موضوع خطر بيالي منذ زمن بعيد ؛ وكان ينبغي له القرار في أذهان الناس إبان مراحل التطور الأدبي في العصر الحاضر من غير أن يرشدهم إليه دليل وبغير أن يفتح لهم أبوابه فاتح . وكل المظاهر الحالية في أدبنا العربي إنما تسوفا سوفا إلى ارتياد هذه الفكرة ؛ وكان ينبغي لها أن تفوح وتنتشر قبل أن يلفت أنظارنا إليها فلم كاتب من الكتاب . ويمكن القول إن موضوع هذا المقال ليس غريبا على مشاعر القراء ، وإن كانوا سيحدون عند وضعه بصورة تقريرية منحي جديدا من تصور الأدب واستشعاره .
فنحن نلاحظ أننا مازلنا نتحدث - منذ تنبهت الحياة في أكنافنا - عن حركات البعث والإحياء لأدابنا القديمة . ولم نشأ أن نتخلى حتى اليوم - بل حتى الساعة - عن الكتابة في هذا الموضوع والدعوة إلى تجديد أدابنا الموروثة بصورة تجعلها دائما نصب أعيننا ، ونسهل علينا مهمة الإطلاع عليها والتأثر بها . استغفر الله . . فإن بعض أصحاب هذه الدعوة لا يريدون الاعتراف بغير تلك الآداب الموروثة ولا يميلون إلي إقرار لون من الأدب المحدث بجانب تلك الثروة المختزنة في الأوراق الصفراء . ويغالي بعضهم في ذلك مغالاة ظاهرة ويكتفى بعضهم بالإلحاح في المطالبة بنشر ذلك الأدب القديم لوضعه في حياتنا الحاضرة بمقام الفن الخالد والحارس الأكبر . ولا أريد هاهنا أن أقطع على الباحثين في هذا الموضوع أحلامهم ، ولا أميل إلي تسفيه شيء من أفكارهم الخاصة بمسألة البعث والإحياء . فهذا نوع من الاتجاه المحسوس في أغلب الآثار العالمية ، ويعتبر واحدا من التيارات الهامة في الفكر الحديث . ولا ينبغي من أجل ذلك كله أن نسئ إلي أصحابه ما دام حسن النية متوافرا وما دامت الرغبة الصادقة موجودة .
وأنا شخصيا من الذين يقفون في صف هذا التيار القديم ، وأحب شيء إلي نفسي هو ارتياد آفاق الأدب العربي في عصوره المختلفة للتذكر والائتناس والعبرة جميعا . فلست ممن يهزأون بالعاملين على تعزيز الأدب القديم ، ومع ذلك أجد في نفسي رغبة شديدة من أجل أن ألفت ناظرهم إلي شئ هام أغفلوه بقدر ما ادعجوا في الموضوع ، وسهوا عنه بقدر ما التفتوا إلي حواشي المشكلة . إذ أن السبيل إلي إحياء الأدب العربي القديم وبعثه لا يقتصر السير فيه على القائمين بنشر مؤلفات الأقدمين وطبعها . وفي رأيي أنه من العبث المكتوف أن نقص جهودنا بأكملها على عمليات التحقيق المتصلة حتى تخرج طبعة منقحة من كتاب عباسي أو أموي . . ثم نزعم بعد هذا أننا قد أدينا شيئا كثيرا نحو الأدب القديم . فذلك لا يعني إطلاقا أننا قد هذينا ثفاقاتنا الحاضرة بشيء من تراث الأقدمين ولا يبرهن على أننا قد استطعنا تلقيح أدبنا المعاصر بالروح التقليدية ، ولا يدل على أننا اصحاب عهد ومروءة بالنسبة إلي آبائنا السابقين . لأن هذه الكتب تذيع وتنتشر بقدر محدود ، ولا تحدث أدنى أثر في عقولنا وأذواقنا ، ولا تكاد تصل لغير الأيدي الفارغة التي تحب الاقتناء والتزيين أكثر مما تحب القراءة والانتفاع ، وهؤلاء ليسوا من الموجهين لدفة الكتابة ولا يعدون بين أصحاب الفكرة السائرة والاتجاه الساري .وأستطيع - وأنا مطمئن - ان أنهم كل مشتغل بالآثار العربية القديمة علي سبيل التحقيق والنشر بهذه الطريقة ، وكل غيور على إذاعتها والدعاية لها بتكوينها الثابت . . استطيع أن اتهمه بأنه لا يعمل من أجل الثقافة في حد ذاتها ، ولا يخدم العلم والمعرفة من حيث هو علم أو معرفة . وبقدر ما تكون مكاسب المشتغلين بالآداب القديمة وطبع مؤلفاتها تكون جريمتهم ،
وذلك لأنه لا معي علي الإطلاق لأن أستمر في أعمال غير ذات مفعول من ناحية الثقافة أو الذوق أو الروح من أجل الكسب المادى الخاص . ويكون هذا العمل مفهوما إذا جاء من جانب الحكومات التي تبغي إحياء تراث أجدادها وحفظ آثار رجالها السابقين . . أما أن يأتي من جانب الأفراد الذين لا يفيدون إنسانا بنتاجهم ، ولا يغذون موهبة بنشراتهم ، ولا يتركون على اتجاهات الفكر طابعا ملحوظا من وراء عملهم ، فليس ذلك بالأمر الطبيعي .
وتخلص من هذا كله إلي أن غيرة هؤلاء الباحثين على الآثار الأدبية القديمة مصطنعة ، وإلى أن دعاياتهم ملفقة ، وإلى أن دفاعهم مغرض . فهم يريدون أن يظهروا أمام الملأ بمظهر التأثر على الأوضاع الجديدة ، وأن يأخذوا في عقول الناس مكانة الإنسان الذي حافظ على دينه وتراث أجداده . فهم يكسبون الهيبة والاحترام وحسن السمعة ثم يستفيدون - فوق ذلك - فوائد أخري يعلمها الله ؛ أما الأدب الخالص فلن تعود عليه أعمالهم بأية فائدة ، ولن تكون من ورائه جدوي ، لأننا مازلنا نعاني من إقبال الناس على الكتب الحديثة السهلة المفهومة ، فما بالك بالمؤلفات القديمة التي تقتضي سعة في العلم ومطاوعة في النفس ورغبة في المتعة والتذوق .
وبطبيعة الحال لا يهمنا في هذا المجال أن نتناول أغراض الناشرين للكتب القديمة بالمؤاخذة والنفس ولا يعنينا - بحال من الأحوال - أن نسئ إلي أشخاصهم كما قدمنا ، وإنما يهمنا ويعنينا حقا أن نرفع من أذهان الناس فكرة خاطئة ؛ وهذه الفكرة الخاطئة تتلخص في أن عملية الطبع والإذاعة لما تركه المؤلفون السابقون لا تؤدي إلى شئ إطلاقا مما يأمل فيه طائفة النقاد ويرجون تحقيقه. فكلمة " ) إحياء أو بعث " كلمة فارغة خالية من المضمون عالمنا تعني الإنفاق على الكتب القديمة بالمال والجهد ، بل اعتدت بمضي الأيام عدم الثقة في أي مشروع تجعل هدفه إحياء ما خبا نوره من مظاهر الحضارة وبعث ما اندثر مجده بين معالم
الحياة . ونحن جميعا لا نقل غيرة على التراث القديم منهم ولا ينقصنا الحماس الذي نبذله في هذا الباب . . ولكن ماذا نفعل وأمامنا حقائق ملموسة لا تقبل شكا ولا إنكارا ، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم عن كتاب من كتب الأقدمين ، أنه قد قراه ألف إنسان من المصريين المحدثين ؟ ومن ذا يقول إن جمهرة من قراء العربية قد استطاعوا أن يمضوا في التأثر بالأدب القديم على نحو ماهم متأثرون الآن بكتاب لواحد من مشاهير الكتاب في مصر أو في أوربا اليوم ؟
ومن هذا يظهر أن النشر الأدبي لا يؤدي إلى شيء في حياتنا الثقافية ما دمنا بعيدين عن الجو القديم ، وما دامت الاستفادة محدودة حتى مع الإقبال والاستعمال ؛ وكان طبيعيا جدا أن نتصرف عن هذه الدعوة وأن نغفل ذلك المضمار ، ولكننا - فما يبدو - آثرنا التعامي ولم نكتف بالإشارة إلى قيمة النشر والطبع للمؤلفات القديمة في حياتنا الأدبية ، بل أردنا أن نوقف حركة التأثر والاستفادة من آداب الغرب كما نفسح مجالا لهذه الكتب فتعم وتطغي علي سواها من ألوان النتاج العقلي ، وليتنا فطنا إلى جانب هذه الحركات التعبيرية في الأدب التقليدي لفكرة واحدة كفيلة بأن تضع الأمور في نصابها وأن تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ؛ ولو قد تنبهنا إليها لاستطعنا أن نقي أنفسنا عن كل مجهود بذلناه في سبيل الدعاية الزائفة ؛ أعني أنه لو استطعنا أن نقيم إلي جانب هذا العمل عملا آخر وأمكننا إيجاد تيار ثان يمشى جنبا لجنب مع هذا التيار لخلصنا من العيب ويرثنا من المذمة وحمينا أنفسنا من ظنون الناس .
فأنا أقف معهم في صف واحد ، وانادي بنفس الفكرة . . ولكن بطريقتي الخاصة . . أنا أدعو إلي العناية بالقديم ، وأحب شئ إلى نفسي هو أن نبعث الفكر والأدب السلفيين مجتمين في عقول أبنائنا وهواة الفن عندنا ، وأجمل أمنية تخيلتها هي أن يكون لنا بيان رائق مصفي من الشوائب العامية التي تفسد علينا ألسنتنا ، وان تزول الحواجز التي تقطع علينا تاريخنا وتفسد علينا أصولنا
وتجعلنا كالعائمين بين آداب العالم بغير شط تحتمي به من عواصف النقد والمؤاخذة ، إن أهم شئ في تكوين أدب من الآداب هو وجود تاريخه . واستعارة ماضيه ، وامتثال أصوله ، وبروز عناصره . فهذه هي الدعامة الأصيلة ، وهي وحدها سبيل إقامة بنيان لأدب كامل مهما كانت صفات الماضى ، ومهما كانت ثبات القديم .
أما عن كيفية الاستفادة من الأدب السالف ، وعن طريقة تجسيمه حبا في عقولنا ، فلا يكون ذلك بعين الخطة التي اتبعها أصحابنا أولا أعني أنه ليس السبيل إلي تذكر الناس بآدابهم القديمة هو ما يسمونه بالبعث والإحياء في الأدب الحديث ؛ وإنما سبيل ذلك شئ آخر هو ما أسميه باستيحاء الأدب القديم . فبهذه الوسيلة الجديدة يمكننا استيعاب أدب القدامي ، وارتياد آفاق السلف بغير أن نحدث بأنفسنا مضرة ، وبغير أن تحجز أدبنا المعاصر في حدود ضيقة ، وبدون أن نوقف نشاطنا في الابتكار والتجديد والخلق . .
وقد يختلط الأمر على ذهن القارئ فأسارع إلى توضيح بسيط لكلمة استيحاء هذه ، فهي مشتقة من الوحي وجاء في القاموس المحيط أنه الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام ، وأن الفعل منه استوحى بمعنى حرك واستفهم ، وقد تكون عملية التحريك والاستفهام التي يقوم بها كاتب العصر الحاضر بالنسبة إلى الأدب القديم كافية لتبين وجهة نظري في الموضوع ، ولكنى أوثر مع ذلك أن أشرح فعل الاستيحاء على أنسب صورة تماثل رأيي الخاص . فالاستيحاء بالنسبة إلى الأدب القديم يعني بطبيعة الحال ) إيجاد صلة تجاوب فيما بين الأدب المعاصر والفن السلفي ، ثم يلي ذلك مباشرة فعل الكاتب من أجل استلهام الفن السلفي واشتقاق صوره واقتطاع لمحات منه واختطاف الأجزاء الموحية فيه من أجل التفنن في نظم أسلوب جديد ؛ أو بعبارة أخرى يقوم الكاتب في عملية الاستيحاء هذه باقتطاع ما يصلح من الأدب القديم ليكون نواة لعمل بعيد كل البعد عن الحرفية والثبات .
فهاهنا في عملية الاستيحاء غالب تيار الأدب القديم ونقد عليه سلطانه ولا نسمح له بالسيطرة على أعمالنا وخطواتنا في سبيل الأدب الذي نسعى إلي تشييد أركانه ولكننا نسمح له في الوقت نفسه بأن يظهر وينتشر ، وبأن يعم في كلامنا وعلى أقلامنا ، وبأن يظل حبا في أدمغتنا وأذواقنا بالشروط التي نفرضها نحن . وليس بالشروط الخاصة ، أو بالمطالب التي يستدعها منا . ففي عملية الاستيحاء ، تتحكم بالأدب القديم ولا يتحكم بنا ونوجهه نحن ونستغله في وجوه الفن التي تراه صالحا لها وفي المنافع التي يقتصر دونها أسلوب المحدثين . ونحن أحرار بعد ذلك في نوع الاستفادة وفي أوجه القبول ؛ فإما أن تحاول أخذ المشاهد الخالدة فيه جملة ، أو تحاول تصريفها وتحويرها . أو تسعى من أجل استدعاء فصول موحدة منها . فهذا من شأنه أن يوجد خيطا قويا مثبتا بيننا وبين الأدب القديم . ولعله أن يكون أقوي وانفع من أي محاولة أخرى في سبيل إشعارنا بماضينا الأدبى وتاريخنا الفني .
ودعاني إلي المضي في هذا الاتجاه أنني أومن في قرارة نفسي بأنه لا يوجد أدب خالص صالح لكل زمان ومكان ، ولا اعتقد بأن الكاتب يؤلف شيئا خالدا أبد الدهر . فالحياة في تطور وارتقاء أو في تدهور وانتكاس حسب الظروف الخاصة بالإقليم الذي تظهر فيه ؛ والأديب إنما يعبر عما يختلج به كيانه في أسلوب ملائم للنحو الذي يحيط به والظروف القائمة حوله . ويستحيل أن يكون الكاتب من أى نوع قادرا علي الخروج عما يتطلبه مظهر العيش من حوله . والخلود في الأدب لا يأتي من أن الكاتب قد استطاع أن يخرج عن حدود الإقليمية التي يعيش فيها . وإنما يأتي من أنه استطاع على الرغم من هذه الحدود أن يؤلف ويكتب بهذا الأسلوب وأن ينفض عن كيانه آثار عصره وان ينقل إليك ملامح بيئته ، وأن يصب في قلبك مشاعر الأمم القديمة ، وأن يضيف إلى ذاتك معالم الأجيال المتقدمة ؛ كل هذا يجعل من الكاتب فنانا خالدا ، ويحول له الحق في أن يكون حقا مشاعا بين أبناء الإنسانية جميعا ، بحكم ما فيهم من رغبة في المشاركة الشعورية ، وبحكم ما في طبيعتهم من نزوع إلى مشافهة الغير .
فليس الأدب عالميا لأنه يخرج عن نطاق الفردية المتمثلة في أبناء الأمة التى ينتمي إليها الكاتب ، وإنما هو كذلك تبعا لهذه الصورة الواضحة التي تنقل إليك معالم الناس في غير المحيط الذي تتطلع إليه بحكم وجودك الخاص
وإذا ألقينا نظرة باحثة على أدبنا القديم وجسدناه بالغا غاية المحدودية ، على خلاف ما يزعمه المتشدقون خطأ بمجد العرب في أدبهم الخالد علي مر الزمان . فالأدب العربي القديم لا يمثل إلا جزء جامدا في حياة الإقليم العربي ، ويصعب عليك أن تفصل الأدب القديم عن حياة الأعراب قبل الإسلام وحده . وأبلغ من الإيمان يقولي هذا إلى حد الرغبة في الزعم بأن الأدب العربي القديم كان عنصرا هاما من عناصر الحياة الاجتماعية ذاتها إبان الخلفاء العباسيين وعند قيام النزاع القبلي بين أعراب البادية في الجاهلية . فالأدب الذي يبلغ هذه الدرجة من الانغماس في الحياة الاجتماعية والاشتراك فيها ، والذي تقوم وظيفة صاحبة عن ضرورة في الطائفة التي ينسب إليها ، والذي يستخدمه الناس على هذا النحو ، لا يمكن إلا أن يكون وليد الحياة الجارية من حوله ويصعب اختياره من غير تقدير للظروف القائمة والأحوال المائلة . وبذلك يكون التجاوب بين البيئة وبين الأدب مفروضا قبل كل شئ في نظريات النقد خاصة .
فإذا سلمنا بهذا القول كنا ملزمين بتحديد الإقليمية البادية في الأدب القديم ، وكنا ملزمين في الوقت نفسه بالتخلى عن العصبية الواضحة في نفوسنا عندما نتحدث عن آبائنا الروحيين من أبناء العراق والشام وفارس والحجاز . بل استطيع القول إن نسبة الخلود والتعالي عن حياة الإقليم المحدورة إلى أدب العرب القدماء هي خرافة لا أساس لها من الصحة . لأن كل فن طابق مطالب الحياة العادية عندهم كان له المقام الأول . وتمتع صاحبه بالحظوة لدى الرؤساء وكل فن تنافر مع المطالب الدنيوية لم يقدر له أي نصيب من النجاح .
فإذا كان هذا كله صحيحا كان من الضروري علينا ألا نحاول نقل التراث القديم كما هو ، وإنما كان من الضروري أن نلتفت أولا إلى حكمة الانتقاء من ذلك التراث والإقبال عليه بشيء من الحزم أو بكثير من الحزم إذا اقتضى الأمر . وأجمل شئ هو أن نحاول استيحاء الأدب القديم ،
أي أن نقبل عليه دارسين ممعنين في الدرس ، باحثين مغرقين في البحث ، ثم نصدر في بعض إنتاجنا عن تأثر بذلك كله . أعني أن يحاول الواحد من الأدباء أن ينتج شيئا فيه أثر من خمريات أبي نواس ، وليست هي الخمريات نفسها ، وفيه أثر من حكمة أبي تمام ، ولكنها ليست هي ذات الحكمة التمامية ، وفيه صبغة من روح الجاحظ ، وإن لم تكن عين كلامه ، وفيه مسحة من فلسفة أبي العلاء ، وإن لم تكن تحوي شيئا من مضمونها الصريح . تريد الكاتب الذي يستوحي الأدب القديم فيخرج علينا بملاحم من بيئة الجاهليين وبروايات من أقاصيص السلف وبأشعار على نمط ما كان يحكي في المجالس والندوات ، تريد تصويرا صناعيا للبيئات السابقة ، وتريد أسلوبا محدثا في رواية الوقائع على نحو ما جرت ، حتى يوفق بين أعمال القدماء وأذواق المعاصرين . وأعتقد أن محاولات جريئة من هذا النوع قد حصلت في أدبنا الحديث ، ولكنها لم تكن واضحة النهج بادية الخطة . وليعتبر هؤلاء جميعا بحثي هذا مقدمة لفنهم إذا كان المقصود به هو نفس ما ادعو إليه . فأقاصيص ألف ليلة كما يرويها عبد الرحمن الخميسي ، والقصص الشعرية التي ينظمها الأستاذ الشاعر عزيز أباظة ، والملاحم التي يضعها أحمد باكثير هي محاولات في هذا المضمار تمتاز بالسعي من أجل إبراز التراث القديم . ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنها أعمال موفقة ، إذ يقتضي الحكم بالتوفيق أو بغير التوفيق أصولا منظمة ومقاييس موضوعة في نفس المنحني ولكنها تتسم بهذا الطابع الذي أنادي بالأخذ به ، وتهدف إلي عين الغاية من هذا المقال ، ولو لم يشأ لها أصحابها أن تكون كذلك .
لو أخذ الداعون للتراث القديم بما أوجه فكرهم إليه بهذا المقال لاستطاع الأدب الحديث أن يجمع بين دفتيه كل مطالب القراءة في العصر الحاضر ، وأن يستوفي مناحي الضعف والعجز فيه ، وان يرضي ميول الكثيرين ممن يتطلبون التنويع والابتكار في إنتاج الأعمال الأدبية . وفي الوقت نفسه سيكون هذا العمل من جانبنا بمثابة عناية جدية وتصفية فعلية للتراث التقليدي القديم .
