الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

استفتاء الفكر

Share

يتجه الرأي عند بعض النقاد المعاصرين الى التنبؤ بان الشعر سائر الى ضعف فانحلال ، لتحل القصة محله .

وفي مجالنا القومي يتحدث كثير من الادباء التونسيين عن الشابي  ويرون انه قد امد الشعر العربي بعناصر تضمن حياته ، وتضرب اروع مثل للشعر الحي .

لذلك رأى " الفكر " ان يعرض عليكم هذين السؤالين وهو يرجو ان يتصل بالجواب في اقرب وقت ممكن .

١ - ما هو مستقبل الشعر العربي في نظركم ؟ ٢ - ما هى مكانة الشابي بين الشعراء المعاصرين ؟ - المجلة -

جواب الاستاذ          حسن بن حميدة

- 1 -

لم ابخل قط - فيما عرضته سابقا بنفس هذه المجلة بما اومن به من حقيقة الشعر وما استحسن منه وما أتنبأ بما سيفتحه مستقبله من شاسع الافاق ويحققه من اروع المعجزات فلست بحاجة اذن الى الاعادة المملة او الالحاح الكريه الا اني اراني مضطرا اضطرارا الى التذكير بان الشعر العربي المعاصر - وهو بلا شك باكورة شعر المستقبل هو الشعر المستمد من الشعب يصور آلامه ومآسيه احسن تصوير واروعه واقربه الى النفوس واشده وقعا عليها فيبعث بالشعب الى

الكفاح والعمل وتحقيق الحياة الكريمة المثلى إنما ابحث عن ارض الحقيقة

والمساواة التي تنعم في احضانها . . كل خليقة .. .. . حيث لا تنبت في الاعماق اشواك الهوان (١)  

فمستقبل الشعر العربي هو بالذات مستقبل ذلك الصراع وذلك العمل واني لمتيقن ان ذلك الصراع لن يخمد ابدا وان ذلك العمل لن تصبه الخيبة .

هذا مع ايماني الراسخ بأن ادب المستقبل ستحققه القصة - لا الشعر - لانها اوسع ميدانا منه واكثر مرونة وايسر شكلا واطول نفسا واوفر قراء وقد تمتزج القصة بالشعر فتتحدان في الملحمة لكن ذلك اعسر واندر .

عندما عرفت الشابي في شعره - كنت طالبا من طلبة التعليم الثانوي فاحببته وشغفت بشعره شغفا شديدا واتصلت الصلة بيني وبينه اتصالا وثيقا حتى اني عزمت سنة ١٩٤٠ على تقديم مذكرة تتناول بالدرس والتحليل حياته وشعره غير ان كلية الجزائر رفضت اذ ذاك الموضوع لانه متصل اتصالا واضحا بالعصر الذي نحياه فلم يمنعني ذلك من مواصلة العمل فقسمت المذكرة الى بابين الاول منهما في نسب الشابي واسرته وحياته والباب الثاني في درس شعره وتحليله حسب ما نشر منه اذ ذاك ولقد قسمت هذا الباب الا خمسة فصول هي :

١ ) الشابي والشعر ٢ ) الشابي والطبيعة ٣ ) الشابي والمرأة ٤ ) الشابي والوطنية ٥ ) الشابي والحياة

وكنت عازما على انهاء المذكرة بخاتمة اوجز فيها القول عن الشابي مع يقيني من اني غير قادر لقلة الوثائق وعدم نشر الديوان من الاتيان بالقول الفصل

وتوالت السنون وحدثت الاحداث العظام منذ ذلك الحين ونشبت الحروب فثارت الشعوب وتغيرت مفاهيم القيم فاخذ الشعر العربي المعاصر يحقق ثورته الكبرى ويضع مضامينه الجديدة ويحدث قوالبه الثائرة فتبين لي مدى غروري فيما وضعته من تقسيم ساذج زائف في درس شعر الشابي فانكرت كل ما كتبت عنه قبلا وكل ما نشر عنه خاصة بالمجلات والجرائد من مقالات تريد ان تكون

دراسات بينما لم يكن اكثرها في الحقيقة سوى اقوال ما اراد أو ما وفق اصحابها الى ان يتعمقوا في درس شعر الشابي او يكتشفوا قلبه وعاطفته او يتبينوا مأساته الحقيقية التي لم تكن قط في اية لحظة من لحظات حياته واية زفرة من زفرات شعره سوى مأساة الشعب التونسي المتطلع - بالرغم عما كان يبدو عليه من مظاهر الضعف والانحلال والتلاشي - الى " الوجود الكبير " (١)  الى " الصباح الجديد " (٢)  والمفعم " بالايمان بالحياة " (٣)

وليس من التطرف او التكلف او الاجحاف ان اقول ان ما يبدو في شعر الشابي من حزن او اسى وياس او خيبة ان هي الا مظاهر من مظاهر الحياة نفسها في سيرها نحو الكمال وصراعها في سبيل الوجوه سحره ونوره .

والشابي هو شاعر الوجود والحياة حتى في ارهب قصائده وادعاها الى الحزن (٤) وله قصائد عديدة وضع لها لفظة الحياة عنوانا اشهرها :

الحياة - نظرة في الحياة - جمال الحياة - الايمان بالحياة ولو تصدينا الى عد كلمتي الحياة والوجود في شعره لبلغ بنا الامر الى انهما اكثر الالفاظ تكرارا كانهما المحور المركزى لدواليبه .

والشابي هو في زمانه الشاعر الوحيد الذي كان يعيش مأساة شعبه كلها ويحاول ان يبعث فيه روح الثورة على الموت (٥) والايمان الصادق بانتصار الحياة (٦)

هذا ما يجعل الشابي في نظري أب الشعر العربي المعاصر لانه اول من عاش مأساته الخاصة في مأساة شعبه ولم يحاول قط في انانية وادعاء ان يفصل هذه عن تلك ولربما لم يكن التلميح او الاشارة الى مأساته الخاصة الا مجرد وسيلة للتعبير عن المأساة العامة .

ولقد قال الشابي الذي اطال التحسر على شعبه والتألم له قال مخاطبا اياه :

انت في الكون قوة لم تسها           فكرة عبقرية ذات بأس

لكن لتهنأ روحه الآن لان تلك الفكرة العبقرية ذات البأس تتجسم اليوم في حبيب الشعب وقائد الامة الرئيس الحبيب بورقيبة . وكانى بروح الشابي تبدل قوله :

الشقي الشقي من كان مثلي            في حساسيتى ورقة نفسي

بقولها :

السعيد السعيد من كان مثلي                   احمل الشعب في قرارة نفسي

جواب الاستاذ     محمد الحليوي

اذا جاز - في الكلام على الشعر - أن نستعمل ألفاظا خاصة بأهل الاقتصاد تقول إن النظر الى مستقبل الشعر العربي يجب أن يتجه الى ثلاث نواح ناحية المنتجين أي الشعراء وناحية المستهلكين أي القراء وناحية الانتاج نفسه أي الشعر .

فأما ناحية الشعراء فلا جدال في أن العالم العربي بعد اليوم منهم مئات مما لا نظير له عند أية أمة من أمم الغرب على ما نعلم - فلو أحصنا مثلا الشعراء الفرنسيين - في المائة سنة الاخيرة - ممن تتداول كتب المختارات شعرهم ويدور كلام النقاد والمؤرخين حولهم لوجدنا أنهم لا يتجاوزون الخمسين شاعرا

الأمة تعداد افرادها يبلغ الاربعين مليونا وتعداد المتكلمين بلغتها يبلغ المائة مليون فليس للعالم العربي بمختلف اقطاره أن يغبط اية امة من هاته الناحية - وها هي دي الصحافة الادبية في البلاد العربية ما زالت تطلع علينا في كل شهر

بأسماء وقصائد جديدة لشعراء جدد مما يعسر معه ضبط هؤلاء الشعراء واحصاؤهم احصاء مدققا - ولا نبالغ اذا قلنا ان تونس وحدها تعد خلال هذا النصف قرن ما يزيد عن أربعين شاعرا عدا شعراء الشباب الذين لا يقلون عن هذا العدد .

أما من ناحية القراء فالظاهر ان كثرة الشعراء كانت نتيجة منطقية لوجود كثرة معتبرة من القراء فلو لم يكن الشعر رائجا مرغوبا فيه في اوساط القارئين لما كان هذا العدد الوافر من الشعراء - ولو لم يبق للقب " شاعر " اغراءه القديم وهيبته السالفة لزهد فيه كثيرون او اشتغلوا بأى فن آخر من فنون الكتابة .

فقولكم في رسالة الاستفتاء " ان بعض النقاد المعاصرين يتنبأون بأن الشعر سائر الى ضعف فانحلال لتحل القصة محله " ربما كان صحيحا بالنسبة لبعض الامم الاخرى - اما بالنسبة للامم العربية فاني لا أومن به بل اني اتحدى اصحاب هذا الرأي ان يعدوا من كتاب القصة مثل عدد الشعر او يحصوا من الانتاج القصصي بقدر ما يمكن احصاؤه من القصائد والدواوين - اني اعتقد ان اتجاه بعض الادباء العرب الى القصة كانت دواعي المحاكاة فيه للغربيين الذين يغلب عندهم هذا النوع من الادب اكثر من دواعي طلبه من القارئين - وكيف يضعف الشعر او يضمحل والامة العربية امة اخص خصائصها الكلف بالشعر - وكيف يزهد الاحفاد في الشعر وقد كانت القصيدة من قصائد اجدادهم تنشد في بلاط حلب فما هي الا ايام حتى تروى في محافل قرطبة في عصر لم تكن فيه طائرات ولا اذاعات بل كيف تزهد حفيدات عمر بن ابي ربيعة وبشار في الشعر الذي كانت جداتهن يرتلنه في مخادعهن حتى أشفق اهل الفضيلة من ذلك وخافوا على عفاف عذاراهم .

واما عن الشعر فلا شك انه يجتاز اليوم أزمة تطور ظاهرة - فبعد آخر المدرسيين أمثال شوقي وحافظ والرصافي دخل الشعر العربي الحديث في الطور الرومانتيكى مع رائدي هذا المذهب خليل مطران وامين الريحاني ثم مع كبار زعمائه جبران وايليا أبو ماضي ويوسف غصوب وإلياس ابو شبكة وابراهيم ناجي وعلى محمود طه والشابي ومن جاء بعدهم ثم دخل في الطور الرمزي اي طور الغموض المتعمد مع بشر فارس ونزار قباني وسعيد عقل وعمر ابو ريشة ومن نحا نحوهم - وها هو ذا في السنوات الاخيرة يجاري الدعوات الجديدة لشعراء الغرب ولا سيما الشعراء الفرنسيين - ولا يعسر على الباحث ان يقيم الدليل

على تأثر الشعراء المعاصرين بامثال بودلير وملارميه وفرلين ورامبو أو بالذين جاءوا من بعدهم امثال فاليري وفارغ fargue وأرقون Aragon  واليوار Eluard وماكس جاكوب وغيرهم كما لا يعسر على الفاري ان يلاحظ اتجاهات المدارس الحديث للشعر في الغرب عند شعرائنا المحدثين مثل التي تعرف بالواقعية والتصويرية والسيريالية والوجودية وغيرها .

وتأثر الشعر العربي الحديث بهاته المدارس هو في لبنان أظهر منه في سوريا وهو هنالك اظهر منه في مصر حسب قرب الشعراء أو بعدهم من منابع الثقافة الفرنسية . ومن غريب المفارقات ان شعراءنا التونسيين لا يتأثرون بهاته المذاهب الا عن طريق غير مباشر رغم قربهم من منابع تلك الثقافة - فما هو موقف القراء من هذا الشعر الجديد في شكله ومضمونه ؟

يظهر لي أن الذين تغذوا في شبابهم بالشعر المدرسي التقليدى وحتى بالشعر الرومانتيكي ظلوا غير راضين عن هذا التجديد وغير متقبلن له بل غير قادرين على تذوقه بينما أظهر الشباب تحمسا له واقبالا عليه

وفي رأيي ان الشعر العربي الحديث سوف " يطوف ما يطوف " كما يقول الخطيئة ثم يرجع الى اوزانه القديمة فيحتفظ منها بالتفعيلة الواحدة وإلى قوافيه فينفي منها الوحدة ويبقي الازدواج والى موسيقاه بعد ان ينوع النغم علوا او انخفاضا وسيغنم من هاته الجولات " خارج مجراه " مغانم كثيرة منها حسن اختبار اللفظ الموحي المكون للجو الشعري وخلق الصور التعبيرية عوض الصور التقريرية وبناء القصيدة على التجربة الذاتية للشاعر تلك التجربة التى يجب على الشاعر ان يعيشها ويعرف قيمة كل لفظة فيها - وسيكسب شعر المستقبل " تكنيكا " مدققا في صياغه القصيد تدرس فيه كل كلمة ليعرف مكانها من الاداء وموضعها من الايحاء وابعادها في النفس .

أما موضوعات الشعر في الغد فستكون اقرب الى حياة الشعب وشواغله لان الشاعر سيخرج من سلبيته أي من قصره العاجي ليشارك الشعب في كفاحه الاجتماعي فيحيا حياته ويعبر عن الامه

إني اعد الشابي من كبار الرومانتيكيين لا في الشعر العربي وحده بل في الشعر العالمي لقد غنمت به اللغة والادب العربي أبهج حلقة ذهبية في سلسلة شعرائها الكثيرين وهي سلسلة لا تكاد تنقطع طوال ثمانية عشر قرنا مما يعز نظيره في آداب العالم .

جواب الاستاذ      محمد العروسى المطوى

1

لست ادري لماذا وقع التمهيد للسؤال الاول بهذه الجملة "... يتجه الرأي عند بعض النقاد المعاصرين الى التنبؤ بأن الشعر سائر الى ضعف فانحلال لتحل القصة محله ... " فهل بلغ الشعر العربي في عصوره المتقدمة مبلغ القمة والرضى ؟ إنه لو بلغ ذلك لكانت " الجملة " حرية بأن توضع تمهيدا للسؤال . ولكن الواقع ان الشعر العربي كان نوعا من " الشعر " في عصره الاول لما كان منبعثا عن وجدان ، وصادرا عن احساس ، ومصورا لحياة ، ومعبرا عن واقع . ثم انتابتة عوامل الافتعال و " الترضية " والتكلف فابتعد عن الهدف الذي كان يسعى اليه ، واصبح يتوكأ على عصي من الخشب الجامد . ولم تبق ملامح لصدق الشعر الا في صور نادرة عند ابن ابي ربيعة او بعض ابي نواس وابن الرومي ، او لزوميات المعري في موضوعها لا في صيغتها .

ثم ما هي الموضوعات التي طرقها الشعر العربي في عصوره السابقة حتى تزاحمه القصة وتحل محله . وهل طرق الشعر العربي الموضوعات التي تعالجها القصة ؟ وما هى القصة العربية في حد ذاتها . هل هي المتمثلة في المحاولات الفجة ، والسطحيات

ودغدغة الغريزة والشهوة ، والمعنى المكرور المبتذل ! أم تتمثل القصة العربية في تلك اللمحات والومضات الخفيفة التي تبشر بالمستقبل المرجو للقصة العربية ؟

لو ان الشعر العربي وصل الى هدفه وبلغ رسالته ، وان القصة العربية استوت على سوقها وعملت على اقتكاك تلك الرسالة وتحملت اعباءها ، ولو وقع كل ذلك لكان هناك ما يدعو الى ذلك التمهيد ولكن ما العمل ونحن نتطلع الى مفقود ، هو في عالم القصة والشعر سواء .

صحيح ان الشعر كان نافق السوق ، ميدانا للتسابق ، كثير الرواج والانتشار ولكن اي شعر هو ؟ .. أهو شعر البلاطات والقصور ، والمداجاة والمراوغة

والكذب ، وصناعة اللفظ ، وجدب المعنى . فهل بقيت للشعر العربي رسالة كان يؤديها ؟ انا لا ادعي ضيق مجال الشعر او حصره في محيط ضيق ، او النظر اليه من زاوية معينة . ولكنني لا اريده ان يكون اسطوانة معادة ، ومعنى مكرورا اريده ان يستمد من الانسانية ويمدها بحاجاتها : في المحبة والكراهة ، والخير والشر والسعادة والشقاء ، والجمال والقبح .

ان " ادب " ابن الرومي هو اروع واصدق من مئات الابيات لابي تمام او البحتري او المتبي ، والفارق الوحيد بين ذلك وتلك هو الصدق والواقعية .

ان نظرة الشعر في القديم كان يحجبها عن الانسانية والكون اكوام من اتربة التقليد والجمود ، والتكلف والتصنع .. وان الانسان - في معناه المطلق - ليبدو قزما نحيلا وسط عمالقة الزيف والخداع في شعرنا العربي القديم .

ولهذا ينبغي ان نتفاءل بمستقبل الشعر ، وان نتعشم السمو والتقدم في المستقبل بعد ان اخذت معاني " الانسانية " تتصل بالشعر المعاصر واصبح الشاعر يعيش مشكلات عصره ويحيا حياة إنسانه . اما في القديم فقد كان الشاعر ابعد ما يكون عن زمانه واهله وماذا كنت ترى من الشعر فى عهود كان فيها المجتمع الاسلامي يعانى الويلات او يقدم المعجزات ؟ كنت ترى شعرا " بلاطيا " ونظما " قصوريا " وانكماشا على النفس ، وغناء جنائزيا على جرعة مزعومة او حبيبة موهومه . اما شاعر اليوم فقد اصبح يستمد الهامه ووحيه من محيط الانسانية الواسع ، وآفاقها الممتدة ، وضاعت من دواوين الشعر تلك الابوان التقليدية الجامدة ... باب الغزل ... المديح ... الرثاء ... الخ ... واصبحت القصيدة وحدة لذاتها لا تحمل عنوانها من جزء من ابياتها وانما تحمل عنوانها من معناها العام وموضوعها الذي تصوره .

قد يبدو هذا الفارق ضعيفا عند البعض . ولكنه هو مرحلة الانتقال ونقطة البداية ، والحاجز بين شعر الامس وشعر الغد ، اذ لم يكن شعر اليوم الا مرحلة انتقالية وبرزخا يفصل بين عهدين من عهود الشعر العربي . ولذا فانا لا انظر الى مستقبل الشعر العربى من ناحية اقترانه بالقصة ومزاحمتها له . انما انظر اليه من خلال الروح الجديدة التى تلبست به ، ومن خلال الصيغة والقالب اللذين احاطا بجوانبه ، ومن هذه النزعة الانسانية التقدمية ، وهذه الحرية التى بدأ الشعراء يحلقون في اجوائها ، وهذه الاقباس التى بدأت تنير كون شعرنا العربي المعاصر ... انها أقباس " فدوى طوقان " في وحدتها وحرمانها ، واقباس نزار القباني في

إنسانيته واجتماعياته ، واقباس البياتي في لذعاته ونظراته انها اقباس " الفيتوري " في ثورته ووطنياته ، واقباس الشابي في نغمه وسبحاته .

وبعد فما معنى ان القصة ستحل محل الشعر ؟ ! هل نطلب من الشعراء ان يلجوا مولج القصاصين ؟ وهل نطلب منهم ان يخرجوا لنا من الدواوين مقدار ما تخرجه المطابع من القصص ؟ وهل نطلب من الرسامين ان يخرجوا لنا من اللوحات الزيتية بقدر ما تخرج ستوديوهات التصوير الشمسي ؟ وهل نطلب من فتاة ايران والقيروان ان تنافسا مصانع الغرب في عدد الطنافس والزرابي والسجاجيد ؟

انه ليكفي ان يكون في الامة بعض الشعراء . ولكن لا يكفيها ان يكون بها بعض القصاص ان مجال الابداع الفني هو اضيق في الشعر منه في القصة . دعك من الزعانف والطفيلات ، ولا تجعل في حسابك الشعارير والخرافين !

2 احتل ابو القاسم الشابى مكانا بارزا في قائمة شعراء العرب المعاصرين . وليس من السهل احتلال تلك المكانة . واحسب ان للظروف نصيبا في ظهور مكانة الشابي : فبقدر ما ناله من حرمان في حياته بقدر ما ناله من تمجيد بعد موته وهذا جميل على كل حال ، ان مجد الانسان لا يقدر بمقدار ما عاش من سنين وانما يقدر بمقدار خلو ذكره في الحياة واتساع ذلك الذكر . وأحسب ايضا ان ابا القاسم الشابي سيتمدد ذكره أجيالا اخرى . وسيجد من يقرأ شعره نغما لا يوجد عند غيره ، وموسيقى شعرية خلا منها غالب الشعر العربي في عصوره المختلفة ، وألفاظا شفافة طلية فيها الجمال والرشاقة والانسجام . وتلك هي ميزة الشابي التي تلاقيها في غالب شعره .

وللشابي اسلوب ينم عليه . ومتى وجد الاسلوب وجدت الشخصية ، والاسلوب ، هو الرجل كما يقول احد ادباء الغرب . ومن هذه الناحية ، ناحية الاسلوب ، يكاد يكون الشابي في الصدارة من الشعراء المعاصرين . حتى شعراء المهجر الذين تأثر بهم كانوا اقل منه في هذه الناحية بالذات . ولكن الشابي في غير تلك الناحية قد لا يصل الى مستوى بعض الشعراء الممتازين من شعراء العصر الحديث . ولعل هذا يعود الى كثير من العوامل : فموت الشابي الباكر ، ورقة احساسه ، وابتلاء جسمه بالعلل ، واضطراب جسمه ، وقلة تحربته في الحياة ، كل

تلك الاشياء جعلت الشابي فجا في غالب اخيلته ، مضطربا في نظرته للحياة ، فهو لا يرسو على قرار ، ولا يخترق الاجواء اختراق السهم ( او الصاروخ ان شئت ) وانما يخترقها اختراق الريشة او الورقة .

ان الشابي بمثابة الحنجرة الموهوبة في النغم والغناء فهي تؤدي وظيفتها مهما كان موضوع الاغنية ولونها فحنجرة ام كلثوم تجيد النغم وتسمو بالمشاعر ولو انها كانت تغني متنا قديما من متون العلوم ، وحسن الاداء وصفاء الحنجرة مصدر موهوب لا مكتسب .

ان سر الجمال في شعر الشابي لا يبدو في موضوع شعره بمقدار ما يبدو في صيغته وادائه ، في نغمه وحسن روائه ان هذا الراي لا ينزل الشابي عن المكانة التي يستحقها في تاريخ الشعر المعاصر . والحق ان الشابي لم يدرس الى اليوم دراسة منهجية مركزة . وان نظرتنا الى الشابي لم تكن الا رد فعل عنيف لما كان باقيه في جيله من انكار وجحود . وكلتا النظرتين عاطفية مرتجلة . وفي حياة الشابي وشعره مجال واسع للدرس والاستنتاج . والى اليوم الذي تظهر فيه تلك الدراسات المنهجية سيظل الشابي في منزلة غير مستقرة بين شعرائنا المعاصرين . ذلك ان وضعه في تلك المنزلة كان نتيجة النظرة التي عرفتها من قبل . واحسب ان من هذه النظرة التمهيد الذي وضع امام السؤال الثاني من الاستفتاء وفي مجالنا القومي يتحدث كثير من الادباء التونسيين عن الشابي ، ويرون انه قد أمد الشعر العربي بعناصر تضمن حياته ... "

وكم اعجب لبعضهم عندما يقول " ... كفى الشابى خلودا وشاعرية قوله :

اذا الشعب يوما اراد الحياة            فلا بد ان يستجيب القدر

فهذا المقياس النقدي هو استمرار لذلك الحكم النقدى القديم " ... اشعر الشعراء فلان لقوله كذا ، او فلان لقوله كذا ... "

إنني لاتساءل : ايهما احسن ان تبني البناء المتين الجميل ، ولو كان صغيرا ، او ان تبني الصرح الكبير بالطوب سرعان ما ينهدم ويبقى أنقاضا ؟ فلنعد الى الشابي من جديد ؛ فان نظرة رد الفعل قد انتهى زمانها على الاقل من بداية عهدنا الجديد .

القاهرة : ١٩٥٦/٩/١٧

اشترك في نشرتنا البريدية