لم تمض أسابيع قلائل على مصرع ألمانيا النازية ، وتحقيق النصر الذي جاهدت الأمم المتحدة في سبيله ستة أعوام مثقلة بالشدائد ، حتى أخذت السحب تغشي الأفق الدولي ، وأخذت المسائل الشائكة تبدو متعاقبة ، وتنذر بتكدير صفو السلم الذي يتطلع إليه العالم الظميء إلى الاستقرار والسكينة ، وأخذ شعور من القلق والتشاؤم يغشى بهجة النصر التي لم يفق العالم بعد من نشوتها .
ولقد كان تحقيق السلم المبني على احترام الحقوق القومية والمبادىء الإنسانية شعار الأمم المتحدة طيلة هذا الصراع العالمي المروع ؟ وما فتئت الامم المتحدة تردده وتؤكده في كل عهد تصدره أو مؤتمر تعقده ولكن ما بدا مذ لاحت تباشير النصر من ضروب الخلاف بين
وجهات نظر الدول الكبرى ، وما ظهر بعد النصر من تفاقم هذه الخلافات ، ومساسها ببعض المبادئ الأساسية التي قطعتها الأمم المتحدة في ميثاق الاطلنطيق وغيره ، مما يتصل أوثق الصلة بأسباب هذا القلق الذي يغشى الآن الأفق الدولي ، ويثير جزع كثير من الأمم التي علقت على انهيار صروح الطغيان الفاشستي والنازي أعظم الآمال .
بيد أنه قد يكون من التعجل أن نغلب منذ الآن وج التشاؤم فيما نشهد من ظهور بعض المشاكل الإقليمية والسياسية المترتبة على انتهاء الحرب في أوربا ، وتحرير الأمم المغلوبة ، فظهور مثل هذه المشاكل أمر طبيعي في مثل هذا الوقت الذي تضطرم فيه الشهوات القومية والسياسية لدي بعض الأمم الطامحة إلى تحقيق المغانم باسم
الكفاح المشترك ؛ وكل شئ يتوقف في كبح جماح هذه الشهوات الخطرة على مسلك الدول الكبرى ، فإذا تناولت الأمور بروح الحزم ، والتجرد عن الأهواء ، ومراعاة مصلحة السلم دون سواه ، كان لنا أن ننتظر حلولا حاسمة موفقة لمشاكل أوربا الإقليمية والسياسية في مؤتمر الصلح القادم . وأما إذا اتخذت هذه المشاكل ستارا لصراع الدول الكبرى حول مناطق النفوذ ، ودفعت الأمم الصغرى إلى أن تلعب دورها الخطر ، فإنه يخشى أن تنحدر أوربا إلى غمرة طاحنة من الفوضى على غرار ما حدث عقب الحرب الكبرى
وإذا لم يكن من الخير أن نستبق القول في الحكم على مصاير أوربا ومصاير السلم في تلك الآونة التي يسودها الغموض والتناقض ، فقد يكون من المفيد أن نحاول فهم العوامل التي توجه سير السياسية الأوربية الحاضرة ، وتوجه مسلك الدول الكبرى إزاءها .
ويجب أن نذكر أولا أن العوامل التاريخية والسياسية القديمة تلعب دورها بالرغم من كل شئ ، وكل ما هنالك أنها تحاول أن تفيد من التغييرات الجديدة التي طرأت على أوضاع القارة الأوربية ، والتي ترتبت بالأخص على اختفاء ألمانيا وإيطاليا من ثبت الدول العظمى .
فروسيا السوفيتية التي تغدو بعد انهيار ألمانيا أعظم قوة عسكرية في القارة ، تتجه اليوم في سياستها الدولية إلى تحقيق أغراض السياسة القومية ، وهي لا تختلف في جوهرها عن أغراض السياسة القيصرية القديمة ، وتنحصر هذه الأغراض فيما يأتي :
أولا - تدعيم سيادة الجنس السلافى وتفوقه في شرقي أوربا وأواسطها . وقد لبثت معركة الجنس السلافى والجامعة الجرمانية عصورا من أهم ظواهر التاريخ الأوربي ؛ وقد بلغت هذه الحركة السياسية والاجتماعية ذروة الخطورة منذ
قيام النازية ، وشعارها تفوق الجنس الآري وسيادته ، وكان غزو الحيوش الألمانية لروسيا خلال هذه الحرب أعظم مجهود قامت به الجامعة الجرمانية لإخضاع الجنس السلافي وإبادته ؛ ولكن هذه الحركة الهائلة انتهت بهزيمة الجامعة الجرمانية وظفر الجنس السلافى أعظم ظفر حققه في تاريخه ؟ وسيتترتب على ذلك أن تبقى ألمانيا زعيمة الجامعة الجرمانية عصرا في حالة ضعف وانحطاط شديدين ، وتستقبل روسيا زعيمة الجنس السلافى أعظم عصر من القوة والنهوض .
ثانيا - أن تستأثر روسيا بالنفوذ السياسي والأدبي فيما تعتبره مناطق سلامتها ، ويشمل ذلك شرقي أوربا وأواسطها وبلاد البلقان على منطقة البواغيز التركية التي تعتبرها روسيا منذ عصور ذات صلة وثيقة بسلامتها . وتري روسيا بوجه خاص أن كل ما يتصل بحدودها الغربية والجنوبية من المسائل الإقليمية مما يتصل مباشرة بسلامتها ، ولذلك تعتبره من مسائلها الخاصة التي لا تقبل فيها تدخلا أو مناقشة من أي نوع ومن ثم كان موقفها الصارم ، من المسألة البولونية ، وتعقد هذه المسألة إلى حد الخطورة .
وهذه الأغراض السياسية البعيدة المدي التي يلوح لنا أن السياسة الروسية تتخذها شعارا لها تقترن باتجاهات اجتماعية لها خطورتها ؛ ومع أننا لا نعتقد أن موسكو سوف تحاول فرض نظمها الاشتراكية على الأمم الأوربية ولا نعتقد أن نظم أوربا الديمقراطية سوف تتحول إلى بلشفية أو شيوعية كما يتوهم البعض ، فانه من المعروف أن موسكو لا تقضي عن قيام ما تسميه بالنظم المشبعة بالروح الفاشستية كما هو الشأن في تركيا وأسبانيا ، كما أنها تعطف على الاتجاهات الاشتراكية والشيوعية ، كما هو الشأن في موقفها من اليونان ويوجوسلافيا .
يقابل هذه الاتجاهات موقف السياسة البريطانية من
شئون القارة الأوربية . وقد كانت السياسة البريطانية تقوم قبل الحرب الحاضرة على مبدأ التوازن ، بين الدول العظمى ولا سيما بين فرنسا وألمانيا من جهة وبين فرنسا وإيطاليا من جهة أخرى . ولم يكن يحسب لروسيا البلشفية في هذا التوازن كبير حساب لعزلتها السياسية والاعتقاد السائد في تفككها وضعفها ، ولكن اختفاء ألمانيا وإيطاليا من ثبت الدول العظمى ، وانهيار فرنسا إلى أمد طويل ، يضع السياسة البريطانية ومن ورائها حليفتها الغربية الكبرى أمريكا إزاء السياسة الروسية وجها لوجه . ومع أنه لم يبق اليوم مجال لسياسة التوازن الأوربي القديمة ، فان السياسة البريطانية ما زالت عند غاياتها التقليدية في الاحتفاظ بنفوذها السياسي في غربي أوربا وفي حوض البحر الأبيض المتوسط . ومن الواضح أن سيطرة بريطانيا على البحر الأبيض المتوسط تغدو اليوم أقوى وأتم ، بعد أن فقدت إيطاليا شواطئ برقة وطرابلس وأرغمت على تسليم أسطولها ، وبعد أن فقدت فرنسا معظم وحداتها البحرية .
تلك هي الاتجاهات السياسية التي تغلب اليوم القارة الأوربية من الجانبين الشرقي والغربي . ومن المعروف أن الدول الثلاث الكبرى قد تفاهمت في مؤتمر القرم إلى جانب الشئون العسكرية ، ومناطق الاحتلال ، على مدى هذه الاتجاهات السياسية وحدودها بصفة عامة ولكن الخلاف ينشأ الآن على كثير من التفاصيل . فالمسألة البولونية ، ومناطق الاحتلال في ألمانيا ، وإدارة المناطق المحتلة ، تقدر اليوم مشاكل شائكة تتطلب الحل العاجل ، كما ان مسألة تريستا تدل من الناحية العملية على زحف العناصر السلافية والشيوعية التي تؤيدها روسيا . ويدل موقف انجلترا الحازم منها على أنها لا يمكن أن تقضي من حركة تتصل بسيادتها في البحر الأبيض المتوسط .
والخلاصة أن عناصر الخلاف والقلق التي تسود الآن جو أوربا ترجع إلى أن أهداف السياستين الروسية والبريطانية والأمريكية لم يكتمل تنسيقها بعد . وإذا كانت هذه العناصر تعتبر اليوم نذيرا مزعجا فيما يتعلق بتنظيم السلم المستقبل ، فمن المعقول أنها لن تترك على هذا الغموض إلى أجل غير مسمى . والمعتقد ان اجتماع الأقطاب الثلاثة في المستقبل القريب في مؤتمر جديد ، كفيل بتنسيق أهداف الدول الكبرى ، وإزالة أسباب الخلاف في كثير من المسائل التي تثير اليوم سحبا في الأفق .
وإنه ليصعب علينا أن نعتقد في هذه الآونة أن الدول الكبرى التي صهرت في أتون الحرب ، واحتملت كل هذه المحن والتضحيات الهائلة في سبيل الوصول إلى النصر ، تأتي في نهاية الشوط فتنسى أهدافها العظيمة من أجل منازعات محلية لا يصعب تذليلها .
على أنه يبقى بعد كل شئ أن نعرف ما إذا كانت الدول الكبرى سوف توفق إلى جانب تنسيق اهدافها القومية الخاصة إلي تنظيم السلم المستقبل على اسس نزيهة عادلة ، وما إذا كانت ستحترم العهود المقطوعة . وذلك ان ما نراه من مسلك فرنسا المثير في سوريا ولبنان أو بعبارة أخري ما نراه من اعتداء إحدى الدول بهذه الصورة المؤلمة على حقوق شعب اعترفت سائر الدول باستقلاله مما يثير في نفوسنا أعظم المخاوف من هذه الناحية ؟ ولن يزيل هذه المخاوف من نفوسنا إلا ان تبادر الدول الكبرى إلي كبح جماح هذه النزعة الاستعمارية التى تتورط فيها فرنسا دون تبصر ولا روية ، وإلا ان تقدم الأدلة المادية على أنها تنوي الوفاء حقا بما قطعته على نفسها من عهود مقدسة في ميثاق الإطلنطيق وغيره باحترام حقوق الدول الصغرى
