كان الأمير الصغير (مرى آمون) ولى عهد فرعون (ولم تكن سنه تربو على العاشرة) يتلقى دروسه الدينية فى حجرته. . وكان معلمه الكاهن الكبير (حوتيب) يشرح له الأسرار السماوية العميقة فى أوراق البردى المنثورة أمامه. . وكانت لحية الكاهن الطويلة تروح وتغدو فى الفضاء كلما تكلم، كأنها الآلة الكهربائية التى تمسح زجاج السيارة أمام السائق فى أيام المطر حتى لا يحجب عن نظره الطريق. كان الكاهن يقص على الأمير كيف تكون العالم وكيف خلق الإله رع هذا الفضاء، ثم الأرض، ثم السماء، ثم النيل، ثم التربة الخصبة، ولكن مرى آمون كان يستمع إلى معلمه فى سآمة وضجر، ويود لو شارك الأطفال الذين شاهدهم من النافذة يمرحون فى الحقول طلقاء سعداء فى مرحهم ولهوهم، بينما هو يقضي العمر سجينا بين جدران
أربعة! فاذا ذكر الكاهن جهنم وأخذ يصف الشياطين المكلفين فيها بعذاب من أذنب فى الحياة الدنيا، أحس مرى آمون برعدة تسرى فى جسمه الضئيل. . وكان الكاهن يرمقه بابتسامة صفراء كأنه مغتبط لخوف الأمير. . كم ود مرى آمون فى تلك اللحظة لو دق عنق معلمه!.
وفى أثناء ذلك، ازداد ضجيج الأطفال فى الخارج، فنظر الأمير إليهم مرة أخرى من النافذة، فإذا بهم يطاردون جحشاً فر من صاحبه. . عندئذ استولت الحماسة على قلب الأمير، واشتدت به الرغبة فى الانضمام إلى أولئك الصبيان، فصاح بمعلمه قائلا: سيدى أرجو منك أن تدعني أهب لمساعدة هؤلاء الأطفال فى القبض على الجحش الهارب. . فكان جواب الكاهن أن غلق النافذة واستمر فى القراءة كأن لم يقع شىء...
تقلب الأمير المسكين فى سريره تلك الليلة، ولم تذق عينه النوم لأنه كان جد غضبان. . ولو نظر مرى آمون وجهه فى المرآة فى ذلك الحين لشاهد تلك الحمرة الجميلة التى علت خدوده ذات الصفرة الذهبية من جراء انفعاله!. . حقا! لقد مل الأمير الحياة، وسئم استبداد معلمه! صحيح أن بالقصر أطفالا كثيرين من أبناء الأشراف يستطيع الأمير مشاركتهم فى ألعابهم، ولكن هؤلاء لا يعاملونه معاملة الند للند بل يهابونه ولا يخاطبونه إلا فى كلفة وحياء!.
رب كيف يتخلص الأمير من نير الكاهن حوتيب؟ انه طالما شكاه إلى فرعون والملكة فى الأوقات القصيرة التى يسمح له فيها بمقابلتهما ولكن من غير جدوى. . فقد كانا يردانه دائما خائبا كأنه ارتكب جرما. . لم لا يرفع الأمر إلى الآلهة الفخام وهم من أقاربه كما يزعمون؟ ولكن هؤلاء هل يعينونه؟ انه يشك فى ذلك، انظر إلى صورهم المخيفة!. ذاك (سوبك) اله الماء، له صورة التمساح الذى يخطف الأطفال على ضفاف النهر، وذلك (أنوبيس) فى شكل الذئب وقد أكل فى العام الماضي غزال الأمير المحبوب. . وتلك (هاتور) على هيئة بقرة، فهي لا شك بلهاء لا تستطيع نصرته. . إذن من يخف منهم لنجدته؟ ايزيس؟ أجل! هى الأم البرة. كم مرة سكب الأمير دموع الرحمة والحنان إزاء تمثالها وهي جالسة تضم إلى صدرها ولدها المحبوب هوروس! وفى تلك الليلة نفسها دعاها الأمير لنصرته
فاستجيب دعاؤه! ربما تكون ايزيس بعيدة النظر فى استجابتها دعاء الأمير؛ أليس مرى آمون ولي عهد الملكة؟ لو آل إليه الملك بعد موت أبيه إذن سوف يتذكرها فيفضلها على سائر الآلهة ويبنى لها شاهق القصور ويقيم لها أعظم التماثيل، ويغدق عليها الهدايا والقرابين. واليك كيف استجابت دعاء الأمير:
لاحظ الأمير أن من عادة الكاهن ملازمة حجرته فى كل احتفال ديني يقام بالقصر، فكثيرا ما بحث عنه الأمير بنظره فى مكان الاحتفال فلم يجده فيه، بينما يحضر هذه الاحتفالات الملك والملكة والكهنة الآخرون، وجميع رجال القصر. . فكان مرى آمون يتعجب من أمر معلمه ولا يفهم سبب احتجاب الرجل وتخلفه عن حضور مثل هذه الاحتفالات العظيمة. . وفى يوم عيد دفع الأمير حب الاستطلاع إلى أن يختبئ فى حجرة الكاهن حتى يدرك السر، ففعل ذلك قبل وصول الكاهن إلى حجرته بقليل، وما كاد حوتيب يدخل ويغلق خلفه الباب حتى ضغط على زر فى الحائط فانفتح فيه ثقب دخله الكاهن على الفور. . وقد أراد الأمير أن يتبع حوتيب فى الثقب ولكنه أحس الخوف يتملكه، فعاد مهرولا إلى حجرته الخاصة. . وفى المرة الثانية تغلبت الرغبة على الخوف فاستطاع الأمير اتباع الكاهن داخل الثقب فاذا به فى دهليز مظلم انتهى منه إلى مكان ضيق يقع خلف الحائط المستند إليه تمثال آمون الكبير القائم فى قاعة الاحتفالات، وإذا بالكاهن يقف خلف التمثال المذكور ويتناول من الأرض بوقاً ثم يتكلم منه بصوت متغير مقلداً صوت التمثال، فيردد الألفاظ التى طالما سمعها الأمير فى تلك الاحتفالات بنصها، وكان يظن هو وسائر الحاضرين بطبيعة الحال، إنها صادرة عن الإله. . حقاً! إن دهشة الأمير كانت عظيمة بمقدار خوفه، لذلك هرول مسرعا إلى الخارج. . ولكن قلبه كان يفيض سرورا لاكتشافه العظيم الذى سوف يشتريه منه الكاهن بثمن غال. . وفى اليوم التالي انتهز الأمير فرصة غياب الكاهن عن القصر فقصد حجرته، وهناك ضغط الزر ثم دخل فى الثقب وعاد منه بالبوق. . بعد ذلك، عندما أزفت ساعة الدرس واقبل المعلم يتهادى فى رزانته المعتادة، دنا الأمير منه قائلا:
سيدى أظن انك فقدت هذا البوق فى الثقب! عندئذ أحمر وجه الكاهن حتى عاد (كالطماطم) ثم مد يده ليأخذ البوق صائحا فى غضب: أعطنى هذا البوق!
ولكن الأمير وضع يده خلف ظهره وقال فى ابتسامة الظافر: سوف افعل يا سيدى إذا أذنت لى فى اللعب حيث أشاء ومع من اختار من الرفاق. . فتردد الكاهن ملياً ثم قال فى يأس، وهو يطأطىء رأسه: لك يا بنى ما تريد!.
