صفحة من تاريخ
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان العرب في مصر جلهم من الجند المقاتلة وقت الفتح، ولم يزد عددهم على ستة عشر ألفاً في هذا الوقت. ولم تكن سياسة الخلفاء الراشدين تسمح بنزول الجند في ريف مصر بقصد إقطاعهم الأراضي حتى لا يصرفهم ذلك عن الجهاد. وزاد عدد الجند العرب في مصر فبلغ أربعين ألفاً في عهد معاوية بن أبي سفيان.
ولا شك أن هذا العدد أخذ يزداد بازدياد العنصر العربي في مصر، وهذا نتيجة طبيعية لما كان من لحاق نساء الأجناد وأولادهم للإقامة معهم في هذا البلد، واتخاذهم إياه وطناً جديداً، وما كان أيضاً من التزاوج والاندماج في سكان البلاد الأصليين. ولعل العرب لم يفطنوا لأمر إحلال الكتائب بعضهم محل بعض في الأقاليم الإسلامية، الهم إلا ما كان من تناوب الأجناد الإقامة في الثغور كل ستة أشهر. وليس لدينا من المعلومات التاريخية ما يثبت أن قاعدة استبدال الكتائب في الولايات كانت معروفة عند غير العرب كالرومان والفرس. بيد أن عدم احتمال هذا الأمر أقرب إلينا من جواز احتماله لما كان يتطلبه من كثرة الأسفار.
غير أن العرب في مصر - على الرغم من زيادة عددهم كما بينا - كانوا في أوائل القرن الثاني للهجرة من القلة بحيث رأى عبيد الله بن الحبحاب عامل الخراج على مصر أن يشير على الخليفة هشام بن عبد الملك أن يأذن له في إسكان العرب من قيس في أرض الحوف الشرقي، وأكد للخليفة أن نزولهم لا يضر بسكان البلاد. وكان يقيم في هذه الكورة نفر يسير من جديلة.
نزلت قيس جهة بلبيس. وسرعان ما قارب عددهم خمسة آلاف، واخذوا يستثمرون الأرض ويتجرون في الإبل والخيل، وكانوا يحملون عليها غلات أرضهم إلى القلزم حيث تشحن إلى بلاد العرب. هذا وقد كان لقيس ضلع كبير في الفتن التي
أقامها المصريون في وجه الولاة حين هموا بزيادة الخراج. ولقد وفدت القبائل العربية على مصر تدريجياً، فجاءت قبيلة الكتز من ربيعة في النصف الأول من القرن الثالث الهجري فأقاموا في الصعيد، واندمجوا في السكان بالمصاهرة، وكانت لهم ضلع في الثورات والفتن التي قامت بمصر وعلى الأخص في أواخر عهد الفاطميين إذ ثاروا على صلاح الدين الأيوبي بعد أن تولى الوزارة بقليل.
على أن اندماج العرب بالمصريين اندماجاً فعلياً لم يتم إلا بعد أن اسقط المعتصم العرب من الديوان، وأحل مكانهم جنداً من الأتراك، فانتشر العرب في الريف واحترفوا الزراعة وغيرها طلباً للرزق؛ وازداد اندماجهم في السكان بالمصاهرة، ومن ثم أخذ التمييز العربي يتلاشى شيئاً فشيئاً، وبدأ ظل الولاة من العرب يزول بإحلال الولاة من الأتراك محلهم؛ ولم يحكم مصر بعد ذلك عربي إلا إذا استثنينا عنبسة بن اسحق (٢٣٨ - ٢٤٢هـ) والخلفاء الفاطميين.
تم فتح مصر على أيدي جند العرب، ولم يشأ عمر أن يقطعهم أرضها ليكونوا على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الجهاد وفتح البلاد المجاورة لمصر لتأمن مصر نفسها وليستقر بذلك سلطان العرب فيها. وقد فتح العرب في ولاية عمرو بن العاص الأولى بلاد برقة سنة إحدى وعشرين للهجرة وطرابلس في السنة التالية وغزوا إفريقية سنة ٢٧هـ تحت قيادة عبد الله بن سعد (٢٥ - ٣٥ هـ) والى مصر إذ ذاك، وهزموا الروم في هذه البلاد وقتلوا ملكهم، وخربوا قاعدة ملكه وتوغلوا في بلاد إفريقيا وصالحوا أهلها، وغزوا بلاد النوبة سنة ٣١هـ حتى وصلوا دنقلة، وفي هذه السنة اشتبك الأسطول المصري مع أسطول الروم فأنتصر الأول في واقعة ذات الصواري، ثم غزوا طرابلس مرة أُخرى في ولاية عمرو بن العاص الثانية.
ويظهر لنا أن هذه الغزوات لم يكن القصد منها الاستعمار لهذه البلاد وإدخالها في حوزة العرب كما كانت الحال بالنسبة إلى مصر، وإنما كان قصد الخلفاء وولاتهم على مصر القيام بها لتأمين
مصر من الغرب والجنوب ولذلك كان فتح بلاد المغرب. وكان العرب يقنعون بما يصيبونه من الأسلاب والغنائم وظلوا على ذلك حتى تحولت وجهة نظر الخلفاء، فأخذوا يهتمون بأمر بلاد المغرب بوجه خاص، فأرسلوا إليها الجند للمحافظة عليها، وقلدوا ولايتها ولاة مستقلين في الحكم عن أمراء مصر أو نائبين عنهم في حكم هذه البلاد إذا جمع بين مصر والمغرب لوال واحد.
وقد قام المصريون بدور هام في الغزوات البحرية في هذا العصر، فقد بني مسلمة بن مخلد (٤٧ - ٦٢هـ) في جزيرة الروضة داراً لصناعة السفن وإصلاحها. وكان لبناء هذه الدار فوائدها في حروب مصر البحرية، فقد غزا رودس الأسطول المصري، جهزه عقبة بن نافع سنة ٤٦هـ وتم له فتحها سنة ٥٣هـ ولما جاء عهد سليمان بن عبد الملك (٩٦ - ٩٩هـ) أصبح لمصر أسطول قوي شارك أسطول الشام في غزو القسطنطينية وإن كانت هذه الغزوة قد عادت على الأسطولين المصري والشامي بالفشل.
ولقد خاض الجند العرب غمار الفتن السياسية التي قامت في هذا العصر بين الخلفاء الأمويين والخارجين عليهم، وكذا بين بني العباس ومناوئيهم، وكان لتدخلهم أثر ظاهر في هذه الفتن.
