الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 200الرجوع إلى "الثقافة"

اسكندر الاسكندرية، الإغريق قبل الإسكندر

Share

من خصائص التاريخ أن يومه لا يفهم إلا بأمسه ، وان غده لا يستنبط إلا من يومه . فكما أن تاريخ محمد عليه السلام لا يفهم إلا بالجاهلية ، ونابليون إلا بفهم الثورة الفرنسية ، ومصطفى كامل وسعد إلا بالثورة العرابية ، فكذلك تاريخ الإسكندر إسكندر الإسكندرية ، لا يفهم إلا بالذي كان من تاريخ الإغريق قبل زمانه

فإلى بعض وجوه هذا التاريخ نسوق هذا الحديث ، في غير إطناب يخرج بنا عن الغاية ، وفي غير ) إيجاز نفهم معه الدوافع التي دفعت بالإسكندر إلي التسلط على بلاد الإغريق ، تسلط الغزاة ولكن في ترفق كثير ، ثم خروجه عن تلك البلاد ببذر الثقافة الإغريقية حينما ضربت في الأرض قدماه

وتاريخ الإغريق إن هو إلا تاريخ الثقافة الأوربية في اصولها الاولى ، في ادب وفي فن وفي فلسفة وفي سياسة ، حتى وفي علم ، فكل ثمرات هذه المناشط الإنسانية الكبرى التي تستمتع بلذتها اليوم ، أو بحنظلها إن شئت ، نبت أكثر جذورها في شبه تلك الجزيرة التي بأقصى طرف أوربا شرقا بجنوب ، عند ملتقي القارتين

آسيا وأوربا ، بل عند ملتقي الثلاث ، هاتين وإفريقية فعند ملتقي هذه القارات الثلاث خطت حصارات الإنسان القديم ، تتناعز مركزها القرون الأولى ، فحينا تذهب به يمينا ، وحينا تذهب به يسارا ، وحينا قدام وحينا خلف ، ولكنها تتأرجح حول هذا الملتقي

دائما ، أو هكذا ما عزفنا من التاريخ ، أو هكذا هو تاريخ الإنسان الأمس اليوم بنا ، سواء منه ما جاء إلينا مشرقا أو جاء مغربا . فنحن لا ننسي ان حضارة العرب ، فيما عدا الدين واللغة ، جاءت من مصدرين : الفرس والإغريق ، وإن أردت نلئت فقلت والرومان ؛ فمن هؤلاء اقتبس العرب تفاصيل حكمهم ونظم دواوينهم

وعلومهم وفلسفتهم ، حتى والغناء اقتبسوا افانينه من أفانين الفرس والإغريق . حتى الدين دخلته شيع وتحل بعض منابعها من بين الفرات ودجلة ، او فوق ذلك تشريفا ، ومنابعها الأخرى من الشمال ، من اثينا وبيزنطة ، أو من وراء النيل ، من الإسكندرية ، وهي إفريقية بناء ومذاهب فنونا .

ونحن إن قلنا الرومان فقد قلنا الإغريق في طراز جديد . ونحن إن قلنا الفرس فإنما نعنى الفرس التي سطت على بلاد الإغريق ، ثم سطا عليها الإسكندرية بإسم الإغريق وباسم الثقافة الإغريقية ، ففعلت تلك الحروب بهما ما تفعل الريح بالحب ، تنفضه عن الشجر وتشتت بذوره في بقاع

جديدة من الأرض ، ليدوم بها الثمر ، ويشتد بتجديد البيئة النسل ، ويعم الرخاء فمن عمل الحروب نقل الثقافات . ومن عملها كذلك خلط الثقافات . " وأرسلنا الرياح لواقح " وكذلك من الحروب .

ولن نتحدث عن أصل الإغريق ولا عما حملت أرضهم في تلك العصور البائدة من أمم .

فلن نتحدث عما كشفه التنقيب منذ عشرات السنين في طروادة Troyفي الجانب الأسبوي ، ولا في ميسينيه Mycenae في بؤرة البلاد الإغريقية في الجانب الأوربي ، ولا في إقنوصص Knossesفي جزيرة إكريت Crete

من مدينات عظيمة كأحسن ما كانت المدنيات القديمة ، لها لغات لا تزال معجمة لا تشبه لغة الاغريق في كثير ، ولها دين لا يتصل بدين الإغريق من قريب ، عاصرت الأسر المصرية الأولى ، أو كانت أشد منها قدما

ولن نتحدث عن عصر الإلياذة والأوديسى ، قصيدتي الإغريق وإنجيلهم ، ولا عن صاحبهما الشاعر هو Homer بهذا الذي لا نعلم عنه أكثر من أنه صاحب الإلياذة والأوديسي ، فكأنهما ابدعاه ولم يبدعهما ؛ ولن نتحدث عما تضمناه من حوادث لا يدري اين موقعها من الزمان يقينا ، ولا أين موقعها من المكان يقينا ، وهل مما سجل وقائع ، أم خيال شاعر ، أم أخيلة شعراء .

ولن نتحدث عما تتمخض ، اقاصيص اليونان عن اصولهم واصول أبائهم ، وانحدار ملوكهم من اصلاب عليهم ، ولا عن غارات قبائلهم ونزوحهم من الشمال إلي تلك البلاد ، ثم تدافعهم فيها وإخراج بعضهم بعضا ، واختلاف مساكنهم من جراء ذلك

لن نتحدث عن شئ من هذا القديم المبهم ، ولكنا نهط هبوطا على القرن الثامن قبل البلاد او نحوه ، لنقع على شيء اشبه بالتاريخ منه بالأقصصوصة ؛ فنجد بلاد

الإغريق وقد استوطنها أقوام لهم أسماء متباينة ، ولكن جمعتهم لغة واحدة ذات لهجات متقاربة ، ودين واحد ، أسموا انفسهم بالهيلينين Hellenen وارضهم ارض الإغرين بهيلاس  Helas واعتزوا جميعا بأبيهم الأول

الذي زعموه هيلين Helen، وفي اعتزازهم به اعتزوا بدماء منه جمعت بينهم كانت خير ما في الأرض من دما فهم صفوة الخلق وسائر الناس عكره . وهم شعب الآلهة المختار وسائر الناس برابرة والبربري في لغتهم Barbaroi معناها الأعجمي ، فالبرابرة أعاجم

وعلي اجتماع الهيلين ) الإغريق ( في شعب واحد ، فقد احتفظوا في نطاقه الواسع بالعصبية القبلية الأولى . كالعرب لم تمنعهم عربيتهم من تشاحن القبائل بينهم وتطاحنهم حتى جاء الإسلام يمنع العصبية ، وقليلا ما منعها . فتتميز الإغريق بعضهم عن بعض في ذلك القرن والقرون التي تلته

إلي انطواء أيامهم وزوال مجدهم بغلبة الرومان عليهم في القرن الثاني قبل الميلاد . تميزوا في قبائل ثلاث ، أو إن شئت أجناس ثلاث : الجنس الأولي الأبولى Aeoliens والجنس الأيوني Lonians، والجنس الدوري Dorinns .

أما الجنس الأبولي فاحلي شمال تلك الأرض أرض الإغريق ، إتساليه Tessaly وبوطية Boeotia  وما حولهما ، وأما الجنس الأيوني فاحتل القسم الأوسط . من تلك الأرض في شمال برزخ كورتنا ، وأكثره ولاية أتيكة Attica وأما ما تحت هذا البرزخ ،

تلك الشبه الجزيرة ذات الأصابع الثلاث التي تمدها جنوبا في ميناء البحر الأبيض ، فقد احتلها الدوريون . وتسمي بشبه الجزيرة هذه باليبلوبونيس Pelopanesus

ولعل في هذه الأسماء لعجمتها استيحاش للقاري ، لهذا نسرع فنقول إن العنصر الأيوني ، هو الذي ندعوه نحن باليوناني ، ونسبغه على كل الأجناس الإغريقية لغلبة ثقافته على كل ثقافاتها ، ولشيوع لغته وصيرورتها لغة الكتابة والتعرف والعلم والفلسفة . وأثينا عاصمة اليونان الحاضرة هي

أثينا أشهر بلاد هذا العنصر في ذاك الرمان أما العنصر الدوري فعنصر لم تكن من خير ميزانه الثقافة ، ولكن كانت من صفاته الخشونة والرجولة والحرب يصطنعمها اصطناعا . وكان أكبر مدنه المدينة الشهيرة إسبرطة Sparta ومن شدة عرام هذا العنصر وقسوته انه هبط

حيث هبط ، من شبه الجزيرة التي وصفنا ، على فبنيل رابع لم تذكره من الإغريق ، هم الأكيلين Acaelan ، فشتت منهم من شتت ، واستعبد أكثرهم فظلوا إلي الأبد تحت أقدامهم قوما خاضعين .

وكأنما ضاقت أرض الهيلينين - أو الإغريق كما

سماهم الرومان بعد ذلك Oraccia كأنما ضاقت بهم أرضهم ففاضوا عبر البحر إلي جزر بحر إيجية الكثيرة فاستعمروها . ثم ذهبوا وراء هذه إلي الأناضول واستعمروا ساحله ، فكان لكل عنصر مستعمرات في قبالته من ذلك الساحل الأسيوي . وأوغل الإغريق في الشمال أيضا فاستعمروا

سواحل الدردنيل وبحر مرمره واحتلوا من ساحل البحر الأسود ما احتلوا ، ومن أشهر مستعمراتهم هناك بيزنطة ) استانبول اليوم ( ، وفي جنوب الدردنيل استعمروا من سواحل ترافية ومقدونية وغربوا فاستعمروا سواحل إيطالية السفلى وأنشأوا عليها المدن ، وانتشرت لغة الإغريق هناك .

وعلي الساحل الغربي من إيطالية أسسوا مدنا أشهرها نيولس   Neaspolisنابلس Naples اليوم وصقلية استعمروها وأسسوا المدن فيها ، وكان أشهرها سرقيوسه Syracusa وساحل فرنسا لم يفلت من استعمارهم فأسوا عليه مدينة

ماسيليا Massiliaمارسلية اليوم ( . وساحل إفريقية كذلك لم ينسوه . ومن هذه المستعمرات ما شب عن الطوق واستقل بمشيئته وناضل عن وجوده ، وصار رافدا بعد أن كان مرفودا .

ولم يكن استعمار الإغريق لما استعمروه من ساحل أوربا أو آسيا أو أفريقيا يشبه في شئ استعمار دول اوربا

الحاضرة لما استعمروه من أمم الأرض . فلم يكن بين الإغريق ومن استعمروهم فرق في اللون ، ولا فرق كبير في الثقافة . ولم تختلف الأجواء فكان استعمرا طبيعيا سهلا ، اندمج داخله في مدخوله ، واختلط الناس فيه وتناسلوا فانبهمت الاصول . وصار السكان واللغة والعادة ، وقد توحدت جميعها ، مستراد الكل فيها طلبوه من أسباب العيش والحياة

وزاد هذه المستعمرات وتوق أرض ، وزادها سهولة اختلاط ، أن الكثرة الكبرى منها لم تكن ترتبط بأوطانها الأولى برباط سياسي كما ارتبطت مستعمرات أوربا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بعد الميلاد . بل كل ما كان هناك بين تلك المستعمرات القديمة وأمهاتها الأولى روابط قلب على بعد ، واتحاد ثقافة . فكان كل اعتمادها إذا علي

أنفسها ، وكان ترعرعها في المكان الذي نزلت فيه بمحض إرادتها وجدارتها . ولعل هذا النوع من الاستعمار هو الذي احتفظت به إلى اليوم دماء إغريق مصر ، وهم أكبر جالية أجنبية فيها ، فتراهم أوغلوا في الريف المصري حتى قراه ، دون ما جيش يحمي اظهرهم ، أو أسطول يزبد ويرعد فيبلغ إزباده وإرعاده أقصي الأرض فتعنو له الحياه .

ومع هذا فقد قصر الإغريق استعمارهم في ذلك العهد البعيد على سواحل البحار ، ولم يوغلوا في ارض نزلوا بها إلا عقدار ما توغل نسائم الماء حتى جاء الإسكندر فأشع الإغريق وقومه من هذا التوغل اشباعا . إلا الجزر فقد استعمروها قبل الإسكندر وأكملوا استعمارها ، لأنها كلها سواحل ، وقسم البحر لا تكاد نقلت منه بطونها . ومن امثلة تلك الجزر قبرص ، ورودس ، وصقلية ، وجزر بحر إيجة جميعا .

وما كان بدعا أن نشأت هذه المستعمرات الإغريقية مستقلة عن أوطانها التى منها نبتت ، ومن جذوعها تفرعت . فهذه الأوطان نفسها لم تجمعها وحدة ابدا .

فالدولة الإغريقية لم يكن لها وجود في تلك العصور أبدا ، إنما كان يوجد الإغريق ، وكانت توجد بلاد الإغريق ، وهي تراها دول كثيرة بلغت يوما أكثر من خمسين ومائة دولة ، اكثرها في حجم المدينة وما يحيطها من ريف ، تتنازع البقاء جميعها

وتتنازع السيادة بالحروب ، والقدر يأىي علي دول منها أن تسود فتتزعم فتلم شمل هذه الدول في أمة واحدة . فصار لكل من هذه الدول العديدة ، إن صح أنها دول ، قانونها وتقدمها وأحزابها ،

وسياستها ، وكانت تدور في الأكثر على إكثرة حرب أو قبول سلام ،

وقد لعبت جغرافية البلاد دورا خطيرا في نشوء هذه الدول الإغريقية المتجاورة الصغيرة ، وفي امتناع اندماجها في واحدة كبيره .

قال بعض المؤرخين يصف أرض الإغريق :

" إن مظهر هذه الأرض يأبى كل واسع عظيم من المعاني ؛ وهو يرحب ، حينما نظرته ، بالدقة أكثر من الفخامة ، وبإجادة الصنعة في الرقعة الصغيرة الواحدة أكثر من إجادتها بتوسيع الرقعة ، وساحلها كساحل النرويج ينازع مائعة جامده نزاعا أبديا ؟

فخلجانه تمتد في أرض طويلة رفيعة ، وخليجانه تكشف عن شواطئ منبسطة نسر الباطر ، هي أطراف سهول إطرافها الآخر في احضان جبال تحتضنها احتضانا ، فكانما هي مسارح تتمثل عليها روايات الحياة بين حوائط من جلمود . أما رؤوس

هذا الساحل فتخرج إلي البحر في جرأة ، وهي طويلة مديدة ايضا ، وهي عالية السنام ، تنحدر عند البحر انحدارا أشبه بانقضاض النسر يسقط على فريسته سقوط الحجر

" وسطح هذه الأرض ، أرض الإغريق ، سطح مجمد ، كورقة بسطتها فوق كفك ثم طويت أصابعك عليها . فكانما أرادت الطبيعة عند تشكيلها أن تجعل منها أكبر سطح في أقل دائرة . ففيها الجبال الوحشية العالية ، وفيها الوديان الفسيحة الخصبة يرادف

بعضها بعضا . فوادي أثينا طوله من البحر أربعة عشر ميلا ، ولكن اقصي عرضه لا يزيد على خمسة الأميال روادي إسببرطة Spartaمثل ذلك طولا وضيقا ، يرتفع الجبال من حوله فيبلغ بعضها ثمانية آلاف من الأقدام وكذلك أرجوس Argos وكذلك غيرها

وديان عزلتها الطبيعة ، بعضها صغير وبعضها كبير ولكن في كل منها كتب الزمان تاريخا هو بتاج هذا المكان خاصة . فكل واد له قصته ، وكل واد له مؤسسساته وعاداته وحياته ، يحياها على ما تقضي به الأرض وتأتي به البحار "

اشترك في نشرتنا البريدية