قرأت في عدد (الرسالة) المؤرخ ١٣ نوفمبر سنة ٣٩، مقالة الأستاذ الطنطاوي: (من هو المسلم؟) . والأستاذ مهما كان موضوعه عادياً لا بد أن يكسوه بقلمه البارع وإيمانه البالغ حلة قشيبة تستدعي الالتفات إليه والاهتمام به. وهو في نظري من أدبائنا الذين يخدمون بقلمهم الإسلام ويعملون على تجديده، يمدهم في ذلك اطلاع على روح الإسلام ونصوصه لم يتهيأ لغيرهم، ولذلك لا يحق لنا أن نمر بما يكتبه في هذا الصدد مر الكرام. وبهذا النظر أحب أن تتفضل عليّ الرسالة بشطر من صفحاتها القيمة لأشارك الأستاذ في هذا البحث وفي مسألة هامة من مسائله التي ألم بها إلمام المرشد، وهي مما لا يسوغ تعريف جمهرة القراء بها على هذا النمط لا سيما أن الأستاذ لم يتناولها بما عرفنا عنه من النظر المنقب والفكر المجدد، بل اتبع فيها القول الشائع. وأنا لم أتوفر الآن لإعطاء هذه المسألة حقها من البحث، وإنما أريد أن أصحح هذا القول الشائع حتى لا يمر به بعد اليوم من أدبائنا ومفكرينا من يقيم له وزنا، قال الأستاذ: (إنه لا يضر الناس اختلافهم في الفروع (فكلهم من رسول الله ملتمس) سواء في ذلك الحنفي منهم والشافعي والمالكي والحنبلي. بل إن اختلافهم رحمة من الله وتوسيع على الأمة. ولكن يضر الناس اختلافهم في أصول الدين من العقائد ونحوها، ويكون الواحد منهم مصيباً والباقون على ضلال. لأن الحق لا يتعدد والمصيب هو من اتبع ما كان عليه النبي (ص) وأصحابه والقرن الأول خير القرون)
فالذي يبدو من هذا الكلام أن الأستاذ يجاري متأخري الفقهاء من جعلهم اختلاف الأئمة رحمة للأمة وتوسيعاً على الناس في عباداتهم ومعاملاتهم ليختاروا من أقوالهم ما فيه اليسر لأحوالهم، كما أنه يرى أن اختلاف أنظار المجتهدين في الأصول ممنوع لأنه يستدعي اختلاف الحق وتعدده. وهذا التعليل نفسه يرد على اختلافهم في الفروع أيضاً. والحق الذي لا ريب فيه أن الاختلاف لم له يكن مورد إلا في الأمور الظنية والمشاكل
الجزئية التي يتسع فيها مجال القول ويختلف النظر إليها باختلاف الأحوال والأزمان. وطبيعة الأصول تتنافى مع ذلك فإنها لم تسم كذلك إلا بعد أن أجمع عليها النظار وتناولتها الأجيال بالتسليم والقبول لأنها ليست مظنة اختلاف ولا موضع تأويل بخلاف الفروع. وقد بحث هذه المسألة الإمام الشاطبي في كتابه: (الموافقات) ج٤ ص٧١ فأبان أن الشريعة لا خلاف فيها بالحقيقة أصولاً وفروعاً، وأن منشأ الاختلاف في الفروع الأمور الظنية التي يتسع فيها مجال القول بالنسبة لأنظار المجتهدين لا بالنسبة للشريعة التي نفى الله عنها في كثير من آيات القرآن الاختلاف والتفاوت. وقد تعرض بعد ذلك للحديث المأثور: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فذكر أنه مطعون في سنده، وهو لا يعارض الآيات الصريحة من حيث التزام لوفاق في أحكام الشريعة. ثم استطرد إلى موقف المكلفين من الاختلاف وقال إن المجتهد لا يسوغ له العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح كما لا يسوغ للمقلد العمل بقول المجتهد إلا بعد الاطمئنان والتبصر في حال المجتهدين أن تيسر له ذلك وإلا فلا يحق له اتباع أحد القولين كما يستدعي هواه ويقتضيه حاله (وعليه
أن يستفتي قلبه) كما قال الرسول (ص) وأما ما أثر من مدح لاختلاف في الفروع كما روى عن عمر ابن عبد العزيز إذ قال في اختلاف الصحابة (أما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم) فمناط هذا عدم الحجر على الأنظار فيما ليس فيه قطع وهذه هي السعة التي شرع من أجلها الاجتهاد لا ما يجعل المكلف في حيرة من العمل بالأقوال المختلفة دون تبصر واطمئنان. ثم قال في فصل ثان ما نصه: (وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق. ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا هذاً كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة) أقول وفي زماننا هذا أصبحت هذه القضية مصدر الحيلة لتجار الشيوخ في إجابة المستفتي لحل مشكلة أو تفادي حرمة في الدين. وعلى قدر ما يدفع السائل من المال، تتسع أمامه الحيل وتكثر الأقوال. فماذا يقول أمثال هؤلاء في قول الله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم)
(نابلس)

