا التي سمح لإيطاليا بامتلاكها نحو تسعمائة الف من الأميال وهي من غير شك مساحة واسعة جدا . ولكن هذا الإقليم المترامي الأطراف ، والذي يحتل من شواطئ البحر الأبيض مسافة تزيد على الألف ميل ، لا يقدر عدد سكانه باكثر من مليون من الأنفس في ذلك الوقت . ولم يكن هنالك سوي مساحة
صغيرة في إقليم برقة ، وأخري أصغر منها في طرابلس تعيش فيها جماعات مستقرة تشتغل بالزراعة ، وتعيش في أوطان صالحة للعمران . وإذا قدرنا هذه المساحة بالعشر ، فلا يزال هنالك تسمة اعشار ليبيا الإيطالية عبارة عن صحراء مجدبة تتخلها واحات قليلة ، يفصل كل واحة وما بعدها فضاء قفر لا تقع العين فيه إلا على صخور جرداء أو رمال قاحلة ،
قافلة من الإبل تسعى بين مدن الساحل والأقطار الداخلية . ومع ذلك فقد بذلت إيطاليا دماء أبنائها وثروة طائلة وزمنا طويلا من أجل بسط نفوذها على هذه الأقاليم الصحراوية . وكانما إيطاليا قد قدر لها أن تختص من دون الدول الاستعمارية بامتلاك الصحاري ، وما كفاها الصومال والأرترية ، حتى رأت أن تضيف إليهما طرابلس وبرقة والأقطار الواقعة وراءهما
وقد ادركت تركيا في سنة ١٩١١ ان خير وسيلة تدافع بها عن طرابلس وبرقة أن تهيب بسكان البلاد انفسهم ان ينهضوا لمقاومة الغزو بكل ما أوتوه من قوة وبأس ، وبذلت جهدها في إمدادهم بما يحتاجونة من العدة والسلاح . وقد نجحت هذه الخطة نجاحا كبيرا . فبالرغم من أن تركيا نفسها اضطرت لأن تنازل لإيطاليا عن حقوقها في طرابلس وبرقة ، في معاهدة عقدت ( بأوشى)علي
بحيرة جنيفا في اكتوبر سنة ١٩١٢ : فإن سكان طرابلس استمروا في مقارتهم زمنا طويلا ، وجعلوا من المستحيل على القوات الإيطالية أن تحتل سوي مساحة محدودة من السواحل ، وحالوا دون توغل قواتها في الداخل . وعبثا حاولت الحكومة الإيطالية في عام ١٩١٩ و ١٩٢3 أن تمني القبائل العربية بالوعود الطيبة ، وأن تبذل لها المال لتلقي السلاح ، فإن المقاومة دامت زمنا طويلا ، ولم تنجح إيطاليا في بسط نفوذها على هذه الأقطار الواسعة التي أعطتها الدول حتي امتلاكها واحتلالها
وظلت الحال علي هذا المنوال إلي أن جاءت النهضة الفاشية بزعامة موسوليني ، وبدأ عهد نشاط جديد في إيطاليا نفسها ، زادت به، مواردها الاقتصادية ، وتقدمت في الناحية الحربية بخطوات سريعة . ولم يكن بد من أن تشمل النهضة الجديدة الميدان الاستعماري ، فاضطرت الحكومة لأن تجند جيشا قويا وان تبعث به إلي ليبيا ، ولم تزل هذه القوات تجاهد بضع سنين أخري حتى تم لها بسط النفوذ الإيطالي علي القطرين برقة وطرابلس ، وشرعت
الحكومة في تمهيد الطرق ، وبناء الحصون ، وتنمية موارد البلاد الضئيلة ، وشجعت مهاجرة الإيطاليين إلي الأقاليم الصالحة في برقة وطرابلس
واستطاعت إيطاليا بعد الحرب الكبرى أن تحصل على تعديل جوهري لحدود ليبيا في الشرق والغرب والجنوب ؛ فحصلت من مصر علي واحات جغبوب وجالو وكفرة وحصلت من فرنسا على غدامس وغاث ومساحات واسعة إلي الجنوب الغربى ، وهكذا اتسعت رقعة ليبيا بما يزيد على ثلث المساحة الأصلية .
كانت هذه الإضافات والزيادات بمثابة مكافأة لإيطاليا على المجهود الذي بذلته باشتراكها مع الحلفاء في الحرب عام ١٩١٥ . ولكن من البديهي أن هذه المكافأة لم تكن مما يبعث على الرضا خصوصا في عهد النهضة الجديدة ، التي
لم تلبث ان قوي مركزها المادي والأدبى في أوربا ، وأصبح نفوذها غير قليل بين الحكومات الأوربية المختلفة ، ولهذا لم يكن بد من أن تسعى مرة أخري سعيها في الميدان الاستعماري ، وان تتطلع مرة اخري إلي شرقي إفريقية وشمالها . .
وفي شمال إفريقية تقع ليبيا ما بين مصر شرقا ، وتونس غربا . ولم يكن بد من ان تسعى إيطاليا في تقوية شؤونها وروابطها الثقافية والاقتصادية في كلا القطرين . فأما مصر فإن فيها من رعايا إيطاليا نحو ثمانين الفا من الأنفس ، أكثرهم ممن ولد في القطر المصري . وكان يعيش في البيئة المصرية كجزء منها ألفه المصريون واعتادوه على قاعدة :
" أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا " . وقد حاولت إيطاليا إن تخطب ود المصريين في مختلف الظروف ، واهمها من غير شك موقفها في مسألة إلغاء صندوق الدين والامتيازات الأجنبية . ولا شك في أن إيطاليا استطاعت في السنين السابقة للحرب ان تقوي علاقاتها الثقافية والتجارية مع المملكة المصرية ، وأن تخطو في هذا السبيل خطي واسعة .
أما من الوجهة السياسية فإذا كانت لإيطاليا مطامع
خاصة بالاراضي المصرية فإن هذا لم يظهر منه بصفة رسمية ، سوي محاولتها قبيل الحرب الحاضرة ، وبعد فتح الحبشة - أن يكون لها نفوذ أكبر في إدارة القناة والإشرف عليها . ولذلك صرح زعيم إيطاليا أن لدولته أغراض إستعمارية ترمي إليها ، وأن هذه الأغراض لها أسماء ثلاثة
ألا وهي : جيبوتي ، والسويس ، وتونس ولا شك في ان إيطاليا كانت ترمي إلي تحقق هذه الأغراض من غير اشتباك في قتال وأما وقد دخلت الحرب الحاضرة فان هذه المطامع قد اتسعت وزادت ، ولم يكن بد من ان تكبر بازديار المجهود الجديد .
وكان لإيطاليا في تونس مصالح كبيرة لعلها أكبر كثيرا مما لها في مصر . فعندما استولت فرنسا على تونس في عام ١٨٨١ كانت الجالية الإيطالية تفوق الجالية الفرنسيه فيها . ولم تصل فرنسا إلي مركز التساوي إلا في عام ١٩٣١ بعد احتلالها القطر بخمسين عاما . ورعايا إيطاليا في تونس يبلغون اليوم نحو مائة ألف من الأنفس . وذلك في بلاد سكانها لا تكادون يتجاوزون المليونيين
فالجالية الإيطالية إذن أقلية لا يستهان بها ، ويزيد في خطرها نشاطها الاقتصادي العظيم ، وأنها تتمتع بنظام لامتيازات التخلف من العهد العثماني ، وكانت معاهدها ومنشآتها ومدارسها متمتعة بنوع من الاستقلال حفظ لها كيانها ووحدتها . وقد أخذت حكومة روما الناشئة تحرص أشد الحرص على رعاية هذه الحقوق ، وكانت
فرنسا ترغب بالطبع في إدماج الجالية الإيطالية في السكان ، بحيث تشملها الحماية الفرنسية والجنسية التونسية لكيلا تدع الباب مفتوحا أمام التدخل الإيطالي في هذا الركن الخطير من إفريقية الشمالية ؛ ولهذا وغيره من الأسباب توترت العلاقات بين فرنسا وإيطاليا عقب الحرب الكبرى ، وزاد في موجدة إيطاليا انها لم تحصل من تعديل الحدود بين تونس وطرابلس إلا علي مساحة
صغيرة جدا دون الذي كانت تطمع فيه بكثير
وقد ظلت علاقة باريس وروما في توتر شديد ، إلي ان ظهر النظام النازي في المانيا ، وبرزت ألمانيا بقوة حربية جديدة في عام ١٩٣٤ ، واستطاعت ان تقف موقفا لتحدي في سياستها الخارجية ، وان تتدخل في شئون النمسا ، التي كانت إيطاليا حريصة على تأييدها وتقويتها .
هذه النهضة الآلمانية أثرت في إيطاليا تأثيرا شديدا ، فلقد كانت من قبل تنظر إلي النهضة الغازية بأنها خطب يسير لا ينطوي علي خطر أو إضرار بمصالحها . فلما شاهدت استفحالة وبروزه في عام ١٩٣٤ ، اخذت حكومة إيطاليا تفكر جديا في ان تصفي علاقاتها مع فرنسا ، وان تسوي المشاكل التي كانت ثائرة حول تونس وغيرها من الأقطار
وقد تم هذا كله في روما بين زعيم إيطاليا ووزير خارجية فرنسا في يناير عام ١٩٣٥ . فاتفق الطرفان على تعدل الحدود بين طرابلس وتونس تعديلا طفيفا لمصلحة إيطاليا . وتم الاتفاق بينهما على نظام تدريجي فيما يتعلق بالجالية الإيطالية في تونس . وبمقتضي هذا الاتفاق يكون الأطفال المولدون قبل عام ١٩٤٥ من أبوين
إيطالين متمتعين بالجنسية الإيطالية ، والمولودون بين ١٩٦٥و١٩٤٥ يكون لهم الحرية في الاختيار بين الجنسية الإيطالية والتونسية ، ومن بعد عام ١٩٦٥ يكونون خاضعين لقانون البلاد ، أي تكون لهم جنسية جميع المولودين في تونس ، وهي الجنسية التونسية
وكذلك طبق مبدأ التدرج هذا علي المدارس والمعاهد الإيطالية ، وهي اصحاب الحرف الراقية ، كالأطباء ومن على شاكلتهم من رعايا إيطاليا
وقد قبلت إيطاليا هذه التسوية عن طيبة خاطر ، برغم تشددها السابق ، وإصرارها علي ان يظن رعاياها في تونس دائما وفي جميع الازمنة متتمعين بثقافتهم وجنسيتهم الأصلية
(البقية علي صفحة 24)
(بقية المنشور على صفحة )
لأنهم لا يزالون في أوطانهم الأصلية . ولا شك في أن موقف إيطاليا هذا كان ينطوي في ذلك الوقت على شيء كثير من التساهل ويعزي هذا إلي ان وزير خارجية فرنسا الذي تم هذا الاتفاق علي يديه وهو المسيو لافال قد
أوعز إلي إيطاليا في أثناء المفاوضات بإطلاق يدها في الحبشة وأملها أيضا ببعض التأييد . وبالرغم من إنكار المسيو لافال لهذا فيما بعد ، فإن مسلكة في عصبة الامم وقت الغزو الإيطالي للحبشة يؤيد هذه النظرية كل التأييد
على أن الحوادث أثبتت أن قبول إيطاليا لهذا الاتفاقي لم يكن إلا قبولا مؤقتا أملته الظروف التي اثارت مخاوفها من نحو المانيا . ولكن هذه المخاوف قد نسيت فيما بعد ؟ ووققت المانيا في امر الحبشة يوقف الحياد التام ، وعرفت لها إيطاليا هذا الجميل ، ثم اشتركت الدولتان في الحرب
الأسبانية الوطنية ، وتناس محور برلين روما في خريف عام ١٧٣٧ ولم تلبث ايطاليا أن أخذت تتحدث عن اغراضها مرة اخري في إفريقية الشمالية وازداد صوتها ارتفاعا وقوة بعد تأسيس المحور . وحاولت فرنسا مرارا : الحرب الحاضرة أن تصل إلي تفاهم جديد خاص بتونس ولكنها لم تفلح وكان من البديهي انها لم تعد ترضى
رضيت به من قبل وعند ما دخلت الحرب الحاضرة يوليه سنة ١٩٤٠ لم يكن من العقول في حالة انتصار المحور أن ترضي إيطاليا بأقل من الاستيلاء على تونس كلها .
هذه خلاصة موجزة لما يسمي في لغة السياسة المصالح الإيطالية في إفريقية الشمالية ، أوردناه هنا بمناسبة الحوادث التي أخذت تدور في تونس ، وقد باتت اليوم ملتقي الأنظار من جميع الأقطار .
