الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 125الرجوع إلى "الثقافة"

الأبحاث العلمية، فى المحيط الهندى والبحر الأحمر

Share

المحيط الهندى ، البحر الأحمر ، مباحث جون مرى ! تلك أسماء ترددت منذ سبع سنين فى صحفنا المصرية ؛ وكثر تردادها حينئذ فى الأوساط العلمية ، ولهذه الأسماء قصة ولها تاريخ .

أما قصتها فتبدأ فى القرن الماضى فى عام ١٨٧٢ ، حين أقلت " المتحدية " إحدى سفن البحرية البريطانية ، حاملة على ظهرها أول بعثة علمية لدراسة البحار . وكان بين أعضائها شاب يدعى جون مرى ، مهمته دراسة الرواسب التى كانت تجمعها البعثة من قيعان البحار ، وظلت هذه الفتنة غراما مقيما فى نفسه ، حتى عادت " المتحدية " فى عام ١٨٧٦ إلى الجزائر البريطانية من رحلتها الطويلة .

وفى مدينة ادنبرة من أهمال اسكوتلندة عكف جون مرى على دراسة الرواسب البحرية وفحصها وتحليلها ، وذاع عنه ذلك ، وعرفه رجال البحرية البريطانية ؛ فكانوا يرسلون إليه عينات من قاع البحر كلما حصلوا عليها ، وعينات من تربة الجزائر التى يقفون عليها .

ومن العينات التى وصلت جون مرى عينة استحضرها أحد الربابنة من جزيرة نائية فى شرق المحيط الهندى تعرف بجزيرة الكريستماس ، وبفحص هذه العينة وتحليلها وجد جون مرى انها محتوى على نحو ثمانين فى  المائة من فوسفات الكالسيوم ، فأدرك بفكره الناهز أهمية هذه الرواسب فى صناعة السماد ، ثم أسرع فاتصل بالحكومة البريطانية ملحا عليها فى ضم جزيرة الكريستماس إلى المتلكات البريطانية ، فتم ذلك فى عام ١٨٨٩ .

أوفد جون مرى عقب ذلك نفرا من العلماء الشبان لدراسة هذه الجزيرة ، والوقوف على مدى غناها بتلك

الرواسب ؛ وفى ضوء تقارير هؤلاء العلماء أسس جون مرى شركة لاستخراج الفوسفات واستغلالها من جزيرة الكريستماس . ومن هذا المصدر تجمعت لدى السير جون مرى ثروة طائلة أنفق منها بسخاء أثناء حياته على البحوث العلمية فى البحار ، وأوصى قبل مماته فى عام ١٩١٤ بانفاق ربع جزء منها على تلك البحوث .

وفى عام ١٩٣٢ رأى ورثة السير جون مرى أن الوقت قد حان لتنفيذ وصيته ، وأن مقدار ما تجمد من المال يسمح بتجهيز بعثة علمية لدراسة البحار ؛ وتنفيذا لهذا الغرض تألفت لجنة من كبار العلماء البريطانيين ، ومن رجالات البحرية البريطانية ، استقر رأيها على إرسال بعثة علمية لدراسة المحيط الهندى ؛ و المحيط الهندى من البحار التى تخلت " المتحدية " عن دراستها فى القرن الماضى ، وكان المفهوم حينئذ أن حكومة الهند ستقوم بداسته ، ولأمر ما لم تف حكومة الهند بعهدها .

بدأت اللجنة بعد ذلك فى البحث عن سفينة ملائمة لنقل بعثة جون مرى إلى المحيط الهندى ، وبينما هى جادة فى بحثها نمى إلى علمها أن سفينة الأبحاث المصرية " مباحث " خير سفينة تفى بضالتها ؛ فسمت لدى الحكومة المصرية كى تعيرها السفينة " مباحث "  تسعة أشهر ؛ وصادف سعيها نجاحا وقبولا من حكومتنا التى أعارت السفينة بشروط عديدة ، لكن اللجنة تمسكت من جانبها - حرصا على ازدهار بالعالم والمعرفة - برغبتها فى أن تتعهد الحكومة المصرية بدراسة البحر الأحمر - بعد عودة السفينة " مباحث "  - دراسة مماثلة لدراسة المحيط الهندى ، حتى تدعم كل دراسة الأخرى .

هذه هى القصة التى ترددت بسببها تلك الأسماء فى صحفنا المصرية منذ سبع سنين .

وأما تاريخها فيبدأ فى يوم ٣ سيبتمبر من عام ١٩٣٣ ، حين أقلعت السفينة " مباحث " من ميناء الإسكندرية ماخرة عباب البحر فى طريقها إلى المحيط الهندى ، وعلى ظهرها بعثة جون مرى تضم خمسة من العلماء البريطانيين ، واثنين من العلماء المصريين ! وتضمن البرنامج الموضوع لبعثة جون مرى القيام بالدراسات الآتية :

أولا : دراسة طبوغرافيا قاع المحيط . والغرض من هذه الدراسة الوقوف على الشكل العام لقاع المحيط ، وما به من مرتفعات ومنخفضات ؛ واعتمدت البعثة فى هذه الدراسة على جهاز سير الأعماق الذى يرسل فى البحر صوتا ضخما ، حتى إذا صادف القاع فارتد صداه أدركه الجهاز ، وبتسجيل المحطة الزمنية التى تمضى بين إرسال الصوت وعودة الصدى مع اعتبار سرعة الصوت فى ماء البحر ، كان يسجل الجهاز أعماق المحيط وأقصاره .

ثم دراسة رواسب القاع : والغرض من هذه الدراسة الوقوف على طبيعة قاع المحيط ، وأصل رواسبه ، وكيفية توزيعها ، بفحصها وتحليلها ؛ واعتمدت البعثة فى جمع

عينات القاع على كباشات مختلفة الأشكال والأحجام ، وعلى أنابيب معدنية متفاوتة فى الأطوال والأقطار ، كانت تقذف فارغة فى اليم أميالا ، ثم تخرجها الآلات الروافع ملأى برواسب القاع .

ثم دراسة الأحياء البحرية : والغرض من هذه الدراسة التعرف على أنواع الحيوان والنبات التى تعيش فى المحيط ؛ واستخدمت البعثة فى جمع تلك الأحياء من قاع البحر ، ومن سطحه ، ومما بينهما ، شباكا متعددة الأشكال ، متفاوتة العيون .

ثم دراسة خواص ماء المحيط : والغرض من هذه الدراسة فهم البيئة الأوقيانوسية ؛ وقد تناولت قياس درجة حرارة الماء عند الأعماق المختلفة ، ومعرفة مدى اختراق ضوء الشمس ماء البحر ، وجمع عينات من ماء البحر من أعماق عديدة ، ثم تحليل هذه العينات تحليلا كيميائيا ؛ واستخدمت البعثة في هذه الدراسة ترمومترات ترصد درجة حرارة الماء إلى جزء من مائة ، وقنينات معدنية تجمع ماء البحر من كل عمق قريب أو بعيد ، واتبعت فى تحليلاتها أحدث الطرق وأوثقها .

ثم دراسة التيارات البحرية : والغرض من هذه الدراسة فهم حركة الماء فى البحر بتعرف التيارات البحرية : اتجاهها وسرعتها ، مصدرها ونوعها ، أهى وليدة الريح ، ام هى ترجمان لحركة البحر حين يمد ويجزر ، أم هى نتيجة لاختلاف فى توزيع الثقل النوعى للماء من مكان إلى مكان .

وأخيرا دراسة الأحوال الجوية فى المحيط : والغرض من هذه الدراسة معرفة التأثير المتبادل بين الهواء والبحر ! وقد تناولت قياس درجة حرارة سطح المحيط ، ودرجة حرارة الهواء الملامس له ، وتقدير درجة رطوبة الهواء ، وقياس الضغط الجوى ، وتبيين قوة الريح وتجاهها .

وكانت البعثة تقوم بهذه الأرصاد كل أربع ساعات ليلا ونهارا طوال تسعة أشهر كاملة . هذا هو البرنامج الذى أنيط تنفيذه ببعثة جون مرى ،

وهو بيان للمهمة الخطيرة التى القاها القدر على السفينة المصرية " مباحث " فى عام ١٩٣٣ .

وفى سبيل أداء هذه المهمة قامت " مباحث "  بعشر سفرات بين ربوع المحيط الهندى ، استغرقت كل سفرة منا حوالي عشرين يوما ؛ وفى هذه السفرات زارت " مباحث " بلاد العرب والصومال ، وجزر خوريا موريا ، وعمان وحضرموت ، والسند والهند ، وشرق إفريقية وزنجبار ؛ وسيتل وسيلان ؛ ثم انطلقت كالسهم بين جزر المالديف ، متخذة سبيلها فى البحر عجبا ، حتى وصلت إلى ميناء الإسكندرية فى آخر مايو من عام ١٩٣٤ مخضوبة الحواجب ، متوجة المفارق ، يرفف عليها العلم المصرى مختالا فخورا بالضباط والبحارة المصريين الذين رفعوا اسم " مباحث " إلى ذروة العلم والتاريخ .

وفى سبيل ذلك المجد سارت مباحث ، اثنين وعشرين ألف ميل ، تستغوى البحر فيصرح لها بمكنونه ، وتستشف حجبه ، فيظهرها على ما أودع الله في طياته من عناصر وحركة وحيوان ونبات شتى . ولقد كشفت " مباحث " فيما كشفت عن سلسلة جبلية هائلة مغمورة تحت الماء تقسم المحيط الهندى إلى حوضين عظيمين ، وعن عشر سلاسل جبلية مفرقة فى خليج عدن . وعن سلسلة جبال مغمورة بين شاطئ

السند وشاطئ همان ، كما كشفت عن هضبة مغرقة مترامية الأطراف بالقرب من جزر المالديف ، أطلقت البعثة عليها اسم " هضبة الملك فؤاد " اعترافا بفضل المغفور له جلالة الملك فؤاد الأول على البحث العلمى فى البحار .

ولقد قرعت هذه الاكتشافات أسماع العالم ، وسيكون لها أثر كبير فى تفهمنا التغيرات التى طرأت على الأرض ، حين أوحى الله فيها الأمر فانماهت ، وبسطها مهادا وبحارا ، وأرسى عليها الجبال وجعلها أوتادا .

واستطاعت البعثة أن تحصل على مجموعة غنية من أحياء المحيط الهندى ، تشمل اسما كا نادرة . وانوعا من الحيوان والنبات لا عهد للعلم بها ، واشترك فى دراسة هذه المجموعة ثلاثون عالما من مختلف الأجناس ، لا يزالون يصدرون مجلدا تلو مجلد فى وصف هذه الكائنات .

ومن المناطق العجيبة التى كشف " مباحث " عنها عند مدخل خليج عمان صحراء بحرية ممتدة لا تدب فيها حياة ، ولا ينبض بها قلب ! واستطاعت البعثة بعد بحث متواصل ، ومجهود دائب ، اقتفاء ذلك الجدب إلى انبعاث غاز كبريتيد الايدروجين ، ذلك الغاز السام ، من قاع المناطق المجاورة ؛ أما أصل هذا الغاز فلا يزال سرا من الأسرار . ولقد دلت نتائج المشاهدة والتحليل الكيميائى على أن الماء فى المحيط الهندى يتكون من أربع طبقات يجرى

بعضها فوق بعض ، وتختلف كل طبقة عن الأخرى فى خواصها الطبيعية والكيميائية ، فى سرعتها واتجاهها ، وفى أصلها وتاريخها . وفى بوغاز باب المندب - حيث يسترسل البحر الأحمر إلى خليج عدن - حققت البعثة وجود حاجز جبلى مغمور من البحرين ، ترتفع أكمته إلى نحو ثمانين مترا تحت سطح البحر ، كما وجدت الماء فى البحر الأحمر يختلف فى خواصه عن الماء فى خليج عدن اختلافا واضحا ، لا يلتبس معه احدهما بالآخر ، يلتقيان ولا يبغيان كانهما المقصودان فى قوله تعالى : " مرح البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " .

وفى اليوم الثامن عشر من ديسمبر عام ١٩٣٤ عاود " مباحث " الحنين إلى الكشف والاستقصاء ، فأقلعت مرة أخرى من ميناء الإسكندرية . وعلى ظهرها أول بعثة مصرية علمية شهدها التاريخ ، أوفدتها الحكومة المصرية لدراسة البحر الأحمر ! فقضت فيه شهرين ، مخرت فيهما عباب خليجى السويس والعقبة ، والجزء الشمالى من البحر الأحمر . وأتمت خلالهما أربع سفرات استغرقت كل منها نحو عشرة أيام . و كانت البرنامج الموضوع للبعثة المصرية مماثلا لبرنامح بعثة جون مرى .

ولقد اسفرت دراسة طبوغرافيا قاع البحر الأحمر عن عدة نتائج : منها الاستدلال على أعماق مساحات واسعة ثم تسير أغوارها من قبل . مما يساعد السفن على الملاحة فى أمن وسلامة . وفى غرب جزيرة شدوان الواقعة عند مخرج خليج السويس ، اكتشفت البعثة المصرية جبلا مغمورا بلغ ارتفاعه من قاع البحر ثلاثمائة وستين مترا ، وتبعد اكمنه من سطح البحر سبعين مترا . وعلى مقربة من جزيرتى الأخوين اكتشفت البعثة عدة جبال مغمورة يبلغ ارتفاع أعلاها ألفا ومائة متر . وفى الشمال الشرقى من شعب أبى الكيزان حققت البعثة وجود غور عريض سحيق ، يبلغ بعد أعمق بقعة فيه الفين ومائتى متر من سطح البحر . ولقد قضت " مباحث " أربعة أيام بلياليها فى

تعيين حدود هذا الغور ، وتبين الشكل العام لجوانبه . ولما كانت " مباحث " أول سفينة قامت بدراسة هنا الغور ، اطلقت البعثة عليه اسم " غور مباحث " . ولقد اقتنعت البعثة من خبرتها بأن خرائط الأعماق الحالية المناطق التى عملت فيها لا تتوافر فيها الدقة اللازمة التى ثلائم روح العصر .

ودلت دراسة الرواسب التى جمعتها البعثة المصرية على أن عوامل الترسيب ف البحر الأحمر تختلف اختلافا واضحا عنها فى خليج السويس أو فى خليج العقبة . وتبين لنا من تحليل الرواسب الموجودة عند مخرج خليج السويس احتمال وجود علاقة بين كمية المواد العضوية التى تحتوى عليها هذه الرواسب ، وبين وجود آبار البترول فى منطقة الغردقة ؛ وأمكننا أن نستنتج بالقياس أى المناطق الساحلية أكثر احتمالا بأن تكون مصدرا لمنابع البترول فى المستقبل . ولقد دحضت البعثة المصرية الزعم القائل بأن المناطق العميقة فى البحر الأحمر عبارة عن صحراء مقفرة ، إذ أثبتت ان معالجة الحياة بادية قائمة فى تلك البقاع العميقة ، واستخرجت بشبا كها اسماكا وأحياء أخرى كانت تعيش على عمق ألف وألفين من الأمتار .

ولأول مرة في التاريخ أماطت البعثة المصرية اللثام عن الطريقة التى يتبادل بها البحر الاحمر وخليج العقبة الماء من فوق حاجز مغمور بينهما . ولأول مرة فى التاريخ اكتشفت البعثة المصرية زيادة مطردة بازدياد العمق فى درجة حرارة الماء الموجود فى الأعماق الكبيرة بخليج العقبة . ولأول مرة قدرت البعثة المصرية كمية الفوسفات المائية فى مياه البحر الأحمر ، وغيرها من الأملاح الأخرى التى تعتمد عليها بعض الأحياء البحرية اعتمادا مباشرا فى غذائها .

وإلى جانب ذلك وفرت لدينا مشاهدات وافية عن خواص مياه البحر الأحمر وحركة تيارته ، تعتبر ذات فائدة قصوى فى دراسة الصايد البحرية وحفظها وتنميتها ، وفى تذليل سبل الملاحة وتأمينها .

اشترك في نشرتنا البريدية