الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

ابو القاسم وتجربته الشعرية

Share

ذكريات وخواطر

كان اول اتصالي بشعر ابي القاسم الشابي عن طريق معلم أتى لاجئا الى تاكرونة سنة ١٩0٣ في ايام الحرب الكالحة وكنا منحدرين من الربوة الشامخة في طريقنا الى النفيضة وقد امتطى حمارا استعاره وكنت انا راجلا وانشدنى بعض ايبات من قصددة " صلوات في هيكل الحب " فطربت لانشاده وصادف شعر ابى القاسم هوى في نفسي وخاصة هذا البيت الجميل الذي بقلت اردده مدة سنوات :

كل شيء موقع فيك حتى             لفتة الجيد واهتزاز النهود

ومن الطبيعي أن تنمي ظروف الحرب ميل الناس الى المغازلة والتغزل . واشتقت الى التمادي في معرفة شعر ابى القاسم الذي كان مجهولا في ذلك العهد .

ثم شاءت الاقدار أن رحلتني وأهل قريتي سيارات نقل عسكرية إيطالية والقت بنا في قرية دار شعبان قرب نابل فأكرم أهلها مثوانا وكنا عددا فمكثنا ما شاء الله حتى انتهت العمليات الحربية وهذا لك أطلعني صديقي المرحوم محمد البشروش على كثير من قصائد أبي القاسم ونقلت ما عثرت عليه في ذلك العهد عن طريقه وفي كراس اصطحبته مدة طويلة .

وفي يوم من ايام سنة ١٩٤٤ كنت سائرا في ناحية باب البنات فاستوقفني امام مقهى نهج الباشا صوت اعرفه لانه صوت صديقي عبد العزيز العقربي كان ذلك الصوت خارجا من " راديو " المقهى

يغني في القرار والعقربي يبدع اذا اختار القرار تأدية للصوت . كان يغني ابيات الشابي :

يا ابنة النور انني انا وحدي

من رأى فيك روعة المعبود

فدعيني اعيش في ظلك العذب

وفي قرب حسنك المشهود

عيشة للجمال والفن والالهام

والطهر والسنى والسجود

عيشة الناسك البتول يناجي الر

ب في نشوة الذهول الشديد

فخيل الي ولا أدري لماذا أن صوته يدوي في احدى الهياكل الفرعونية باساطينها الضخمة العالية - وقد بقي ذلك الصوت يدوي في اركان روحي الى يومنا هذا وعجز العقربي على تاديته لي فذهبت به الصدف التي أولدته - وكنت افكر في تلك المدة في وجوب تلحين بعض قصائد ابي القاسم تلحينا ملائما لمعانيها ونفسها ووافق ذلك مدة كنت اذهب مع شمس الدين الى مقهى المرابط لاستماع اسطوانات ام كلثوم واسمهان ومدة نقلت لاستاذي في الموسيقى صالح المهدي قطعة يونانية عتيقة عثرت عليها ليعزفها لي على الناي . وكنت - والحق يقال - أعلق آمالا جساما على صديقي صالح المهدي واشجعه على مواصلة تكوينه بالمعاهد الاوربية ليقدر يوما على اداء شعر ابي القاسم ولكن محاولاتي ذهبت سدى لان صالحا اصبح اليوم قاضيا محترما فوجم نايه كما يقول الشابي - وسقط شعر ابى القاسم بين قوم لحنوه فاضاعوه .

هذا هو ابو القاسم الشابي بالنسبة لي - جانب هام من شبابي وذكرياتي - ملابسة كلية بروحي .

عاش ابو القاسم الشابي غريبا بين رهطه غريبا في الكون فصعد شعره حنينا حنينا الى امس جميل بعيد ورنوا الى غد ناء سعيد

أمس البعيد

كان ابو القاسم الشابي يحن الى عهد بعيد عهد الطفولة الى ما يسميه " بالجنة الضائعة "

كانت تبدو له الطفولة الضائعة في صورة منظر طبيعي خصب مفعم بالاشكال فيه المروج والغدير والجبل المكلل بالصنوبر والصخور وكثير من الجداول اللاغية مع العصافير المحطمة للصخور .

تعبث ... بالصخر المحطم بالجداول ويرفرف فوقها " اسراب من الفراش المستطير "

ويذيب عليها الوانا ناصعة ثمينة فهي       فضية الاسحار مذهبة الاصائل والبكور

تلك هي الطبيعة الرطبة الثرة التي يمقتها ابن التخوم الصحراوي الجزائري صديقي القديم مصطفى الاشرف لانها تلتصق بالانسان التصاقا .

نمحى الخطوط وتختلط الاشكال وتتكدس وتحترق الاضواء حجابا بخاريا فتسيل على الطبيعة الوانا منبسطة لا عمق لها ولا إشعاع بل تلمع لمعان الغدر الساكنة

ويمرح ابو القاسم في هاته الطبيعة الخصبة مع صبية وكأني بهما يلعبان دورا مضبوطا من قبل ، فجميع الحركات التي يقومان بها تتصل اتصالا متينا بنوع من الادب والرسم شهيرين .

ألم يذكرنا قطف " تيجان الزهور " والعدو وراء النحل والفراش ومخاطبة الاصداء واعادة اغنية السواقى والرقص بالادب الرعائي في كل زمان ومكان .

ان الجنة الضائعة لا تفقد ولو الحمار السادج الوديع

كان لابي القاسم ميل الى الوداعة والسذاجة وتلك النزعة المتأصلة في نفسه دفعته الى التعبير عن طريق اساليب فنية مبتذلة متصنعة نوعا ما

وقد دعاه ذلك الميل الى طرق الموضوع الرعائي مباشرة .

من اغاني الرعاة

هى قصيدة شهيرة سمعها جميع الناس خاصة بعد ان لحنها علي الرياحي فأكد على مواطن الضعف فيها فأداب قيمتها .

طرق فيها ابو القاسم موضوع الحياة الوديعة الساذجة حياة الرعاة في شعر لين سلس ذي قيمة موسيقية ممتازة .

في هذا القصيد ما في الجنة الضائعة من زخرف وامحاء للخطوط وتغلب للرطوبة ، خطوات بطيئة ناعسة واضواء تتهادى او تسيل كالمياه وواد وكلأ وورد وشبابة " تشدو بمعسول النشيد " وخراف وراع يصعد نغما " كالبلبل الشادي السعيد " انه شعر لين مائع لا يخلو احيانا من فساد الذوق :

فاقطفي ما شئت من عشب وزهر وثمر      أرضعته الشمس بالضوء وغذاه القمر

وادي الزمان

ولكن ابا القاسم بعيد كل البعد عن حياة الوداعة والطهر التي يحن اليها راجعا بخياله الى عهد الطفولة او الى حياة راع سعيد لا يعرف الجوع والعراء بل يقضي حياته في جمال الطبيعة مع خرافه عازفا على شبابته .

شعر بما يشعر به كل انسان مرهف الاحساس اذا غادر عهد الطفولة واصطدم بواقع الحياة .

وكانت الصدمة اشد لان نفسه كانت مرآة تنعكس عليها آلام قومه فسخط على الحياة في تشاؤم واحس انه يقطع وادي دموع

كيف كان يتخيل وادي الدموع هذا حسب استعمال التوراة -  او " وادي الزمان " كما يقول الشابي.

انها صورة بسيطة لا عمق فيها ولا اتساع تمثل سفح جبل كثرت فيه الصخور والاشواك والشاعر يحاول الصعود فيعثر ويسقط على الاشواك .

انها صور معاكسة لصور الامس فالوادي عوض الربى والصخور القاحلة حلت مكان النبت الملتف والاشواك ، عوضت الزهور والظلمة خلفت الضياء وامسى الشاعر يتسلق " ويدأب في المسير " ويتعثر بعد ان كان يمرح ويرقص مع الصبية او يتهادى في مشيته كالراعي ويحولنا ابو القاسم من جو غلبت عليه الميوعة الى جو سادت عليه الصلابة .

وكثيرا ما نجد الحصى والحصباء والاشواك في شعر الشابي ملازمة لهذه الناحية من عالمه ، ناحية الظلمة والالم .

لا نجد في هذا التصور للالم اي عمق بل هو تعبير يكاد يكون صبيانيا في بساطته .

ها هنا في خمائل الغاب

ان كل شاعر حقيقي يدعونا الى الفرار من الواقع ومصاحبته في رحلة تنسينا آلام الوجود فما هي الرحلة التي يدعونا اليها الشابى ؟

انه يفر الى الغاب تحت الزان والسنديان والزيتون وحيدا في كوخ حقير ( النبيء المجهول ) او مع امراة جميلة شهية هي خلاصة ما في الطبيعة من انواع المحسوسات .

انت اشهى من الحياة وابهى           من جمال الطبيعة الميمون

ليست دعوة ابي القاسم دعوة الى الجمال المجرد بل الى جمال حسي يدخل اللذة على جميع حواسنا .

المرأة الشهية

تلعب المرأة في شعر ابي القاسم الشابي دورا اساسيا . فهي التي تعينه على الخروج من الواقع ولذلك تتنوع بتنوع التجارب التي يقوم بها الشاعر فلسنا أمام امرأة واقعية واحدة نستطيع ان نعرفها ولكن امام صور صاغهن خيال الشاعر واذاب فيهن اشواقه فكل واحدة نغمة من نغمات روحه وعبير من عطور انفاسه اذا اردنا ان نحاكي الشاعر .

واني شخصيا آسف لعدم القدرة على العثور على امرأة أحبها الشاعر اثناء حياته وغناها في شعره ولكن اعتقد انه لو وجدت هذه المرأة سواء اكانت فارسة أمريكية أو فتاة ايطالية غضة في الواقع ولو احبها فانه أعاد صوغها من جديد فاصبحت لا تعرف .

إن المرأة التي نتعرف لها في قصيدة " تحت الغصون " و " الساحرة " هي صبية " الجنة الضائعة " وقد كبرت هي صورة شهية للطبيعة الغضة الطرية فيها ما في الطبيعة من عطر ونغم وطراوة هي امرأة يلتذ بها ولذا نجد في القصيدتين تأكيدا على التقبيل ووصفا للقبل لم نجده فيما عاداهما .

إن الرحلة التي يدعونا اليها تفضي الى عالم شبيه كل الشبه بالجنة الضائعة جنة الطفولة ولكنها جنة قد أضاعت طهرها لانها رنت فيها " قبل عبقرية التلحين "

العالم السفلي

انها مأساة انسانية عادية تجري في سطح واحد ولا نجد فيها أي سمو هي مأساة تتوالى فصولها في عالم سفلي يبدو في انبساط ألوانه ونصاعتها وسيلان اضواءه وترتيب أشكاله شبيها بتلك الصور التي يكلف الاطفال بتزيينها بالالوان :

ذاك هو الجانب الصبياني من فن الشابي

ربما يمثل ذلك النوع من الشعر مرحلة من مراحل حياة الشابي الفنية ولا نستطيع ان نحددها وليست لدينا طبعة نقدية للديوان ادخلت على قصائده ترتيبا يراعى تواريخ تأليفها .

لربما كان الشابي في تلك الحقبة الاولى من حياته الشعرية متأثرا بشعراء

المهجر وبما عثر عليه واستمع اليه من تراجم لاسخف ما انتجه الادب الفرنسي في أوائل القرن التاسع عشر .

لربما وقع حدث هام في قرارة نفس الشابي في يوم من الايام وقذفت في جنائه شرارة اتت على عالم الورق المقوى المزخرف بالالوان الذي اقامه وكشفت مكانه عالما آخر عميقا كالازل .

وقعت الواقعة وهبت عليه رياح علوية لما كف عن احتمال مصيره وتساءل عن نفسه رابطا الصلة بينه والعالم المحيط :

نحن نمشي وحولنا هاته الاكوان تمشي لكن لاية غاية ؟ فهذا السؤال الذي يلقيه على العالم يحرره من تحمل مصيره وتجرع آلامه ويجعله " يصيخ للصوت الالهي الذى يحيى في قلبه ميت الاصداء "

وعندما ينكشف الغطاء وترفع الحجب وتزول الاوهام يبدو لنا عالم جديد شبيه بالاخر ومخالف له كل المخالفة كما لو ابدل النحاس ذهبا :

الاضواء تشع اشعاعا والظلمة عميقة والالوان ذات عمق والاشكال خفيفة نورانية كان النور يخترق كل شيء او كأن النار تلتهب في كل مكان فتزيل جميع الادران وتطهر العوالم تطهيرا .

ونرى الشابي يقطع نفس المراحل ولكن كان يحن الى جنة الطفولة فاصبح يحن الى ما قبل الميلاد وكان يفر الى الجبل المكلل بالصنوبر ويدعونا الى الرحيل فاصبح يرنو نازعا الى " الفجر الجميل النائي " ، كان يتصور الحاضر في صورة واد مليء بالآلام فاصبح يتصوره كوادي غربة سقط فيه او كسجن بأمل ان يتحرر منه .

ان المأساة الارضية اصبحت محنة يمتحن بها الله صفوة عباده فنرى الشابي يتحمل محنة الكون بأجمعه ويرنو مع الكون الى النجاة وهي بعيدة محجبة مثل إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد .

المحنة الكونية

ان قصيدة " الاشواق التائهة " تعطينا صورة واضحة لمراحل المحنة : يحن أبو القاسم الشابي الى ما قبل الولادة الى تلك الحرية المطلقة لما كان

عطرا يرف فوق ورود " علوية " و " ضوء " شائعا في الوجود غير " سجين " ينهل " الضباء " كان عطرا على عطر ونورا على نور .

هكذا بتصور الحياة الازلية التي سبقت حياة الدنيا ، انها حرية مطلقة وانتشار وعطر وضياء يشبه ضوء الفجر وكثيرا ما يتردد ذكر الفجر في شعر الشابي مع ذكر الورود .

ولكن تلك الروح التي كانت " تتهادى في ضمير الآزال والاباد " سقطت في يوم من الايام مشهود وابتدأت حينذاك محنتها .

وانقضى الفجر . . فانحدرت ترابا الى صميم الوادي وفكرة السقوط هاته تجعل لشعر الشابي نبرة افلاطونية فهكذا نزلت الروح يوما في رأي افلاطون حلت بسجن الجسد ويشارك الشابي ابن سينا في قوله :

هبطت اليك من المحل الارفع      ورقاء ذات تعزز وتمنع

ولربما كان الشابي في التعبير عن فكرة هبوط الروح وحلولها بجسد اقرب الى ابن سينا لانا نعثر عنده على فكرة التمنع في ذلك الطابع البديع للابد الصغير .

ياقلب كم فيك من دنيا محجبة      كانها حين يبدو فجرها إرم

وتقضي الروح في هذه الدنيا حياة غربة وتشرد .

شردت عن وطني السماوي الذي           ما كان يوما واجما مغموما

شردت عن وطني الجميل انا                الشقي فعشت مشطور الفؤاد يتيما

انها تاثهة هائمة ويعنون الشابي قصائده " صوت تائه " واغاني النائه والى قلبي التائه و " الاشواق التائهة " وتنعكس في قلب ذلك الشاعر التائه اليتيم الذي يحن الى " الفجر " محنة الكون بأجمعه لان قلبه قبس من نور الكون وأبد صغير ونرى في تلك القصيدة الرائعة التي تمثل في نظري قمة شعر الشابي وهي " الابد الصغير " كونا يسود عليه العنف وتسطو القسوة فهي نظرة كونية شبيهة بالتي كان يلقيها على الكون فلاسفة يونان في القرن السادس قبل المسيح امثال ديموكريتيس . هو كون في تبدل مستمر وحركة قوية عنيفة تعصف فيه عواصف علوية فتفجر المادة تفجيرا .

وكم ضفرت اكاليلا مورودة          طارت بها زعزع تدوي وتحتدم

وتدفع الجداول دفعا الى " بحار تغني فوقها الديم " وتاتي على الكواكب فتنسفها نسفا وتتساقط فيها شهب ترجم اشباحا هائمة لانها اقترفت اثما لا علم لنا به

وكم رأى ليل الاشباح هائمة            مذعورة تتهاوى حولها الرجم

ان ابا القاسم الشابي هو الذي اخترع اقوى عبارة للتعبير عن منتهى ما يصل اليه الانسان من ياس او - بتعبير صوفي - من ضياع ،

وأماشي الورى ونفسي كالقبر وقلبي كالعالم المهدود

الواسطة المنقذة :

واذا انحدر ابو القاسم " ترابا الى صميم الوادي " وادلهم عليه الليل ليل الروح واحس بانه وصل الى القاع ارتفع صوته من اعماق الهوة مستغيثا يرنو " الى الفجر الجميل النائي "

ويجد في المرأة مغيثا يلبي دعوته اذا دعاه وتسمو به الى العوالم العلوية

أراك فتحلو لدي الحياة            ويملأ نفسي صباح الامل

وتنمو بصدري ورود عذاب      وتحنو على قلبي المشتعل

ومن الغريب ان يعبر ابو القاسم عن فترة التجلي تلك الفترة التي يبزغ فيها فجر الامل بصور رمزية قريبة من الرمزية النصرانية . ما اقرب تلك الورود الحمراء المنحنية على نار متأججة من بعض اللوحات الدينية المسيحية .

ان المرأة هي التي تنقذ الشاعر من عالم صلب متحجر قابع في الاعماق ثقيل فتمس الشاعر بلظى منها فيلتهب وفي هذا الطور نرى تغلب النار المتأججة على جميع الصور فهي التي تتغلغل وتمنح جميع الاشياء خفة وسموا ورقصة موقعة

كل شى موقع فيك حتى   لفحة الجيد واهتزاز النهود

ما هي تلك الواسطة التي تأخذ بيد الشاعر فتفتح له اسرار الكون وتصله بالعالم العلوي انها الطفولة والخلود :

عذبة انت كالطفولة كالاحلام             كاللحن كالصباح الجديد  

..انت قدسي ومعبدي وصباحي          وربيعي ونشوتي وخلودي

وهي ملاك طاهر وامرأة شهية :

يا لها من طهارة تبعث التقد       س في مهجة الشقي العنيد

أم ملاك الفردوس جاء الى الار            ض ليحيي روح السلام العهيد

كل شئ موقع فيك حتى                    لفحة الجيد واهتزاز النهود

انها الطبيعة بأكملها بثلوجها وورودها وامواجها وربيعها وموسيقاها وعبيرها ترى عند تجليها وتسمع وتشم وتذاق ، كل الحواس تتمتع بها وهي ايضا الازل تحمل معها رغم ما تحتوى عليه من متناقضات توقا الى المبادىء المثالية والغد السعيد ووظيفتها في هذا العالم اتقاذ الآثمين الذين انحدروا في الوادي

ودعيهم يحيون في ظلمة الاثم             وعيشي في طهرك المحمود

وفكرة الاثم الذي ارتكبته البشرية فباءت بغضب من الله يعطي لشعر ابي القاسم صبغة تجربة لها طابع صوفي :

اي اثم مقدس قد لبسنا به          برده في مسائنا الميمون

ويصطبغ السعي وراء النجاة بصبغة دينية واضحة . لطالما عبد ابو القاسم الشابي المرأة لان الجمال وسيلة لمعرفة العالم العلوي ( انظر الى صلوات في هيكل الحب )

حالة التجلي :

عاش ابو القاسم الشابي يرنو دائما " للفجر للفجر الجميل النائي " وعلى قدر بعد ذلك الفجر كان توقه اليه عنيفا يبرز في تلك الصور العارمة التي يمتاز بها الشابي فيما اسميه " بشعر السعي " بالمعنى القرآني : يسود على ذلك النوع من شعر الشابي الذي يبدو خاصة في " صلوات هيكل الحب و " ارادة الحياة " و " نشيد الجبار " و " الاشواق التائهة " عنصر النار المتأججة فهي التي تذيب الصخور وترسلها هاوية تحطم كل ما اعترضها وهي التي تجعل الدماء متفجرة :

او طائرا ساحرا ميتا قد انفجرت       في مقلتيه جراح جمة ودم

عارمة :

سيجر فك السيل سيل الدماء         ويأكلك العاصف المشتعل

وما اقرب دماء كهاته من اللهيب وما اقرب اللهيب من ورود الشابي المنحنية على النيران كما رأينا او المتفتحة تفتحا هائلا تدوخ الرؤوس بعبيرها وتنشر عند دبولها في الفضاء " اوراقا بدادا من ذابلات الورود " ونسمع احيانا نايا

بعيدا يصعد في الفضاء الحانا شبيهة باللهب وشبيهة ايضا بعبير الورود ذلك هو عالم الشابي الذي يجعل منه اثناء سعيه الى الحقيقة وتوقه إلى الازل شاعرا ناريا متأججا .

ويبدو له احيانا في حالات ممتازة تشبه احوال الصوفية ذلك الغد المنتظر الذي ينزع اليه بكل مهجته يبدو له في صورة فجر او صباح جديد

واطل الصباح           من وراء القرون

انه فجر بعيد بعيد جدا له لون ذلك الفجر الذي يحبه ولكنه اصفى واطهر لونا ومنظرا فهو نار هدأ لهيبها فاصبحت صلاء نورانيا يبدو عن بعد او منهل اضواء . انه فجر الجمال السرمدي يتوق الى الحلول حلولا ازليا

لاذوب في فجر الجمال السرمدي            وارتوي من منهل الاضواء

وكانى بالشابى فى احدى تجلياته رأى عن بعد ما سماه مواطنه القديس أو غيسنيوس " مدينة الله " إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد

يا قلب كم فيك من دنيا محجبة       كانها حين يبدو فجرها ارم

وتجلت ارم في قرارة قلب الشابي كاشارة من اشاراته اثر عملية باطنية عميقة هي من قبيل التجربة الشعرية التي هي شبيهة بالتجربة الصوفية

استطاع ابو القاسم ان يتحرر من قيود التقاليد البالية والمحاكاة للقيام بتجربة روحية فريدة من نوعها في الآداب العربية قديما وحديثا .

اشترك في نشرتنا البريدية