الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 199الرجوع إلى "الثقافة"

اسكندر الاسكندرية

Share

ليس تحت الشمس من جديد ، فقد يختلف اسم القرن ، وقد يختلف رقم العام ، وقد يقال فيما قبل الميلاد ، وفيما بعد الميلاد ، وقد يقال فيما قبل الهجرة وفيما بعد الهجرة ، وقد يقال فيما بعد الطوفان ، أو فيما قبل الوباء ، ولكن مع كل هذا الاختلاف في دوران الشموس والأقمار ، ومع كل هذا التباعد بين ذاك القديـم الأقدم ، وهذا الحديث الأحدث ، ظل الإنسان هو الإنسان ، في أحواله وأعماله ، في مخاوفه وآماله ، في تلك الدوافع النفسانية العميقة التي تطلق عزائم الرجال إلي الخير فتعمله ، أو إلي الشر فتجرمه .

نعم يتغير الظاهر ولكن الباطن ثابت لا يتغير . ويتغير المأكل والملبس والمسكن ، وتتغير الآلة والسلاح ، ولكن الأغراص التي يرمي إليها كفاح العيش وطموح الأنفس واحدة في أصولها ، والسبل التي تسلك لبلوغ هذه الأغراض ثابتة في جوهرها ثبوت الجبال والوديان

التي اكتنفت واحتضنت مآثر الإنسان ومناشطه قديما وحديثاً ، وثبوت هذا الهواء الذي استنشق منه الإنسان وزفر فيه قديماً وحديثاً ، وثبوت الجراثيم التي أحسنت إليه وأساءت قديماً وحديثاً ، وثبوت الموت وثبوت مداخله إلي أرواح الخلق قديماً وحديثاً .

فهذا الإسكندر نقرأ عنه ، وقد مضي بيننا وبينه نيف وعشرون قرنًا ، فنكاد نحسب أننا نقرأ عن رجل من رجال قرننا ، وبطل شهم أو بطل وغد من أوغاد جيلنا ، سواء في ذلك ما نقرأ عنه رجلاً إنسانًا ، أو قائــداً محاربًا ، أو ملكاً يمدد ما ورثه أبوه الملك من سلطان

وعلّمه أبوه الحكمة  ، ولم يرض له معلماً دون أرسطو قدراً ، فطلبه فجاءه يكمل أدب الشاب الذي كان أمل أبيه وأمل أمته ؛ وقضي في تأديبه نحو أربع السنوات . وقد يحسب الحاسب أن أرسطو لن يخرج من

بين يديه إلا فيلسوف حكيم ؛ ولكن بيضة الديك لا تنفقس إلا عن دجاجة أو ديك ، من أي جنس كان الطير الذي احتضها . خرج من أحضان الفيلسوف الأكبر أكبر من حمل السيوف من الملوك ، وأسرع من دان له المعروف من دنيا زمانه ، وذلك في سن صغيرة تبدأ عندها في العادة حياة الرجال .

كتب أبو الإسكندر إلي أرسطو كتابًا جاء فيه :

من فيلبس إلي ارسططاليس ، دعاء الصحة والعافية .

ثم إني أنبئك أنه ولد لنا ولد . ولست أشكر الآلهة على ولادته بقدر ما أشكرها على أن ولادته جاءت في زمانك . وإني لآمل ، بعد تربيتك إياه وتعليمك ، أن يكون أهلا لإرث مملكتنا العظيمة هذه ، فإني أري أن امتناع الخلف خير من خلف لا يكون وجوده في هذه الدنيا إلا عقاباً وعذاباً ، وإلا الخزي والعار لآبائه "

وتولي الفيلسوف الكبير تأديب الصبي في الثالثة عشرة من عمره ، فكان أكثر ما أفاد منه تلك الفلسفة التي تُعلم المرء قياد نفسه وزعامة الرجال والأمم . قال الإسكندر فيما قال : " إن لأبي على فضلا ، وإن لأرسطو على فضلا ، وفضل أرسطو فوق فضل أبي ؛ ففضل أبي في وجودي ، وفضل ارسطو في تعليمي أن الحياة عمارها الشرف والفضيلة " .

وحبب أرسطو إلي تلميذه الكتب فكان يطلبها أينما ذهب في غزواته . ونشر أرسطو كتبه بين الناس ، فكتب إليه الإسكندر يَعتب عليه ويقول إنه بنشرها إنما ابتذل من وقارها . فرد عليه الفيلسوف معتذرا يقول : ليس في نشر هذه الكتب إهدار لحرمتها ، فقد نشرت على صيغة لا ينتفع بـها إلا من كان سبق إلى فهم أصولها بالتعليم .

وكتب إلي أرسطو يطلب إليه أن يبعث له بكتبه في فن البلاغة والبيان ، وأمره ألا يجعلها ملكا مشاعا .

لأنه يريد ان يز الخلق ، لا في علمهم وأدبـهم ، ولكن كذلك في فن خطابـهم ومن هذا كان حب الإسكندر للموائد الطويلة ، إذ يطول جلوسه إليها فينعم بالحديث عليها ، حيث تتصايل الألسنة وتتقارع العقول .

وكان من أحب الكتب إلي قلبه " هومر " وقد كان يحسب أن " هومر " وحده وصف الحكمة التي بـها يؤسس الملك ويدوم بناؤه . وكان إذا نام توسد وسادته ومن تحتها " هومر " والسيف .

وكتب أرسطو للإسكندر خاصة ً كتابا في فروض الملك وواجبات الملوك .

على أن الإسكندر ، على ما أفاده من حكيم الإغريق الأكبر ، لم يكن عجينة طــــيـــــــعة في يده يشكلها كيف شاء ؛ فقد احتفظ الإسكندر بكل ما في طبعه من خصال لعبت دورها في رسم حياته المستقبلة . حتي أنتجة العقل لم يكن يتقبلها الإسكندر كلها تقبلا سهلا إذا هي لم تلتئم مع أسلوب تفكيره ، أو لم تختلط اختلاطا سهلا بمزاجه . مثال هذا أن أرسطو كان يري أن الإغريق هم وحدهم الناس ،

ومن عداهم فبرابرة صعاليك ، وكان عنده الفرق بين الناس والبرابرة  كالفرق بين الإنسان والحيوان , أو كالفرق بين الحي والجماد ؛ وعلى هذا بني تبريـره للرقيق ، فليس الرق عنده ظلم وإجحاف ، وإنما هو نظام من نظم الطبيعة لا يطيب العيش إلا به ، ولا يصلح المجتمع إلا عليه . وحاول

أرسطو أن يفرض هذا الرأي علي الإسكندر فقال له : إن غزوت الإغريق فهم رعيتك ، وإن غزوت غيرهم فهم عبيدك ولكن الإسكندر كان في هذا ، في الذي كان من فتوحاته ، أطوع إلي قلبه منه إلي رأس الحكيم ، برغم أنـها أكبر رأس عرفها العالم في هذا العصر القديم .

وبقي للإسكندر المقدوني طبعه الذي ورثه عن أبويه خالصا ، وكانا قد جمعا النقيضين ، فجمع عنهما من الخلق النقائض ؛ فمن أبيه تعلم الصبر وامتلاك النفس ، ومن أمه

ورث التهور والغضب ، وركوب رأسه إلي غايته كائنة ما كانت .

وكان هو وأبوه أكبر من تولي الملك من ملوك مقدونية ، ارتفعا بـها من خفض ، وانخفضت من بعدهما لغير ارتفاعها . وعلى وحدة الغاية بينهما ، وعلى وحدة القصة التي كتب الأب في سجل التاريخ فوائحها الأولى ، وأتم الإبن الكثرة من سائر فصولها ، فقد كان بينهما من تباين في الطبع ، واختلاف في الوسيلة ، ما حدا بالمؤرخ جستين Justin - من مؤرخي الرومان الأقدمين - أن يقارن بين الابن وأبيه . قال :

" كان فيلبس أكثر اغتباطاً بالحروب منه بالأفراح والولائم . وكانت أكثر ثروته ذخائر حرب . وكان أمهر في تحصيل المال منه في استبقائه ، ومن أجل هذا كان في فقر مستمر ، وفي حاجة دائمة على الرغم من مكاسب الميدان وأسلابه . ولم يكن بطبعه يميل للرحمة ، ولكنه أنفق منها

كلما تطلب الحال . ولم يكن يري في التغلب على أعدائه فرقاً بين طريق مستقيم وآخر معوج ، ما أديا إلي غاية واحدة ، وكان سخي الوعد فيما يعلم انه لن يفي في أقله . ولم يكن مقاس الصداقة عنده الإخلاص ، ولكن ما تجر وراءها من مغانـم . وكان من أخطر كفاياته اصطناع الحب عند أكثر الناس بغضاً إلي نفسه ، والسعاية بين

الأحباب ليتفرقوا في الحين الذي يزيد صلتهم به توثيقاً . وكان طلق الحديث مجاملا فيه ، ولكنه كان حديثاً يستر وراءه دائماً خبراً يستطلع ، أو خطة تدبر ، وكان إذا تكلم ، جاداً أو هازلا ، انعش الأفئدة وأمتع العقول . فقد كان في حديثه جمال لم يمنع من سهولة ، وسهولة لم تضيع ما فيه من جمال " .

" وتولي الإسكندر بعد أبيه ، فاختلفت طريقة غزوه للأمم اختلافا ًكبيرا ؛ فالابن اعتمد على القوة الصارخة الصريحة ، بينما اعتمد أبوه على المكر والخديعة ؛ وأُغرم

الأب بالحيلة يحبكها وراء ظهر العدو حبكا ، وأغرم الابن بالضرب في الوجهة حتى يكون الحكم كله للسيف " .

" وكان الأب رائعاً في مشورته وصبره وحلمه ، وكانت روعة الابن وفخامته في غضبه . ويغضب الأب فيكظم غيظه ، فلا يفضحه وجهه ، ثم هو كثيراً ما يقاهر غضبه فيقهره ، ويغضب الابن فيشتاط فلا يدري كيف يبرد من أواره أو يلطف من نقمته . وكان في كلا الرجلين للخمر شراهة ؛ ولكن أثرها اختلف فيهما ،

فالوالد كان يترك الوليمة مخموراً فيخرج يطلب العدو ليشفى غل الخمر فيه ، فيكشف عن نفسه ويفتح فيها للعدو ثغرات ؛ ويشرب الولد فيشتجر مع إخوانه وخلصائه ، فيثور عليهم ثورته على أعداء الداء  . من أجل هذا كان كثيرا ما يعود الأب من الوقائع جريحاً بسيوف أعدائه ، بينما يعود الإسكندر من المائدة ملطخاً بدماء أحبائه "

" وحكم فيلبس وحكم معه أصحابه ، وحكم الإسكندر وحكم أصحابه ؛ وأراد فيلبس في حكمه أن يكون محبوباً ، وأراد الإسكندر في حكمه أن يكون مخوفا ؛ وأحب كلاهما المعرفة وشجعا عليها . وبـهذه الخلائق وبغيرها مهّد الأب                                                                       لفتح الدنيا ، وأتم الإسكندر ما مهد له أبوه " .

وعلق الإسكندر بالحرب في سن باكره ، ففي السادسة عشرة خرج ابوه لحرب ، وخلف ابنه في المملكة يحكم مكانه ، فحدث في هذه الفترة عند الحدود أن شقت قبيلة عصا الطاعة وظاهرت بالعدوان ؛ فما كان من الإسكندر إلا أن خرج إليهم في عسكر يطلب النصر لحسابه هو ، وما لبث أن هزمهم ، وأسر شيخهم ، وأجلاهم عن منازلهم ، وأسس مكانـها مستعمرة أسماها " إسكندر بوليس " أي مدينة الإسكندر .

وكان للإسكندر من صغره بصر بأداة الحرب ، و بالرجال والخيل .

حكوا أن قوما جاءوا أباه بجواد مختار من مملكة

إتسالية ، وكانت معروفة بأصالة خيلها ، وطلبوا فيه ثمناً كبيراً ، واجتمع الملك واجتمعت حاشيته لتجربة الجواد في العراء ، فكان جوادا شموسا عز على السوّاس ترويضه . فيئس منه الملك وقال أخرجوه . فصاح

الإسكندر غاضبا : إن جوادا أصيلا سيضيعه جهل رواضه . ولم يكن الإسكندر عند ذاك إلا صبياً ، فقال له أبوه يؤدبه : وهل علمت أنت في سنك هذه ماجهل الرواض ؟ فثــارت نفسه الشابة ثورتـها التي عرفت بها في زمان لاحق عندما اشتد عوده وبلغ مبلغ الرجال . فقال في

ثبات لأبيه : نعم فابتسم الملك ، وابتسمت الحاشية ، فقال الملك : أفتقوم إليه أنت ؟ قال : نعم . قال : وما الرهان ؟ قال :  ثمنه . وكان الصبي قد لاحظ أن الحصان عندما شمس كان ظهره للشمس ، فوقع ظله أمامه فارتاع منه . فلما قام إليه أمسك بلجامه ، ثم أدار للشمس وجهه ، فخفف

هذا شيئا من ثورته . فجري بيده مترفقا علي عنقه . وفي لمحة بصر وثب فركبه وهو لا يزال يرغي . وأبي أن يطيع اللجام ، وأخذ يركل برجله ويضرب برأسه ، وأراد أن يجمح - فترك له الإسكندر العنان ، وأثبت المهماز في خاصرته ،

وطار الحصان والإسكندر يصرخ من فوقه صراخ شيطان جن جنونه . فلما تعب الحصان وأراد أن يهدئ من جريانه ، ثم يتركه الإسكندر يفعل ، وظل يزيده همزا حتى

أفرغ جهده ، ويإفراغ جهده أفرغ شموسه ، وعاد به إلي القوم ، وهم ينظرون ، ذليلا طيعاً . فلما نزل عنه ، قام إليه أبوه الملك يقبله والدمع يترقرق في عينيه .

فهذا هو الجواد الشهير ، رأس الثور Baceptaus , الذي صحب الإسكندر من بعد ذلك في غزواته ، وسقط في الهند قتيلا  كما يسقط أبطال الحروب .

( لها بقية )

اشترك في نشرتنا البريدية