جلست إلى مكتبى البارحة، فوقع بصري على (بيت الإبرة) فانفتحت أمامى سبل من الفكر لا تحدها غاية. وانى إذ أحاول أن أقيد هذه الفكر على القرطاس لمحاول أن أسلسل بهذه الأحرف خطرات الفكر الخاطفة التى تطوى الأجيال والأقطار فى لمحات. وتجمع السماء والأرض فى طرفة عين:
قلت ما اعجب هذه الإبرة! إنها هادية لا تضل، عارفة لا تخطئ. تنتحى الشمال مهما أدرتها عنه، ولا تنسى عهد المغناطيس مهما أبعدتها منه. ومهما جمعت عليها من الحجب والظلمات، وأضعفت لها فى المسافات، فهى مولية وجهها شطره محسة جذبه، موصولة به، خبيرة بوحيه، لا تنساه ولا تشرك فى هواه. ليت شعري أأهدى من الإنسان هذه الإبرة الصغيرة! أجل إنها لتهدي الإنسان فى البر والبحر والسفر والحضر.
أحسست حينئذ خفقان قلبي يذكرنى أن فى صدر الإنسان ابرة أخرى مرشدة هادية، تتوجه شطر معدنها أبدا ولا يصدها عنه تطاول الأمد وبعد المدى.
ألم تهد هذه الإبرة الأمم فى ظلمات الجاهلية، وغيابات القرون، فعصمتهم على العلات من الهلاك، وأخرجتهم إلى النور على تكاثف الظلمات . ولا تزال هادية بصيرة بالغاية، خبيرة بالسبيل اليها - كم عبدت الإنسان شهواته؛ وأضلته عن الخير مطامعه. فما زالت هذه الإبرة تضطرب فى صدره حتى اهتدى سبيل النجاة، ووضع على هداها منار الطريق.
كم طغت بالإنسان ضغائنه وأحقاده، فما زالت هذه الإبرة تخفق فى جوانحه حتى عرف إلى الحب والألفة والمودة السبيل، واستقام على النهج لا يميل. وكم غلا الإنسان فى ظلمه وعدوانه، فما زالت تتحرك فى أضلاعه حتى أشعرته نفسها ثم ردته إلى خطة للعدل محمودة، وسبيل إلى الإنصاف رشيدة.
وكم غدر الإنسان ثم اهتدى بها إلى الوفاء فندم على ما قدم، واغتبط بما اهتدى. وكم أجرم الإنسان فوخزته فأفاق، فكأنما صور خلقا آخر ينفر من الاجرام، ويركن إلى السكينة والسلام. وكم سفلت بالانسان سجاياه، فعملت فى صدره حتى سمت به إلى العلياء، وطارت به من الحضيض إلى عنان السماء. وكم وقفت بالانسان همته فدفعته هذه الإبرة العجيبة فمضى قدما إلى العمل، وهمزته فدأب لا يعرف الكلل.
وكم أظلم على الإنسان طريقه، وعميت عليه أرجاؤه.وأطبقت عليه سحائب سوداء، وأحاطت به ظلمات لاشية فيها من الضياء، فنظر إليها فإذا هى إلى الغاية دليل، وإذا هى على الظلمات قد استقامت على السبيل - وكم حارت بالانسان آراء مضلة. وأفكار غائلة، وأقوال ساحرة، فلما هلك أو كاد، ودارت به الحيرة والإلحاد، أحس اضطرابها فى نفسه فسكن، فتهافت الآراء وتهاترت الأقوال، وثاب إليه هداه فوجد أمامه الله
إيه أيتها الإبرة الهادية! ضل الإنسان فى صباه وهرمه، وجهله وعلمه، وسعادته وشقائه، ووحدته واجتماعه، وحله وترحاله، لولا هداية من الله فيك. وبصيص من نوره فى نواحيك، وصلة به لا تنقطع، وشعور به لا يضل، وجذوة من حبه لا تخمد.
وأما الذين أضلتهم الأهواء، فعميت عليهم الانباء، وتخطفتهم فى الحياة المآرب، فتذبذبوا بين شتى المذاهب. وشرق بهم مطمع وغرب آخر، وتلونت لهم غيلان من الآمال والأعمال، والذين فقدوا أنفسهم وهم لايشعرون، وظل سعيهم وهم يحسبون انهم مهتدون، والذين يلبسون كل يوم ديناً ، ويبدلون كل حين رأيا، ويلبسون لكل دولة وجهاً، ولكل سلطان زيا، ويتخذون لكل ساعة لسانًا، ولكل فرصة وجداناً، فأولئك أغفلوا النظر اليك فحرموا الاهتداء بك، بل أولئك فى إبرتهم خلل قد عرض، أو أولئك فى قلوبهم مرض.
