الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 667الرجوع إلى "الثقافة"

ابن هى؟!

Share

(صفحات من يوميات) يسر "الثقافة" أن تقدم لقرائها هذه المنظمة الأدبية الممتازة التي تشهد بأن لصاحبها لفتة الفنان

٢٥ فبراير ١٩٥٠ منتصف الليل، سكون، هدوء، لقد نام أهلي جميعاً ولم يبق مؤرقاً إلاي . كنت حتي دقائق اقرأ في كتاب، ولكنى مللت القراءة فوضعت الكتاب جانباً، وجعلت وأنا مستلق على فراشي أسبح بفكري بعيدا، إني في السابعة والعشرين ومازات عزباً. لماذا؟! كنت أفكر في الزواج، لقد تزوج كل أصدقائي واطمأن كل واحد منهم إلي شريكة حياته . وقد أنجب بعضهم أولاداً ... أما أنا ، هكذا مصمصمت بشفتي، فما زلت وحيدا!

وهأنذا أدون يومياتي عن هذا اليوم. ولكن ماذا أكتب؟ لقد مللت الكتابة عن الأشياء العادية، متى أكتب شيئا عن "خطيبتي" مثلا ! إنها كلمة حبيبة إلى النفس، جميلة الوقع على الأذن. حتى وأنا أكتب كلمة "خطيبتي" أشعر كأن قلمي يهتز في يدي منتشياً ملتذاً؛ ولكن لا، يلوح لي أن حظي في الزواج ضئيل. خذ مثلاً: فمنذ أربع سنين وأنا أبحث عن فتاة واحدة بالذات، دون جدوي. لقد رأيتها، أو تراءت لي بمعنى أصح، ذات ليلة من صيف ١٩٤٦. كان حلماً جميلاً، أليس جميلاً أن أحلم

أني أستيقظ من نومي فيملأ عيني نور الصباح، وأري نفسي في فراش وثير ويجاني امرأة ... بل فتاة، لم يظهر من جسدها غير وجه صبوح وردي ملائكي شفاف! لقد تعجبت للأمر، وتساءلت: من تكون؟! ولكن سرعان ما ذهب عجبي وانهارت دهشتي عندما وقعت عيناي على إصبع من يدي اليسرى ورأيت خاتماً ذهبياً .. دبلة ! كانت الفتاة زوجتي.

رأيت زوجتي منذ أربعة؛ أعوام فهل للرؤية أن تتحقق ومع نفس الفتاة ؟ ترى كيف تكون زوجتي، وأين ، ومتى ألقاها؛ لم يوضح لي الحلم من تكون ومن يكون أبوها وأين تعيش حتى تسهل علىَّ مهمة البحث عنها! إن صورتها عالقة بذهني؛ إنها ذات وجه صبوح وردي ملائكي شفاف.

ولكن ما هي الصفات العامة التي أرجوها في زوجتي؟ لأحاول أن أبسطها في كلمات قليلة مختصرة، فما يلى:

إني أحب البساطة في المرأة، أحبها على فطرتها وسجيتها، ولا أميل إلى المتحذلقات منهن. ليس أجمل عندي من امرأة تفكر بقلبها، أما التي تحب بعقلها فهي أقرب عندي إلى الرجل في حياتها وتصرفاتها، فمنذ بدء الخليقة تعلم الرجل أن يعمل بعقله ، لأن وظيفته كانت تدعوه إلى

التفكير والابتكار، بعكس المرأة، فقد وجدت نفسها عاطفية لأن وظيفتها كانت تدعوها إلى الحب. لقد أملت الطبيعة على كليهما أسلوب حياته ومنهاجه ، فمهما حاولنا التقريب بين الطرفين نجد دائماً أن الرجل يقوده العقل، أما المرأة فيسيطر عليها القلب، كل ما يطلبه الرجل من المرأة .. العاطفة لأنه يكفيه عقله. لذلك أحب المرأة الفنانه لأنها في فنها تعبر عن طبيعتها ، وأفضلها على المرأة العالمة التي أدخلت مشكلات العقل في حياتها الخاصة. إن  "المرأة" إذ توقع أمامي على البيانو مثلا قطعة من الموسيقى الرقيقة فهي أقرب إلى مزاجي وذوقي وقلبي من إمرأة تشرح لي قانون الجاذبية أو النظرية النسبية. أحب جداً رؤية فتاة أغرمت بالفن، ولا أميل إلى الفتاة التي هويت العلم. أحب المرأة التي لا تحاول الخروج على طبيعتها والتي تعرف حدود استعداداتها فتقف عندها. لذلك طالما أردت أن يوفقني الله إلى فتاة تهوي الفن : موسقى أو رسماً ، وتمارس أحدهما .. وهذا لا يمنع قط أن تكون على قدر من الثقافة العامة بحيث يؤهلها للدخول في المحادثات والمناقشات الممتعة الخصبة .

٢٠ مايو ١٩٥٠ خطب ابن خالتي فتاة منذ ما يقرب من شهر ، ومنذ أن تمت خطبته بدأ اسم غريب يدخل في أحاديث عائلتي . فقد صرت أسمع والدتي تردد اسم "مارجو" . واليوم إذ نفذ صبري من الحديث أمامي عمن لا أعرف سألت أمي :

- من تكون مارجو يا أمي ؟ فقالت وهي تغمز بعينها : - مفاجأة سنفاجئك بها. - أهي تؤكل أم تلبس؟ - لا تتباله! إنها عروسك المنتظرة . وكنت قد أخبرتها بحلمي العجيب عن زوجتي المجهولة ووصفت لها وجهها، فسألتها:

- أهي ذات ذات وجه صبوح وردي . .؟ ولم تمهلني : - ملائكي شفاف! - وما درجة تعليمها؟ - الثقافة العامة. - عظيم. ألا تعرفين إن كانت تهوي فناً ما؟

- أعرف أنها تلعب علي البيانو ... فقفزت من مكاني متهللا: - إنها هي يا أمي، فتاة أحلامي! متى أراها إذاً ؟ إني لفي شوق إلى أن أري زوجتي المستقبلة؛

قالت مبتسمة : - لا تكن عجولا انتظر حتي ليلة زفاف أبن خالتك، فسوف تكون في الحفلة التي ستقام لهذه المناسبة. - ولكن من هي مارجو ، وما علاقتها بزفاف ابن خالتي؟! - إنها ابنة خالة خطيبة ابن خالتك  (!)

٨ يوليو سنة ١٩٥٠ أهي التي ستكون عروسي حقا؟! إني والله لا أرى بها عيبا: فهي مرحة. إنها فتاة الحلم  إنها ذات وجه صبوح وردي ملائكي شفاف!

لم تكن هذه أول مرة أري فيها مارجو . فلقد رأيتها يوم السبت قبيل إكليل ابن خالتي، رأيتها مارقة وهي تسلم باليد بينما كان يقدمها إلينا، ثم رأيتها يوم زفافه، فامتلأت عيني منها. ثم رأيتها للمرة الثالثة اليوم  ... حقا أني مرتبك، إنها تكاد تكون الصورة التي رأيتها لزوجتي ذات يوم في حلم . أهي زوجتي هذه التى كانت جالسة أمامي اليوم على المائدة - في هذا الحفل العائلي الصغير - في فستانها الأحمر القاني ذي الصدر الواسع، صغيرة الفم جميلته؟! أهي زوجتي هذه التى كانت تلمحني أرقبها وأرمقها من طرف خفي فتتظاهر بعدم رؤيتها إياي وملاحظتها لي ! أهي زوجتي هذه التي ...

٩ يونيو سنة ١٩٥٠ . " مارجو "! إنه اسم جميل حقا ، مودرن، عصري؛ بصاحبته كل ما كنت أصبو إليه وأبحث عنه. ولكن للأسف ، بي عيب يجعلني أتردد في الأمر، هذا العيب صعوبة تآلفي بغيري من الناس؛ فأي شخص لا أعرفه أهابه، وأي عائلة لا أعرفها أخافها، فإذا زال خوفي منها واختلطت بها واندمجت فيها، فبشئ من الكلفة والتحفظ، فإذا زالت الكلفة وذهب التحفظ فبعد زمن قد يطول ولا يقصر !

ولكن ما الجماعة؟ أليست مجموع أفراد؟! ألست فرداً أنا نفسي؛ فكيف أتراجع أمام أفراد مثلي؟ لا. لن أسمح لنفسي بالتراجع أمام أفراد مثلي من طبقتنا ووسطنا . فأم مارجو طيبة بسيطة لا تكاد تفوه بكلمتين اثنتين في جلسة

طويلة ! ويمتاز أبوها بالرجولة الكاملة ، والنؤدة، والتفكير الطويل قبل الشروع في الكلام، فإن تكلم فبكلمات موزونة قاطبة. وهو يعمل بإحدي المصالح الحكومية. أما أولادهما فستة: ثلاث فتيات تزوجت كبراهن من موظف لا أذكر في أية مصلحة أو شركة : شاب ذرب اللسان ، ذو شارب يحاول به تقليد كلارك جيبل! ثم الفتاة الثانية، مارجو، التى أرى فيها عروسي، تذوب رقة وحلاوة، ثم فتاة ثالثة دون العشرين، ساهمة العينين ثرثارة . ثم يأتي دور الذكور، وهم ثلاثة: أحدهم في بعثة بانجلترا لاستكمال علومه البكتريولوجية، الثاني بالكلية الحربية، بينما الثالث بإعدادي الطب؛ اه نسيت أن أذكر أن زوج الفتاة المتزوجة يحمل بكالوريوس الهندسة المعمارية.

عائلة مشرفة يفخر بها من ينتسب إليها . تري هل ستكون مارجو زوجتي حقاً؛ إني لأعجب، وما أشد عجبي. فانا اكاد أتم السابقة والعشرين من عمري، ولابد والأمر كذلك أن تكون " زوجتي " في نفس سني إن لم تكن أقل بيضع سنوات ... بمعنى آخر أنها لابد أن تكون حية تررزق في نفس الوقت الذي أكتب فيه هذه اليوميات، إن لم تكن مارجو هي زوجتي، فزوجتي المستقبلة لابد أن تكون الآن في مكان ما لا أعرفه. أهذا عدل أن يفصل بيننا ، أو بمعنى أدق: أن يضل أحدنا عن الآخر. وقد تكون على بعد خطوات ، أو على مدى "ترام" أو في نهاية رحلة "قطار" !

١٠ يونيو ١٩٥٠ . إني لأعجب ! كيف يتزوج الشخص شخصاً آخر لا يعرفه، بمعنى أن الصلة بينهما لا تعدو أن تكون صلة مصلحية فقط، ليس فيها شئ من الحب الذي يجب أن يربط الزوجين قبل الزواج والذي به يتم هذا الزواج ، لأنه الأصل وهو السبب؛ كثيرا ما فكرت كيف يكون الأسبوع الأول (وكدت أقول اليوم الأول !) بعد الزفاف؛ ففي حالة الزواج عن غير حب لا يعرف أحد الطرفين الطرف الآخر، أو بمعنى أصح لا يحب أحدهما الآخر، فكيف بهما يتركان في حجرة واحدة - رسمياً طبعاً، بإذن من الكاهن أو المأذون؛- ليبدأ حبا كان الأفضل أن يبدأ من قبل ، ويستهلا عطفا وودا كان الأجدر أن يكونا منذ زمن ! يجب أن يكون الزواج نتيجة للحب . أود أن أقول :

على الزواج أن يتبع الحب، لا الحب الزواج. هذا منطقي ومعقول . ولكن هناك آراء تخالف هذا الرأي: آراء الكبار والعجائز. فالمتزوجون يقولون إن طول العشرة يولد حباً، أى أن العادة تخلق حباً، وإن "شيئاً" غامضاً يدفع بالزوجين إلى حب لا يمكن تعريفه ، أجمل وأصل من هذا الحب الذي يتحدث عنه الأغرار من الشبان . لا أدري أأصدق هذا الزعم أو أشك فيه . ولكن ما باليد حيلة . فهأنذا أرى عروسي. وقد كان يمكن أن أراها قبل أن تنتسب إلى عائلتها عن طريق ابن خالتي ، وقد كان يمكن أن أحبها عندئذ وأتزوجها تبعا لذلك . ولكن شيئا من هذا لم يحدث . وهأنذا أتوهم ، أو أزعم لنفسي أي رأيت عروسي أول أمس وما قبله فوقعت من نفس أجمل موقع ، واحتلت مكاناً، لا أقول من قلبي ، بل من فكري أي مكان. وأنا لا أنكر قط أني وقعت في حبها من النظرة الأولى أو الثانية، ولكني أقول إني لا أعرفها المعرفة التامة التي أعتقد أنه عن طريقها يقوم كل زواج كامل موفق . ولكن ما العمل ؟ إنها فتاة الحلم . إنها زوجتي المستقبلية .

ولكن ... لنفرض أنها على غير استعداد لأن تحبني! آه . ألست كفيلا ببذر بذور الحب في قلبها فتشعر بحبها لى كما أحبها أنا الآن فعلا! إنه إذاً الإيحاء الذي سيلعب دوراً هاماً في هذا الزواج، والذي يلعب الدور المهم في كل زواج ... في مصر.

١١ يونبو ١٩٥٠ . يلوح لي أني سريع التأثر بكلام الناس. فكلمة يقولونها عني تسعدني، وكلة اخري تشقيني، أغلب الظن أني لم أكون عن نفسي بعد فكرة ثابتة أو رأياً ثابتاً. وأغلب الظن أيضاً أني أفتقر كثيرا إلى الثقة بالنفس.

فقد كنت حتى اليوم صباحاً سعيداً بما أزمعت من خطبة مارجو، كلي ثقة من فوزي بها، وكلي أمل في موافقة أهلها على طلبي يدها. وإذ كنت هذا الصباح بغرفتي سمعت "طراطيش كلام" تبلغني من الخار ج  كانت والدتي تتحدث مع أخي بشأن هذه العروس؟ فسرعان ما لحقت بهما وجعلنا نتناقش في هذا الموضوع ... ثم تطرق الحديث إلى احتمال رفض عائلة الفتاة طلبي! هنا أسقط في يدي و شل تفكيري. فلم تكن فكرة الرفض هذه قد مرت بخاطري قط. وكان أساس هذا الاحتمال أني لا أحمل شهادة جامعية تطمئن بها

عائلة الفتاة على مستقبل ابنتها (كما قد يفكر أهلها). أجل فإخوة الفتاة كلهم، كما ذكرت من قبل، جامعيون، كذا زوج ابنتهم الأولى، وقد علمت اليوم أنه يعمل بمصلحة المباني.

أيكون أهلها من ضيق العقل والغفلة بحيث يعترضون على هذه النقطة؟! أرجو أن يخيبوا ظني في هذه المسألة . ليست قيمة الرجل في الشهادة التي يحملها بقدر ما هي في العمل الذي يؤديه.

لقد مر علىَّ اليوم كئيباً حزيناً من أجل هذا الاحتمال الذي أثارته والدتي وأثاره أخي. وجعلت أفكر فيما سأفعله إذا ضاعت مني هذه الفرصة. أأضطر إلى البحث عن فتاة من عائلة أقل من هذه مكانة اجتماعية أو أدبية؟ أأضطر إلى قبول فتاة "زي ما تيجي والسلام"!

ولكن ما الذي يجعلني اتشاءم هذا التشاؤم. وأقفل الطرق أمامي هذا الإقفال! من أدراني، فقد لا تنظر عائلة الفتاة إلى هذه الاعتبارات ؟ غاية الأمر أنها ستتقصى أخباري وتستعلم عن اخلاقي وتستفسر عن راتبي ... عندئذ ستعلم :

- أفي أحمل دبلوم معهد الدراسات العليا التجارية، - أتي أعمل ببنك التسليف العقاري منذ عامين، أي منذ حصولي علي دبلوم معهد الدراسات العليا التجارية ، وكنت قبل ذلك أعمل بشركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى كاتباً بسيطاً نظراً لشهادني البسيطة إذاك (شهادة التجارة المتوسطة).

- أن راتبي بالبنك أربعون جنيهاً - تزيد بعد الزواج ثلاثة جنيهات ونصف: علاوة اجتماعية، فيكون المجموع ثلاثة وأربعين جنيهاً ... ونصف جنيه.

- أني مستقيم جداً ... لا أدخن ولا أشرب ولا ارتاد القهوات .

هذه هي مؤهلاتي ؛ وأحسب أن عائلة عاقلة لا يمكن أن ترد طالب يد ابتها وعنده هذه المؤهلات.آه. وهناك مؤهل آخر لم أذكره وإن كان أهمها جميعاً، وهو أني أنوي العيش بعيداً عن عائلتي عند الزواج، فلا تتدخل والدتي في شئون زوجتي. وأظن أن في هذا راحة للطرفين معاً فضلاً عن السعادة التي ستشعر بها زوجتي إذ ترى نفسها مستقلة في بيتها الجديد لا شريك لها فيه.

شئ مضحك ؛ أبكل هذه الميزات أخاف أن تردني هذه العائلة! إني أسبق الحوادث أو أحاول أن أسبقها!

فالحديث في هذا الصدد لم يجر بين أحد وبيني، أو بين عائلتي وعائلة مارجو. كل ما في الأمر أني رأيت الفتاة ورآها أهلى فأعجبت بها كما أعجبوا بها، ثم رشحوها لي فقبلت ترشيحهم إذ صادف عندي هوى أيضاً. أعني أن أية خطوة مباشرة في تحقيق هذه الخطبة لم تؤخذ بعد . فإلى أن يدخل الموضوع في دوره النهائي الحاسم يجب ألا أفكر في كل ما بإمكانه زعزعة ثقتي بنفسي وإقلاق راحتي النفسية، يجب أن أدخل في رأسي أني "كفء" لها.

١٢ يونيو ١٩٥٠ خرجت اليوم بعد الظهر وحيداً أتمشى دون غرض ، فقادتني قدماى إلى جهة الجزيرة، ثم قبالة المعرض، في هذا الشارع الساكن كنت أجرجر قدعي على الرصيف الفارغ من الناس إلا مني، وأدور بعيني في طول الشارع وعرضه: لا حركة بعيدة ولا صوت قريب، إلا اطراد قدمي تدقان الطريق الصلد، وزحف السيارات المتهادية دون انقطاع .. ومن خلفي سمعت خطي نسائية وئيدة ، وأقدام خفيفة تدب جوارها ، وصوت عجلات صغيرة تدور في مهل وبطء. ولكنها كانت أسرع مني على أي حال: فقد حاذتني وتعدتني. وسمعت صوت المرأة وهو يقول :" ... رسمها دافنشي فيما يقرب من عشر سنوات . . " لم أسمع غير هذه العبارة ، فقد كنت أفكر في نفسي من جهة ، ولأن الصوت كان بتناءى ويتلاشي شيئا فشيئا.

كانت المرأة شابة لا تعدو الخامسة والعشرين، تدفع أمامها عربة يد تحمل وليداً رضيعاً، وإلى جوارها كان يمشي صبي لم يجاوز الثامنة أو التاسعة. وجال يذهني أن هذه العبارة التي قيلت في لهجة فرنسية عذبة لابد أنها تتصل بهذه اللوحة الخالدة: "الجوكونده" التى صرف ليوناردو دافنشي في التفكير فيها ورسمها أعواماً طوالاً ... فجعلت أتساءل: كم من امرأة مصرية مثقفة يمكنها أن تلقن ولدها بمثل ما تلقن به هذه الفرنسية طفلها؟ هذه امرأة أجنبية تحادث ولدها الصغير كأنها في مثل سنه، أو كأنه في مثل سنها، حديث الند للند، حديث الكبير للكبير، يسمع منها وتسمع منه في تفاهم مشترك وتبادل في الأفكار جميل. كم امرأة مصرية تعنى بتلقين ولدها وتربيته بنفسها كما يجب؟! كم امرأة مصرية لها من الفهم ما يجعلها قادرة على ألا تحرج

عندما تقف موقف التلميذ المرتبك أمام ولدها للتيقظ ... الراغب دائما في أن يسأل وأن يعرف؟! لا ترى الأم المصرية في ولدها غالباً غير مخلوق يأكل ويشرب، حتى تأتي السن التي يذهب فيها إلى المدرسة فتنقطع بينه وبينها كل صلة إلا الصلة المعيشية، وكأن وظيفة الأم هي حشو بطون أطفالها بالغذاء الدسم. حبذا لو عنيت بحشو أدمغتهم بشيء من الثقافة .. أى ثقافة عقلية مهما تكن  ولكن كيف وأمهاتنا جاهلات للأسف!

إنهم يصفون البيت دائما بالمدرسة الأولى. أجل، في الشرق والغرب البيت هو المدرسة الأولى، ولكن في الشرق، والمدرسة دون معلم، ينشأ الطفل "شيطانياً" كما تنبت  الملوخية" في حل القطن دون أن يتعهدها بالري متعهد، بينما في الغرب ، والمدرسة يقوم فيها معلمان هما الوالدان، يشب الطفل على أنه سيكون يوما ما رجل مجتمع كامل، ورب بيت كامل؛ ينشأ فيجد حوله والدين في تمام الانسجام والوئام، يتناوله ثقافياً وكأنهما في طفولته أستاذان يربان في تليمذهما أمنية جميلة يجب أن تتحقق

- أو علي الأقل يسعيان إلى تحقيقها - وحلما لذيذاً يجدان في السعي إليه.

ليس لي أمل إلا أن أرى زوجتي في نفس موقف هذه السيدة من وليدها .. موقف الأستاذ والمربي والأم والصديق، وهل أجد غيرك، أي مارجو، أما مثالية لأولادي؟!.

١٥ يونيو ١٩٥٠ . إني أقسم أمام الله أني لن آلو جهداً في إسعاد "زوجتي" مارجو وفي حبها ورعايتها والسهر على راحتها وجعلها أهنأ مخلوقة على الأرض، كما أني سأجعل منها نصفي الكامل الذي له من الحقوق والواجبات مثل ما لي تماما، أى أني سأصنع منها إنسانة كاملة لا مجرد زوجة .

ما الذي أهذي به؟ ولماذا أتزوج إذاً لم يكن كل هدفي في الزواج إسعاد زوجتي وحبها ورعايتها والسهر على راحتها وجعلها أهنأ مخلوقة على الأرض!! لماذا أتزوج إذاً إذا لم يكن كل هدفي أن أجمل منها نصفي الكامل الذي له من الحقوق والواجبات مثل مالى تماما؟!.

١٨ يونيو ١٩٥٠. ماذا أقول وماذا أكتب! أهناك شئ أقوله الآن

أو أكتبه بعد أن انهارت كل أحلامي وتحطمت كل أماني؛ مارجو لقد ذهبت مارجو وتسربت من حياتي كما يتسرب الماء من راحة اليد. لقد كانت الصورة التى أعددتها لتشغل الإطار الفارغ: إطار حياتي، فأبت علىَّ الظروف إلا أن تحرمني من الصورة التى جاءت أخيرا وفق أحلامي!

ماذا أقول وماذا اكتب؟ أأقول: فقدتها ! أأكتب: أضعتها! وهل كانت مارجو لي حقا في يوم من الأيام؟ إني لم أفقدها ولم أضيعها. كل ما في الأمر أني خدعت نفسي وخيلت لها أنها عروسي . أجل، كم كنت أبله أحمق أن أصور لنفسي الأشياء وفق رغباني وأماني!

لبت ابن خالتي لم يزرنا اليوم، وليتني لم أفاتحه في الموضوع ... إذا لظللت أحلم بمارجو أياماً اخرى: تارة أصورها وأتخيلها خطيبتي، وتارة زوجتي، وتارة أماً لأطفالي!.

ليت ابن خالتي لم يزرنا اليوم مصطحبا زوجته، وليتني ما ألحت عليه في أن أنفرد به: " هناك موضوع مهم أود أن أحدثك فيه"! ليته لم يطعني، وليته تغاضي عن رغبتي في الانفراد به، إذا لظللت حتى الآن، وحتى غد، وحتي بعد غد، أرسم لنفسي المشاريع مع هذه الفتاة الحلوة اللطيفة التي جاءت صورتها مطابقة لما رأيته في حلمي ذاك القديم الغريب.

ولكني انفردت به وقلت له مستبشراً خيراً ؛ يا ابن الخالة لى عندك مطلب. فقال جاداً مجاب، وإن عز . قلت: إنها ابنة خالة زوجتك ؛ إني أريدها زوجة.

عندئذ ارتسم على محياه الجد وقال : ألم يعجبك غيرها في عائلة زوجتي؟ قلت: هي التي ملأت قلبي وأخذت على مسالك فكري. قال وهو يضحك: إنها ... فاستعجلته الحديث: ماذا؟ قال : تكاد تكون مخطوبة لابن عمها! هذه هي الحقيقة جابهني بها ابن خالتي! ولكن ... ما ذنبه ؟ ألا سامح الله ابن عم مارجو، وهل بيدي الآن إلا أن أبحث عن فتاة أحلامي جديد؟!

اشترك في نشرتنا البريدية