قرأت من كتاب " شاعران معاصران : ابراهيم طوقان وابو القاسم الشابي " ما كتبه مؤلفه الدكتور عمر فروخ ، من فصول عن شخصية الشابي وشعره . وقد صادفني من افكار المؤلف ما دعانى الى كثير من مراجعة النظر ، واستوقفني عن الاسترسال فى القراءة ، غير مرة ، ودفعني الى مقابلة افكاره فى معارضها من الفصول - حرصا على فهم ما يريد تقريره ، او ما يحاول تقريبه من جوانب شخصية الشابى وشعره .
فمن تلك الافكار ما بسطه بصفحة ٢٣٦ في فصل عنوانه " الموضوعيات " حين اراد ان يصف مأساة الشابي . بل حين اراد ان يشير الى مبعث التشاؤم الشديد في نفس ابى القاسم . وقد رأيت من الخير ان اشرك قراء مجلة الفكر فى الوقوف على هذه الافكار . وما بدا لى بشأنها من رأى . وقصدى من ذلك ان نقف جميعا من أدبنا التونسى موقف الجد فى احتساب ما يكتب عنه .
يقول الدكتور عمر فروخ " : ثم يمل الشابى العيش في الدنيا مع الناس ، حتى فى بلاده وبين امته . وهو يرى انه يجب ان يعيش عيشة شاعر مع مظاهر الطبيعة : مع البلابل في الغابة ، ومع النجوم والنهر ، ومع الطير والضياء لا يفكر في الناس ولا فيما يهم الناس من اسباب وجودهم وعيشهم . ان الاهتمام بالبشر سخافة وإفك وهراء .
لا ريب في ان مبعث هذا التشاؤم الشديد في نفس الشابى اشتداد الداء عليه ويأسه من الحياة ، وخصوصا بعد ان رأيناه في عدد من قصائده الغزلية والوطنية يجنح احيانا الى الامل والاطمئنان . وانا لا اقول ان الشابي كان مطمئنا في اول امره ثم انقلب قلقا . ولكنه كان منذ اول امره يتقلب بين الاطمئنان والقلق وبين الامل واليأس . الا ان قلقه ويأسه كانا مع الايام يزيدان . وكان اطمئنانه وامله ينقصان . وذلك واضح التعليل : ان صحته كانت في تأخر مستمر والخطير على
حياته كان في ازدياد وبروز . وهذا ما جعل جانب اليأس فى تفكيره يطغى أبدا على جانب الامل . هذه العوامل المعتلجة فى قلب الشابي تبدو جلية فى المقطوعة التالية " ثم يثبت الدكتور عمر فروخ قصيد الشابي الذى عنوانه فى الديوان " احلام شاعر " وهو باثبات القصيد قد فعل كل شئ ، اذ قد اضاف ، الى هذه الافكار التي بسطها ، مستمدها من شعر ابى القاسم وطريقته فى استمدادها . ومن يفعل مثل هذا ، فقد فعل كل شيء . حقا انه لم يبق امامنا شيء نفعله ، الا ان نعود الى القصيد لا لقراءته ، ولكن لنضع اصبعنا على قليل من كلماته ، يقول الشابي :
ليت لي ان اعيش في هذه الدنيا سعيدا بوحدتي وانفرادي
أصرف العمر في الجبال وفي الغابات ... بين الصنوبر المياد
ليس لي من شواغل العيش ما يصرف ... نفسي عن استماع فؤادي
ارقب الموت والحياة ، وأصغي لحديث الآزال والآباد
وأغني مع البلابل في الغاب ... وأصغي الى خرير الوادي
وأناحي النجوم ، والفجر ، والاطيار ... والنهر ، والضياء الهادي
عيشة للجمال . والفن أبغيها بعيدا عن امتى وبلادى
يتمنى الشابي ، والتمنى ، في ما أذكر ، : هو تشوف النفس واقبالها على ما لا يمكن حصوله ، اما لان حصوله يقضي بخرق سنن الكون ونظام الوجود فهو من هذه الجهة مستحيل الحصول ، واما لان حصوله والظفر به مما يتلمح قصيا جدا لقرابته منتهى القرابة وندرته منتهى الندور . ومتمنى الشابي امل يتجاوز الممكن القريب الى ما يتلمحه قصيا جدا .
متمنى الشابي ان يعيش سعيدا بوحدانيته وانفراده بما يشعر انه منفرد ديه . متمناه ان يصرف حياته فى الجبال او فى سمو الجبال . وفى الغابات او فى انطلاق الغابات . وبين الصنوبر او فى نضارة الصنوبر وجدته ..
متمنا ان تسكت من نفسه شواغلها بدنيا المعاش ليطيل استماعه الى أناغيم ما يستفيض بفؤاده من هذه الرؤى والاحلام . وليطيل فكره في الانسان مرددا بين الموت والحياة . فمن أين ؟ والى أين ؟
متمناه ان يصرف حياته مغنيا مع البلابل في افراح انطلاقها . مصغيا الى
خرير الوادي اذ برتل الوادي نشيد سخائه الدائم العطاء ، متمليا النجم نابغه ، والفجر ميلاد اشراقه ، والطير يقظته ، والنهر جوده ، والضياء هداه .
عيشة للجمال ، والفن ، أبغيها بعيدا عن امتي وبلادي ذلك اقصى امل الشابي ومتمناه . فأين علاقته ، وكيف اتصاله بعلته واشتداد علته ؟
ثم يقول الشابى :
لا اعنى نفسى بأحزان شعبى فهو حي يعيش عيش الجماد
وبحسبى من الاسى ما بنفسى من طريف مستحدث وتلاد
وبعيدا عن المدينة ، والناس ، بعيدا عن لغو تلك النوادى
فهو من معدن السخافة والافك ... ومن ذلك الهراء العادي
أين هو من خرير ساقية الوادي ... وخفق الصدى وشد والشادي
وحفيف الغصون نمقها الطل ...وهمس النسيم للأوراد
هذه عيشة تقدسها نفسي ... وادعو لمجدها وأنادي
هنا يتلفت الشابي ، وقد استوفى ما استطاع التعبير عنه من متمناه ، ليرى ذاته فى قومه ، وقومه فى ذاته ، فهو وان حرم شعور الاطمئنان الى اى حالة مألوفة من احوال الانسجام مع مجتمعه ، فليس ذلك بالذى يقوى ان يسلبه خصلة من ابرز خصاله . فقد كان الشابي جم العطف والحب . فلم يكن ليؤثر نفسه ما يتمناه من حياة السمو ، والانطلاق ، والنقاء ، والجود ، والهدى ، والايمان . وكل شئ غير هذا مما كان يحلم به ويتمناه واقعا من رؤى الكمال . ذلك الكمال الذى عاش له ولم يعش لشئ آخر سواه . وانما كان يؤثر ان يكون ما يتمناه عالمه وعالم قومه وعالم الانسان حيث كان الانسان فى الاراضين والازمان .
يتلفت الشابي ليرى ذاته فى قومه وليرى قومه فى ذاته . فاذا هذه الصور تتوارد على خاطره ، وكلها منتزعة من واقعه الذى لا ريب فيه ، هى صور المدينة ، هذه المدينة المكفهرة بما يطغى فيها من فساد ، وهي صور الناس ، هؤلاء الناس الرافضين المنكرين ، الذين وضعوا اصابعهم فى آذانهم ، واستغشوا ثيابهم واصروا ان لا يستجيبوا لشئ غير الذى هم فيه واغلون . وهى صور النوادى ، هذه النوادى الشلاء الكسحاء التى لا يسمع فى ظلالها الا هذا اللغو ؛ وانه لمن السخافة ، والافك ، والهراء ، وغث الحديث ، وميت الاراء .
هذه الصور المنتزعة من واقعه ، والتى اخذت تتلاقى أمامه ، وتتحدى عطفه وحبه وأمله ، هي ما كانت تثير في نفسه ثوائر أساه ، وهي ما كانت تقدح
في صدره لواذع بلواه ، وماذا يستطيع ان يفعل الشابي لمدافعة هذا التحدي الاليم ، غير ان يقبل من جديد على ازاهير أمله : وعلى متمناه . وانه ليتملى ذلك . ويقول : اين من حياة الناس الجافة الجامدة ، العقيم ، حياة الجود العميم ؟ واين من حياة الناس الشوهاء اللخناء حياة الطهارة والنقاء ؛ واين من حياة الناس البلهاء ، حياة اليقظة والعطف والولاء .
ان الحياة التى اقدسها لهى حياة المجد الحق . فلأدع لهذه الحياة وسوف لا اعدم المستجيب . واحسب انه لا شىء ، من هذه المعاني التي تستنيرها فينا قراءتنا لهذا القصيد يجيز لنا ان نتقبل ادعاء أن عنصر داء ابي القاسم الشابي هو الذي اوحى اليه بهذا القصيد .
فشعور ابي القاسم بدائه في هذا القصيد ليس الا خيطا مفردا له حصة من الوجود النفسي الشامل له ولغيره من خيوط أخرى مكونة باضافتها اليه ، وبإضافته اليها نسيج الحالة النفسية المعبر عنها ، وليست حصة ذلك الخيط من الوجود النفسي هى اوفى الحصص . ولا نصيبه من ذلك الوجود هو اوفى نصيب بل ان اثر الحياة الاجتماعية ليبدو من خلال القصيد ، ابعد توغلا فى نفس الشابي من كل شىء سواه مما له اتصال بعلته واشتداد علته .
لقد وسع قلب الشابي ولبه حياة الناس يومذاك وشعر بما كان شائعا مستفيضا في دواخلها من سوء وفساد ، فلم يضق بشئ من ذلك بمثل ما قد تألم له ، ولم ينشد لنفسه فرارا منه ، بمثل ما اراد له من صلاح . ولم ييأس من قدرته على صلاحه ، بمثل ما آمن به من تلك القدرة على الصلاح ، وهل قصيده " احلام شاعر " الا صورة من ذلك الايمان ، وان تغشاها لون من اليأس ؟ اليس الاحق ان تقول : ان الشابي ، في هذا القصيد ، لا ينشد الفرار ، وانما كان ينشد الفرار وهيهات ان يجد القرار ، ما دام مرددا بين النقص والكمال .
وبعد فنحن نستغرب مذهب الاستاد عمر فروخ فى فهم قصدة الشابي اذ نراه يساوي بين كلمات الشابي وبين كلمات الناس فادا هو يتعرف دلالة كلمات الشابي على نحو ما يتعرف به دلالة كلمات الناس يراجع في هذه وتلك المعاجم ويختفي بما يجده مبسوطا فيها من المعاني ؛ ولا مزيد ، فالجبل والغاية ، والنجم والنهر والفجر ، والطير والضياء ، كل هذه لديه هي " المظاهر الطبيعية " التي تصطدم بها الحواس : فتراها العين الشاخصة ، وتجسها اليد اللامسة ، ولا شئ سوى ذلك . نستغرب هذا لان الاستاذ عمر فروخ يقرر في كتابه ان أبا القاسم شاعر يميل الى الغموض والرمز ، وهل يفهم الرمز بمراجعة المعاجم .
