الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 674الرجوع إلى "الثقافة"

افلاطون والشعر والشعراء

Share

أفلاطون من الفلاسفة القلائل الذين انعقد الإجماع على قوة شاعريتهم وسمو ملكاتهم الأدبية ، وقد اتفقت في ذلك آراء الفلاسفة والشعراء ونقاد الأدب ، ولا أعرف أن أفلاطون قد فرض الشعر مثل الفيلسوف العاصر سانتا يانا أو مثل الفيلسوف الروماني لوكريتاس ، وإنما تجلت شاعريه أفلاطون في محاوراته المشهورة ، فهذه المحاورات لا تمتاز بالتفكر الصارم والمنطق المتماسك وحدهما وإنما تمتاز كذلك بجمال الأسلوب ، وحسن اختبار الألفاظ ، والاستطرادات الشائقة ، والفكاهة اللامعة ، والمتشبهات الرائعة ، والاستعارات والمجازات والأساطير والخرافات التي لا يجمعها ويؤلف بين شواردها سوي مخيلة شاعر قوي الحس وثاب الخيال .

وكان المنظور والمأمول أن يكون هذا الفيلسوف العظيم الذي أوتي الملكات الأدبية الممتازة ورزق الحس الدقيق والخيال الناشط والذي كان واسع الاطلاع على الشعر كثير الاعتماد عليه في توضيح أفكاره وترصيع كلماته كان المنظور أن يكون عظيم التقدير للشعراء ، جم العطف عليهم ، والبر بهم ، عاملا علي التنوية بهم ، والإشارة بفضلهم ، ولكن الظاهر أن لكل شىء آفة من جنسه ، فأفلاطون الذي كان من أوفر الفلاسفة شاعرية كان أشدهم وطاة على الشعراء ، وأقساهم حملة عليهم ، وقد بلغ به الأمر إلى حد إخراجهم من جمهوريته صوتا لها من الفساد وإبقاء عليها ورعاية لها .

وحماسة أفلاطون في الدفاع عما اعتقد أنه الحق جعلته لا يرى بأسا في التنكر لأصدقائه الشعراء وانتقاص الشعر، على إعجابه به وحبه له ، وكأنه في حملته على الشعر والشعراء قد يضع من نفسه بضعة ، وضحي بجزء من كيانه على مذيح الفلسفة ، ولم يستطع في جمهوريته أن يغالب الاعتراف عليه للشعر ، وكأنه بهذا الاعتراف كان يحاول التكفير عن هذه الخطيئة ، فيقول عن لسان سقراط " يجب أن أصرح بفكري رغما عن احترامي هوميروس الذي أحسبه ، منذ حداثتى ،

أمير ناظمى المآسى والمرائى الأعظم ، على أنه من الخطأ تضحية الحقيقة إكراما للإنسان ، لذلك يجب أن أقول  قولى (١)" .

فما هو الباعث على هذه الحملة الشعواء والسر في هذا الانقلاب الشديد على الشعر والشعراء الذي آلم الشعراء والفنانين ، لأنه من رجل لا يمكن أن يرمي بفتور العاطفة أوضعف الشعور الجمالي أو سطحية التفكير وتفاهته ، ولا أن يوصف بمجرد حب الشذوذ والخروج على الإجماع ومخالفة ما تواضع عليه الناس ؟ .

كان الشعراء الذين سبقوا عهد أفلاطون يزعمون أن الشعراء يوحي إليهم ، وأن الآلهة هي التي تلهمهم الأفكار الناضجة ، وتلقنهم الحكمة وفصل الخطاب ، وكان دليلهم على ذلك ما تتضمنه أشعارهم أو أغانيهم من الحق والصدق والأفكار المنيرة والخواطر المشرقة ؛ وقد تناول أفلاطون نفسه هذا الموضوع في إحدي محاوراته المشهورة ، وهي المحاورة  المسماه "إيون" فقال في خلالها على لسان سقراط " كل الشعراء المحيدين سواء كانوا ينظمون الشعر الغناني أو الشعر القصصي يفرضون أشعارهم الجميلة لأنهم ملهمون ومستولي عليهم لا بالفن " .

ولكن مثل هذه الفكرة لا تستهوي مفكرا مثل أفلاطون ، ويكاد الإنسان يلمح خلال هذه المحاورة التي اختص بها أفلاطون هذا الموضوع سخريته الخفية من تلك القشوة التى تستولي على الشعراء فتذهل عقولهم . وتنيم تفكيرهم ، وتجعلهم ألسنة معبرة عن هذا الالهام ؛ فأفلاطون يؤمن بالعقل في صفاته ونقاوته وبراءته من تأثير الحواس وأخطائها الملاحقة ، والمعرفة التي لا تجيء عن هذا الطريق معرفة مضللة مشوبة بالأوهام ، فوحى الشعراء لا يلائم فلسفته وآراء الشعراء لا توافق تقويمه للأخلاق .

وفي عصره كان تقدير الشعراء قائما على أنهم يعلمون الشعب ويهذبونه ، وكلما كان الشاعر شاعرا مجيدا كان كذلك معلما قديرا ، وقد كان هوميروس عندهم أعظم الشعراء ، فهو لابد ان يكون أعظم المعلمين ، ونري من ذلك أن النظر إلي الشعر من الناحية الأخلاقية والوجهة التعليمية التربوية كان هو النزعة الغالية على عصر أفلاطون .

ولم يسأل أفلاطون نفسه هل هذا هو التقدير الصادق للشعر ووظيفته ، وإنما اكتفي بأن يبحث هل هذا التقدير للشعر نافع للفضيلة والأخلاق أو ضار بهما ، وهذه هي الناحية التي تناول منها الموضوع في جمهوريته ، وأوقف الجزء العاشر منها على تناوله وتفصيل رأيه فيه . وقد وضع أفلاطون كتاب الجمهورية ليوضح فيه مثله الأعلى للدولة من ناحية ومثله الأعلى للفرد من ناحية أخرى ، وحاول إخضاع كل شئ بما في ذلك الفنون والآداب لخدمة المجتمع والفرد من الناحية الاخلاقية ، وحاول أن يزيل من طريق الدولة والفرد كل ما يعترض تحقيق المثل الأعلى للدولة والفرد ، ويقيم في سبيلة العقبات والحواجز.

فهو من أول الأمر قد نظر إلي الموضوع من الناحية الاجتماعية ، وأظهر أنه لا يحفل بالفنون والآداب إلا من ناحية تأثيرهما الحسن في تكوين حياة المواطن الصالح فجودة الشعر وإتقانه وبراعته لا تشفع له إذا رأي الحكام منعه من الإذاعة والانتشار وتحريمه لأنه يسئ إلى كيان الدولة ويهبط بمستوي أخلاق الفرد .

لذلك لم يحجم أفلاطون عن مهاجمة هوميروس وهسيود ومن إليهما من الشعراء اليونانيين الذين ساروا في آثارهم ونهجوا نهجهم ، وكيف يسمح الحكام بتمثيل الآلهة تمثيلا سيئا وإظهارهم في مظهر الحريصين على الانتقام والذين غلبتهم الشهوات على أمرهم ، أو في صورة الأشخاص الغلاظ القلوب الذين يسفكون الدماء ويستحلون الحرمات ويحارب بعضهم بعضا لأتفه الأسباب ؟ وكيف يسمح الحكام لهؤلاء الشعراء بأن يصفوا الله وهو مصدر الخير والنعم بأنه موجد الشر ؟ وكيف تترك للشعراء حرية إظهار الآلهة في صور مختلفة والتحدث عنهم بالباطل والافتراء عليهم والحط من أقدارهم ! ولا يليق كذلك بالشعراء أن يتحدثوا عن الأبطال أمثال أخيل وبريام بما يكشف ضعفهم ويظهرهم في صورة من استبد به الحزن أو من تملكه الغضب وحب الانتقام .

فهوميروس وهسيود متهمان إذا بأنهما يفسدان الأخلاق ، وشعراء المأساة وشعراء الملهاة يؤخذ عليهما كذلك أنهما يقلدان أشياء غير جديرة بالتقليد ، فلا مكان لهم جميعا في جمهورية افلاطون ودولته المثالية ، ولا مانع من أن تكرم وقادتهم وتوضع على رؤوسهم أكاليل الغار . ولكن ليكن ذلك كله في ناحية بعيدة عن الجمهورية التي يجب أن لا يدنسها حضورهم ، وهكذا نجد أن أفلاطون قد وقف في صف بعض المتشددين من العباد والزاهدين الذين يرون في الفنون والأداب ما يخرى بالفساد ، ويهيج الشهوات ويحرك ميول الشر الهاجعة ، ونزوات النفس الساكنة .

ولكن أفلاطون لا يقف عند هذا الحد ، فهو قد انتقص الشعر من وجهة نظر الأخلاقي المتشدد ، أما من وجها النظر الفلسفية فهو يرفض الشعر لأنه في رأيه قائم على الباطل ، وأفراد جمهوريته ينشدون المثل الأعلى الأخلاقي في سلوكهم ويطلبون الحق في تفكيرهم ، فما حاجتهم إلى الفنون الموغلة في الباطل ؟ .

والفنان عند أفلاطون موكل بالمظهر ، بل الأمر أدهي وأمر من ذلك ، لان الفنان في الواقع موكل بمظهر المظهر ، فهو يتناول الدنيا التي نعرفها عن طريق حواسنا ، ودنيا المظاهر العارضة المنقلبة التي تزوح فيها الأشياء وتغدو وتبدو مرة صغيرة ضئيلة وأخري تبدو ضخمة كبيرة ، وتكون مرة حلوة مستعذبة وأخري تكون مرة مجنواة ، ولكنها في تغير دائم ؛ على حين أن الشىء الحقيقى ثابت لا يتغير وواحد لا يتعدد ، فهناك مظاهر كثيرة نصفها بأنها حمراء أو صفراء أو خضراء ، ولكن هناك لون واحد أحمر ولون واحد أصفر ولون واحد أخضر ، وهو فكرة اللون الأحمر أو الأصفر أو الأخضر الكامنة خلف المظاهر المتعددة لهذه الألوان الأصلية ، وهناك أشياء كثيرة نصفها بأنها أشياء جميلة ، ولكن الجمال المطلق واحد يدرك العقل حقيقته ، وأما ما تراه العين فإنه من صور الجمال ، وهي صور منقولة عن هذا الأصل ، والفنان يقلد أمثال هذه الصور ، فهو لا ينقل عن الأسل وإنما يقلد التقليد .

والكرسي الذي يصنعه التجار ليس هو حقيقة ، وإنما هو مظهر ، وذلك لأن الكرسي المثالى واحد ليس بغيره ، لأنه لو تعدد لكان وراء كل صورة كرسي الكرسي المثالي المطلق وهذا المثالى المطلق لا يتعدد . فالنجار إذا يحاكي

الحقيقة ويتخذها أنموذجا ، ومحاكاة الحقيقة مهما بلغت من الإتقان ليست الحقيقة ، فالكرسي الذي يصنعه النجار إذا غير حقيقي ، والمصور الذي صور هذا الكرسي إنما يصور خيال الحقيقة أو ظلها ، فصورته في الواقع هي خيال الخيال أو ظل الظل ، فهي من ثم أبعد عن الحقيقة لأنها محاكاة المحاكاة .

والشاعر مثل المصور إلا أنه يستعمل الأفعال والأسماء والأوزان التي تستجيب لها الأذن ، كما تستحيب العين للصور ، وهو مثل المصور لا يستحضر سوى الأشباح المحكية . والصور المرددة المكرورة ، وعمله مثل عمل المصور محاكاة للمحاكاة ، وموضوعه باطل وطريقته ضلال في ضلال ، لأنه لا يستجيب للعقل ، وإنما يستجيب للعواطف أي للأهواء والنزوات ، وهو يغذي أنقه أجزاء النفس ويثيرها ويقويها ويحرك العواطف التي لا كابح لها ، والتي نخجل في حياتنا العامة من أن نطلق لها العنان ونلبي مشيئتها ؛ ومن أجل هذه الأسباب القوية لا مندوحة عن إبعاد هوميروس وهسيود من الجمهورية المثالية ، وإذا سمع فيها بتلاوة شئ من الشعر فليقصر ذلك على القصائد الدينية التي تمجد الالهة وتسبح بحمدها .

هذا هو موجز رأي أفلاطون عن الشعر والشعراء الذي بسطه في جمهوريته ، ومن السهل أن نلمس فيه ناحية الخطأ وجانب الضعف والأنحراف ، ولكن خطأ أفلاطون مثل خطأ سائر كبار الفلاسفة والمفكرين يطوي في ثناياه جانبا من الحق الذي قد ينفع المفكرين ويرشدهم إلى الطريق السوي ؛ فأفلاطون على حق حينما يقول : إن الشاعر أو الفنان يأتي بشئ ينقص عن الحقيقة التي يريد تمثيلها ، وأقدر الناس على التصوير لا يجىء بالصورة المطابقة للأصل تمام المطابقة ، ولكنه إن كان من ناحية يرسم صورة أقل من الحقيقة ، فهو من ناحية اخري يضيف في صورته إلي الحقيقة شيئا من عنده لم يكن في الأصل الذي نقل عنه ، أي أنه خلق شيئا ويضيف جديدا ، فهو يبث فكرته ، ويضيف إحساسه الخاص ، ويكشف لنا عن إدراكه الخاص للصفات الأصلية الجوهرية ، والجوانب المميزة البارزة في الأشياء التي يتناولها ، وكأنه يحاول أن ينقي الصورة من التفصيلات التي لا تروم لها والحواشي غير الجوهرية ليبرز لنا الفكرة في صفائها ونقائها ، وهو بذلك قد استطاع أن يسبغ على القطعة الصغيرة التي استخلصها من الدنيا صفة الوحدة والنظام والبقاء والدوام التي يكثر أفلاطون التحدث عنها .

وقد أوضح أفلاطون الخلاف بين الفن والأخلاق ، والكثيرون من مفكري العصر الحاضر لا يقرون أفلاطون على وجود هذا الخلاف ، فالمذاهب الأخلاقية تهذب وتعلم . والفن لا يحاول أن يعلم ، وإنما يحاول أن يصف الحياة كما يحسها الفنان . ومن حقنا أن نقبل ذلك الوصف أو أن نرفضه . وإذا أردنا أن نستخرج منه درسا فهذا عملنا نحن وليس للفنان شأن في ذلك ، فهو لا يعلم ولا يعظ ولا يبشر ! وإذا تعلمنا منه ووعظنا بآرائه وبتئثرنا بها فلنتبعه في ذلك علينا ، وليست تبعته ، فهو قد وصف لنا رؤياه وأحلامه واوهامه وعواطفه وأحاسيسه فلنسمها ما نشاء ، فان هذا لا يعني الفنان . أما الفنان الذي يحاول في فنه أن يبشر مذهب أو يدعو إلى فكرة فإنه يسمي داعية أو مصلحا أو ما شئت من الأسماء ، ولكنه لا يسمى فنانا بالمعنى الأصيل للكلمة .

ومن الأسباب التي جعلت أفلاطون يحمل على الشعراء والفنانين أن أهل عصره أصروا على أن ينظموا الشعراء في سلك المعلمين والهداة ، فلما حاول أفلاطون أن يزنهم من هذه الناحية لم ترجح بهم كفة الميزان ووجد نفسه مضطرا إلى طردهم من جمهوريته ، وقد كان تفكير أفلاطون متجها إلي إجاد العقل عن عالم الحس لينصرف إلي عالم الحقيقية ، والفنان يصل إلى عالم الحقيقة عن طريق عالم الحس ، فطريقته تخالف صميم مذهب أفلاطون الفكرى ، ولاغرابة إذا في أن يناصب أفلاطون الفنون المداه ، وقد لمح أفلاطون أن الفنان يحاول تصوير الحقيقة أو ما يسميه أفلاطون المظهر ، أي أنه يحاول تصوير الحياة وهو يعمل على أن يسرنا هذا التصوير ويمتعنا ، وهذا هو مصدر خطر الفن عند أفلاطون ، وقد لحظ أفلاطون أن التصوير لا يستطيع أن يحاكي الأصل كل المحاكاة ، ولكنه لم يفكر في النواحي التي قد ترجح فيها الصورة الأصل الذي حاولت محاكاته ومهما يكن من الأمر فإن قد أدرك الصلة بين الفنون المختلفة ، فالشاعر الذي يفرض الشعر يقوم بمحاولة كمحاولة قصور الذي يعمل على رسم الصورة ، وكلاهما عنده يحاكي الصورة ولا ينقل عن الأصل ، وكلاهما يحاول أن يمنع ويسر ويثير العواطف ويحرك الأهواء ، وقد صرفته مشكلات السياسية والأخلاق عن تسليط أشعة فكره القوي علي مشكلات الفن والأدب .

اشترك في نشرتنا البريدية