- ١ - فى ثغر الاسكندرية، مهبط الوداع واللقاء. حيث تجلب السفن قوما وتذهب بآخرين، وتحمل أناسا الى أوطانهم، بينما تذهب بغيرهم الى بلاد غير بلادهم وآل غير آلهم، وحيث البحر الأبيض يحمل عبابه السفن، مهتدية بمنار الثغر، فتحط إليه أو ترحل عنه، وفى رابع ربيع الآخر عام اثنين وثلاثين وخمسمائة ولد لعبد الله بن مخلوف بن علي ولد سماه نصبر الله، وكناه أبا الفتوح، ولقبه الناس بعد ذلك بالقاضي الاعز، وشهر فى كتب الادب بابن قلاقس، وأرجح ما نراه سببا لكنيته الأخيرة أن أحد الأجداد فى عمود نسبه يسمى بقلاقس، فحمل حفيده الشاعر النسبة اليه، (وقلاقس بقافين. الأولى مفتوحة والثانية مكسورة جمع قلقاس، وهو معروف) ولسنا ندرى السبب الذى من أجله سمى جده بهذا الاسم.
ولد هذا الطفل الذى كان على ما يظهر نحيفا ضئيل الجسم، وظلت صفة النحافة ملازمة له، لم تبرحه طوال حياته حتى قال حينما كبر يحدثنا أن ضآلة الجسم لا تحول بينه وبين العلا:
جوهر المرء نفسه وبها الفض ل، وما غير ذاك فهو فضول
والصغير الحقير يسمو به الس ير فيعنو له الكبير الجليل
فرزن البيدق التنقل حتى أن حط عنه فى قيمة الدست فيل
ويروى بعض الرواة أنه لم تكن له لحية، ولكن شعره يحدثنا أنه كان خفيف العارضين يقول:
لا تغرنك اللحى من أناس درجوا كالحمير تحت المخالى
ولئن خف عارضاى فانى لا أبالى بكل وافى السبال
يلبس على رأسه عمامة كالتاج، وذلك كل ما تستطيع ان تصل إليه إذا أردت أن تعرف شيئا عن خلقه وزيه، فاذا أردت أن تدرس أسرته وأن تعرف شيئا عن أبيه وأمه فانك غير مهتد إلى ما يشفى غليلك، اللهم الا أنه يرجع فى نسبه الأول إلى قبيلة عربية هى قبيلة لخم إن صح ما يقوله النسابون عن نسبه.
- ٢ - الحياة العملية لابن قلاقس يشوبها العموض، فلسنا ندرى على وجه اليقين كيف تعلم، ولا ماذا تعلم، ولا على يد من تخرج، وان كنا نعلم انه درس فى الازهر، وربما يكون قد طالت مدة دراسته حتى صح أن ينسب ويقال له الأزهرى، كما أننا نعلم أنه صحب الشيخ الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد السلفى وهو أحد الحفاظ الذين رحلوا فى طلب الحديث، ولقى المشايخ الاعلام ودرس الفقه على مذهب الشافعي، ثم ألقى عصا التسيار بالاسكندرية، حيث قصده أهل العلم من البلاد النائية، ويقال انه لم يكن فى اخر زمانه مثله، ولقد بنى الوزير المصرى وزير الظاهر العبيدى له مدرسة بالاسكندرية وكل أمرها اليه، فقام بأعبائها.
اتصل ابن قلاقس بهذا العالم وانتفع بصحبته كثيرا، وان شعره الذى مدحه به يدلنا على ما كان بينهما من أواصر المودة وقوة العلاقة، كان السلفى رجل حديث فلا بد أن يكون ابن قلاقس قد درس عليه الحديث، وكان رجل فقه ولغة وأدب فلا بد أن يكون صاحبنا قد تأثر بفقهه وأدبه، وإذا كان الشاعر يهضم دراساته كلها ثم تأبى الا أن يظهر أثرها فى شعره فكذلك كان صاحبنا؛ فانك ترى فى شعره بعض اصطلاحات علمية تدلنا على دراسته وما تلقاه، وأتنصت اليه يقول:
البدر فى العرض الضياء وأنت قد جمعت بجوهر ذاتك الاضواء
ألا يذكرك ذلك باصطلاح المتكلمين حينما يتحدثون عن العرض والجوهر والذات، ويقول:
وأنت ورثت الأكرمين علاهم وعالت على قوم سواك الموارث
ويقول:
ملك شاعر الحماسة يأبى أن يمل التسهيم والتقسيما
فهو يشير الى الميراث والعول والتسهيم والتقسيم التى هى من الاصطلاحات الفرضيين واستعمالاتهم، ويقول:
وجدى بنحوك لا عطفا ولا بدلا فانظر اليه تجده الكل توكيدا
ويقول:
خفضت بها الأشعار حتى كأنها وان رفعتني الآن من أحرف الجر
ويقول:
وأحسن بالرفع رفع الحدي ث واظهاره للجوى المضمر
فهو فى كل هذه الأبيات يشير الى قواعد النحو من عطف وبدل وتوكيد وخفض ورفع وحروف جر وإظهار وإضمار، وهى كلها اصطلاحات نحوية تلوكها ألسنة النحاة، كما كان فى البيت الاخير يحدثنا عن رفع الحديث الذى هو من مصطلحات المحدثين كما قال:
لوارث الحمد يرويه ويسنده الى مناسب أجداد وآباء
إذ هو يشير الى الرواية والاسناد اللذين يجريان على ألسنة المحدثين. ويقول:
حيث الدماء عقار يستحث على ما شئت من رمل للخيل أو هزج
ففى رمل وهزج تورية ببحرى الرمل والهزج اللذين يعرفهما علم العروض ويقول:
وأراك تريف الجمال بوجهه فانظر الى ألف العذراء ولامه
فهو قى ذلك يلمح بعلم المنطق.
تلك هى العلوم التى نستطيع استنباط أنه درسها من شعره، وإذا شئت أن تجملها قلت إنه درس الدين وعلومه واللغة العربية وعلومها كما أنه قد أخذ بحظ كبير من دراسة أدب الشعراء الغابرين وحفظ الكثير من أقوالهم، يدلنا على ذلك معارضته لهم فى أشعارهم وقصائدهم واقتباسه الكثير من أفكارهم وتعبيراتهم، وإن شعر شاعرنا ليدلنا حقيقة على اطلاع واسع وثقافة متغذية بأشعار السابقين له: جاهليين وإسلاميين، وسوف نتحدث بعد عن اقتباسه ومعارضته حينما نحدثك عن شعره. قلنا إنه صحب الحافظ السلفى ، ونقول، إن التاريخ لم يحفظ من أسماء أساتذته إلا هذا الاسم، وقليا ان العلاقة التى كانت بينهما متينة العرى وثيقة الصلة تلمسها فى شعره، وتقرؤها فى المدح الذى يفيض قداسة وحبا، كما تلمس فيه بلك الدرجة العظيمة التى وصل اليها السلفى ، وتلك المنزلة السامية التى كان يضعه فيها أهل عصره، وحسبك أن تسمع قوله فيه:
نجم علا نوره فكاد بأن تقبض بالضوء عين من جحده
سائل به من رمته هيبته فمات من خوفه، وما عمده
ألم تزره كواكب ضمنت رجم شياطين كيده المرده
وأصبح العاضد الإمام به فى دولة بالسعود معتضده
وابتسم الثغر عن مفضله بما ارتضى الله جده ودده
خر له الناس ساجدين فلو شئت عددت النجوم فى السجده
وشعره فيه كثير جدا يوجد فى ديوانه، وكان السلفى كثيرا ما يثنى عليه، ويكرمه، ويقدره حق قدره.
- ٣ - عاش ابن قلاقس طوال حياته فى عهد الدولة الفاطمية، تلك الدولة التى جعلت مصر سيدة لامبراطورية ضخمة تمتد من المحيط الأطلسى الى نهر الفرات، غير أن شاعرنا كان فى آخر عهودها، وبعبارة أخرى كان فى عهد ضعفها وانحلال قواها، إذ لم يكن الأمر والسلطان فيها للخليفة: يصرف الأمور ويدبر الشئون؛ ولكنهما كانا فى أيدى الوزراء يفعلون ما يفعلون، ويدعون ما يدعون، ويولون الخلافة من يشاءون، فقام التنافس على الوزارة. كل يرجوها لنفسه ويصرف فى سبيل نيلها ما شئت من مال وجند، مما كان مدعاة لأن توجه مصر قواها الى نصر بعض بنيها على بعض لا إلى عدو آخر مغير، ولهذا كان تاريخ الدولة الفاطمية فى آخر عهدها تاريخا للنزاع الذى كان قائما حينذاك بين الوزراء، ولعل ضعف سلطة الخليفة فى أكثر المدة التى عاشها ابن قلاقس هى التى لم تدعه إلى السعى للاتصال به، بل هو لم يتصل بأحد من رجال السياسة المصرية المبرزين إلا بشاور الذى تغلب على خصمه رزيك وانتزع منه الوزارة، ولا زال الغالب يجد النصير ويجد المادح؛ لهذا تسمع ابن قلاقس يقول له:
يا آل شاور أنتمو دون الورى للملك كالأرواح فى أشباحه
والى معاليكم إشارة خرسه وإلى أياديكم ثناء فصاحه
ويقول حينما انتصر على بنى رزيك:
بك الاسلام قد لبس الشبابا وكان سناه قد ولى فآبا
وهز الملك عطفيه بملك تقلد فهمه، وكفى، ونابا
وقد لبست به الدنيا حلاها جلاها حسنها خودا كعابا
وقالوا: أطول الاملاك باعا فقلت: نعم، وأنداهم جنابا
سلوا عنه بنى رزيك لما أفاد الحرب منهم والحرابا
فان جعلوا الظلام لهم مطيا فكم جعل النجوم لهم ركابا
ليهن الملك أن أمسى مصونا عشية راح غيرهم مصابا
وكذلك له شعر يحدثنا عما قام بين شاور وشيركوه الذى قدم لمساعدته ثم أبى شاور أن يفى له بما عاهده فاضطر شيركوه إلى الانسحاب من مصر مؤقتا؛ ويقول فى ذلك ابن قلاقس:
عارض الصفح فى يديك الصفاحا ورأى البأس أن تطيع السماحا
فرفعت الجناح عن جارم الذن ب بعفو خفضت منه الجناحا ووضعت السلاح حين أراك ال حزم والرأى ان وضعت السلاحا أى ثغر سما إليه أبو الفت ح فلم يبتدر اليه افتتاحا بخيول طارت بأجنحة النص ر فراحت بها تبارى الرياحا شاركت شيركوه فى النفس والما ل وصاحت به فصاحا فصاحا طلب الأمن، فاستجيب، وما يع رف منك الطلاب إلا النجاحا بعد ما ضيق الحمام عليه سبلا غودرت لديه فساحا فليطل تعدها الفخار، فقد را ح طليقا لبيضكم حيث راحا
وبغير شاور لم يتصل شاعرنا بسياسي مبرز فى السياسة المصرية اللهم إذا استثنينا القاضى الفاضل الذى توصل بجده ومهارته الى أن يثب على كرسي ديوان الانشاء عوضا عن الموفق بن الجلال الذى كان أستاذا له، وكان يشغل هذا المنصب قبله، واذا أنت قرأت شعر ابن قلاقس فى مدح القاضى لحظت فيه تأنفا واجتهادا فى استعمال المحسنات اللفظية، ولا غرو فالقاضى الفاضل زعيم طريقة عرفت به وعرف بها: هى طريقة الجمال والتزيين اللفظى، فكان من حسن الذوق أن يجتهد مادحه فى السير على نهجه واتباع مذهبه لان فى ذلك إذاعة لطريقة يريد أن يذيعها، ويقولون: إن أول قصيدة قالها فيه هى التى أولها:
ما ضر ذاك الريم الا يريم لو كان يرثى لسليم سليم
ومنها:
من لفظه راح، وأخلاقه روح، وتلك الدار دار النعيم
فارشف بأسماعك من قهوة ما أحدثت من ندم للنديم
بلاغة جرت جريرا، ولم تدع حطاما بيد ابن الحطيم
رأى به الديوان ديوانه مطرزا باسم شريف وسيم
وقال يا عبد الحميد ادرع من بعد هذا اليوم ثوب الذميم
علامة السؤدد معروفة جسم نحيف وعلاء جسيم
وله فيه مدح كثير، وثناء على أخلاقه، وطريقة إنشائه، وصاحبنا مع فخره بشعره يقف أمام القاضي الفاضل فيقول له:
أتينا بقرى الأشعا ر نهديها إلى المدن
إلى من بحره الزا خر لا يعبر بالسفن
إلي من لفظه يط رب كاللحن بلا لحن
وهذان العظيمان شاور والقاضي الفاضل أكبر من اتصل بهما شاعرنا فى الديار المصرية.
يتبع

