في الأدب المقارن:
عاطفة الأمومة من أشد العواطف الكمينة في النفس، وهي تتصل بغريزة فطرية اولى تبعث الانسان إلي كثير من اعمال البر. ويذهب علماء النفس المحدثون إلي ان الأمومة غريزة تشيع في كل أنواع الحيوان، وانه لولاها لما اشفقت بصغارها، ولما حاطتها بألوان من الرعاية ، وانت تري ذلك ظاهرا في الطير التى تحنو على أفراخها، وتراه في بعض أنواع الحيوان العليا، ومنها من تحمل صغارها عدة شهور لا تكاد تفارقها حتى تبلغ من العمر حدا يطوع لها ان تستقل بنفسها، فتنقلب وحدها في أنحاء الأرض.
ويذهب بعض علماء الأخلاق إلي ان غريزة الأمومة هي الأصل الخلقي لكل فضيلة، فالأم دائما تحاول أن تبذل رعايتها لأبنائها: الأم هي التي تذود منهم إذا تهددهم السوء، والأم هي التي نجد لهم في طلب القوت وابتناء البيت. والأمومة هي المحور الذي تلتف حوله الميول الخلقية الخارجة عن نفس الانسان. ذلك بأن علم الأخلاق ما يزال يفرق بين الأثرة وبين الإيثار، بين الأنانية وبين الإنسانية، بين حب النفس وبين حب الغير. والخلق الكريم هو السبيل القاصد بين النزعتين، فلا تقوم فضيلة إلا إذا نشأ في نفس الإنسان وازع يوحي إليه بالعمل على إسماد الغير. ويتمثل هذا الإيثار - أو قل هذه الغيرية - في غريزة الأمومة؛ فالأم تعطف على ولدها ولا تسعد إلا بسعادته، ولا تطمئن إلا باطمئنانه، وغريزة الأمومة تستجيب دائما إذا اثارتها عوامل الضعف أو الفقر أو المسكنة، فهي تثار عند
الانسان إذا التقي بإفراد او جماعات يشبع فيهم واحد من تلك العوامل، ولو لم يكن بينهم وبين الإنسان صلة من وشائج الغربي ولا علائق النسب.
والذي قيل عن الأمومة يثبت على الآبوة في كثير من مظاهرها، فان الذكر والانثى قد اشتركا منذ القدم في رعاية الصغار، ولانهم قد تمرسا بأعمال الحماية والعناية والعطف؛ فقد انتقلت عاطفة الأمومة من الأنثي إلي الذكر، ولذلك كانت الأبوة مصدرا من مصادر البر عند الذكر، كما كانت الأمومة عند الآنثي؛ لكن للعلاقة بين الرجل وبين المرأة حديثا طويلا اخر، فان المشاركة في رعاية الولد، والتفاني في تنشئته، والعمل على إسعاده، كل ذلك قد أضفى على الزواج لونا من الوان القداسة؛ وحتي لنا ان نقول إن الأمومة نبع انبثقت منه الأبوة والبنوة والأخوة والتعاطف الجنسي وكل علائق الأسرة التي كانت عند كثير من علماء الاجتماع الخلية الاولى لكل مجتمع إنساني
على أن الأبوة قد أصبحت في تاريخ الانسان أبعد مدى وأعمق اثرا من الأمومة نفسها؛ ذلك بأن الآباء قد استكتروا من السلطان فكان رب الأسرة دائما هو الذي يمثل الحكومة الفطرية الأولى، وكانت المجتمعات تمنو للأب أكثر مما كانت تعنو للأم، وكان رب الأسرة حاكها ومشرعها وقاضيها، فإذا كانت الغريزة الأصيلة في الواقع هي غريزة الأمومة فان عاطفة الأبوة قد انتزعت منها واشتقت من اصلها، فأصبح لها أكبر الوزن في تاريخ المجتمع. لكننا إذا نحن ذكرنا الأبوة وما حاطها به العرف من مظاهر الاحترام والتقديس ، فيجب علينا ان نذكر ان الأمومة فطرة جبل عليها الانسان والحيوان، وأن الأبوة لم ترد على أن كانت عاطفة موروثة تفرعت من هذه الفطرة الأولى .
وليس يعنينا في هذا المقام إلا ان نري بعض آثار الأمومة والأبوة في الآدب؛ فقد كانت علائق الانسان بأبيه وامه وابنائه بعض ما عالجت آداب الأمم في عصورها القديمة والحديثة . ودفع الادباء والشعراء إلى ذلك ما تبينوه من نتائج هذه النزعات الدفاعة ؛ بل لعلنا إذا نحن تعمقنا البحث في الاديان القديمة راينا لهذه العلائق اشد الأثر في تكوين العقائد . ولأن الأدب تعبير عما يندفع في نفس الانسان وتصوير للتجارب التي يتمرس بها ، فقد كان لابد لمثل هذه العواطف القوية ان تبرز فى آيات الادب ، وان تكون لها طابعا خاصا ، وان تؤلف نموذجا ينتقل في المسرحيات من جبل إلي جيل.
إن أجل قصة في الأساطير المصرية الأولى هي قصة اوزيريس وإيزيس. وقد كان اوزيريس إله الخير وكانت إيزيس زوجه البرة الوفية . وكان حوريس ابنهما يمثل الفضيلة عند المصريين القدماء . وقد كان لأوزيريس أخ اسمه ست أو تيفون يمثل الشر في أرذل معانيه ، وكان بين أوزيريس وبين ست كفاح طويل ينتهي بقتل أوزيريس . لكن عاطفة البنوة تجتمع في حوريس لأنه يشن حربا شعواء على قاتل أبيه ، يتفاني فيها جيوش هذا وذاك ، وتنتهي بتقسيم مصر بينهما واحد في الشمال والآخر في الجنوب .
وأنت تري الآبوة ممثلة في القصص القديم الذي سلم لنا من عصور الاغريق والرومان . ففي الاساطير التي تحدرت إلينا أن بريام Priam ملك تروادة قد خاض نيران الأعداء كي يحمل جثة ابنه هكتور . وكذلك فعل إينياس حينما حمل أباء " أنشيزيس " على ظهره من بين نيران تروادة . ففي الالياذة وفي الابنياد صور خلابة لعواطف الأبوة والبنوة ، لكن علائق الأسرة قد تمثلت أكثر
ما تمثلت على المسرح الاغريقى ؛ حتى لقد ذهب أرسطو إلى ان الفاجعة ينبغي أن تتناول الحوادث التي تقع بين الآباء والأمهات والأبناء . ونظرة عجلي إلي مسرحيات سوفوكليز تقنعك بما ذهب إليه ارسطو . وقد اصبحت " اوديب ملكا " و" إلكترا " مثلين لعلائق الأبوة والأمومة والآخوة . وماسي سوفوكليز جميعا تدور حول محبة الابناء والاباء وتدور ، في احيان حول كيد الامهات وقسوة الآباء ، لكن هذا هو الشذوذ الذي من أجله تؤلف الفاجعة(١)
وهذا العنصر الأساسي من عناصر الأدب نراه مرة اخري في الأدب الفارسي . وفي الشاهنامة قصة عن زهراب ورستم ينبغي ان نقف حيالها لندرس الابوة والبنوة في وقت معا وقد كان رستم سيد ابطال الفرس ، وقد تغني اعماله المجيدة مؤلف الشاهنامة الفردوسي ، فهو يقطع في مرة بادية تكاد تكون سعارا من الجحيم ويلقي فيها وحشا ضاريا ما يلبث حتى يرديه . وهو يقتحم في مرة اخرى معقلا من معاقل الشياطين وينتزع قلب اكبرهم من بين جنبيه ليبري به ضريرا .
لكننا نلتقي برستم بعد ذلك وهو في أشد حالات الوجد والحزن . فقد قدر عليه أن يلتقي بابنه في ميدان النزال وقضى عليه ان يطعنه طعنة نجلاء من غير ان يعلم من امره شيئا . ويبتبين آية فعلة قد فعل فيبكى ويهيل علي رأسه التراب ويعفر الرمل وينتزع شعر رأسه ، وما يزال ابنه يطامن من فجيعته حتى يسلم الابن الروح ، ويتفرق الجيشان وأعلام الموت ترفرف فوق رءوس الأجناد . أليس فيما كتبه المصريون القدماء ، وما كتبه الاغريق والرومان والفرس ما يمس الشعور الدفين
عند كل واحد منا ؟ إن القاري لمثل هذه الفواجع ليكاد يبكي . ولكن إن هذا لهو الأدب . لانه ادب مأخوذ من أغوار النفس . ليس كل هذا ادبا ذاتيا ، بل هو موضوعي عام . لكنه على الرغم من ذلك يتصل بمشاعرنا الخاصة ، ويحرك العواطف عندنا ، وهذا أعلي مراتب الأدب .
وفي مآسي شيكسبير ماذا نري ؟ لقد كانت لابد لشكسبير أن يعالج الآبوة في مسرحياته ، لأنه كان متأثرا بمسرحيات الاغريق ، ولانه فوق ذلك لم يترك عاطفة شديدة مثل هذه حتى عالجها . لكننا لا نري إلا آثارا قليلة للأمومة في بعض ما كتب ؛ ولعل ابلغ مثل لقوة الأمومة يطالعنا في رواية كريولانس ؛ فان هذا القائد الروماني كان قد غضب على أهل روما ، فقاد جيشا عرمرما ليدك به المدينة دكا . لكن امه فولمنيا وزوجه وأولاده خرجوا إليه جميعا يستعطفونه ، وما زالت به أمه حتى ثنته عن عزمه ، فارتد عن أسوار المدينة وهو محنق كظيم .
لكن شيكسبير قد عالج الآبوة والبنوة في اثنتين من كبرى مآسيه : أما أولاهما فهي " هاملت " وأما ثانيتهما فهي " الملك لير " . وتختلف علائق البنوة في إحداهما عن الاخري . أما في " هاملت " فان الأمير لا يكاد يفكر إلا في شيء واحد ، هو الانتقام من قاتل ابيه وفي هاملت تري الحنو البنوي يطغي علي كل خالجة من خوالج النفس ، فهي قصة من قصص الأبوة وهي قصة ايضا من قصص الأخذ بالثأر والانتقام البطئ . أما " الملك لير " فهي لفحة من الكفران بالنعمة ونفحة من الحب البنوي في وقت معا . فقد كان للملك لير ثلاث بنات ، خدعه من اثنتين منهن القول المعسول ، فاقتسمتا
ملكة وهو حي . أما ثالثتهن فانها لم تحسن التملق إليه ، فخرجت من بلاده مغضوبا عليها ، ثم انقلبت ابنتاه الأوليان فنبذتاه في العراء وسط عاصفة هوجاء ؛ وسمعت ثالثتهن بذلك فأوت أباها وأقامت على اختيها حربا عوانا ؛ ويتمثل في مثل هذه القصة العقوق البنوي من جانب وحب الآباء من جانب آخر . وتنتهي المأساة بذلك الشعور من البوار الذي يميز خواتم الماسي عند شيكسبير
وكذلك نري أن العلاقة بين الابن والآب كانت دائما تستثير شاعرية الشعراء وخيال الكتاب المسرحيين ، وقد كانت مثل هذه العلاقة موضوعا تناوله الشعر الغنائي ايضا ، لكن هذا حديث يطول . وحسبنا ان نتبين هذه العلاقة في الشعر العربي في مقال آخر (بني سويف)

