أبو تمام والمذنبات
كان الناس في القرون الوسطى يخافون من أكثر الظواهر الطبيعية ولا سيما المذنبات، وكان الملوك والأمراء وذوو النفوذ يأخذون برأي المنجمين قبل الشروع في أي عمل من أعمالهم. ويروى أن المنجمين كانوا حذروا الخليفة المعتصم بالله من فتح عمورية عندما عزم على الاستيلاء عليها، وقالوا له: إنا نجد في الكتب أنها لا تفتح في وقت نضج التين والعنب!
ولكن الخليفة الحازم العاقل لم يسمع لأقوالهم وسار بجيشه وفتح عمورية وكان انتصاره مبيناً. وهنا يأتي دور أبي تمام حبيب بن أوس فيمدح الخليفة المنتصر ويذكر له فتح عمورية في قصيدة خالدة يحمل فيها على المنجمين ويكذبهم في تنبؤاتهم واختلاقاتهم ويقول لهم: إن العلم الحق إنما هو في السيوف وليس في النجوم، وإن أحاديثهم كذب لا أصل لها:
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية، بل أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقة ... ليست بنبع إذا عدت ولا غَرب
ويظهر أن المنجمين كانوا خوفوا الناس عند ظهور المذنب سنة ٨٣٧م - ٢٢٢هـ أي قبل فتح عمورية بسنة واحدة فتراه يقول في ذلك:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وهذا المذنب هو مذنب (هالي) ، وقد قال عنه ابن الأثير: (. . . وفي هذه السنة ظهر عن يسار القبلة كوكب، فبقي يرى نحواً من أربعين ليلة وله شبه الذنب، وكان طويلاً جداً فهال الناس ذلك وعظم عليهم. . .) .
وبينما نرى أبا تمام لا يعبأ بالمذنبات ولا يعتقد بما نسج المنجمون حولها من خرافات وتنبؤات ويضرب بأقوالهم عرض الحائط نجد أن ملك فرنسا لويس الأول ابن شارلمان قد استولى
عليه الخوف من ظهور المذنب الذي ظهر أيام المعتصم، وقلق لذلك أشد القلق، وبلغ به الفزع درجة جعلته يدعو المنجمين ليقولوا شيئاً عن هذا النجم (في رأيه) ولينبئوه عن خبره. فقالوا له إن النجم المشار إليه نذير من الله ينذر باقتراب أيام السوء لكثرة المعاصي التي يقترفها الإنسان. ويقال إن الملك منذ ذلك الحين أصلح حاله ورجع إلى الله فبنى الكنائس وشجع الأديرة. كل ذلك تسكيناً لغضبه تعالى.
وقد ظهر أيضاً مذنب (هالي) سنة ١٤٥٦م ومر على مقربة من الأرض وامتد ذيله كالسيف المسلول، وكان ظهوره بعد فتح القسطنطينية وإيغال السلطان محمد الفاتح في أوربا.
ولقد تشاءم منه أهل أوربا، واتخذوا من ظهوره علامة سماوية على غضب الله تعالى؛ فلقد دخل العثمانيون القسطنطينية، وفر أهلها منها وامتد الفتح العثماني إلى البلاد الأوربية - فنسبوا كل ذلك إلى المذنبات كما نسبوا إليها كل ما يصيبهم من رزايا وفتن وقتل وخسف وغير ذلك.
المذنبات وأقسامها
والآن. نأتي إلى هذه الظواهر التي تظهر في أوقات مختلفة وفترات متباعدة.
في الفضاء أجرام في أفلاك اهليليجية حول الشمس فتقترب منها ثم تبتعد عنها كثيراً، وهذه الأفلاك غير ثابتة بل تتغير من وقت لآخر. وهناك عوامل عديدة تؤثر في سيرها وفي موقعها ولعل جذب السيارات لها من أهم تلك العوامل.
ولهذه الأجرام ذنب طويل هو السبب في تسميتها (بالمذنبات) أو (ذوات الأذناب) يتكون من مادة لطيفة جداً لا تحجب رؤية النجوم الصغيرة التي ورائها (ولا يسري هذا القول على النواة) وهي ألطف من الهواء المحيط بالأرض ألف مرة. وتتألف أجسام المذنبات من رأس ونواة وذنب. فالرأس يختلف بحسب المذنب، فقد يكون صغيراً جداً حتى يرى كالنجم وقد يكون كبيراً جداً حتى يرى كالقمر. أما النواة فلا ترى دائماً في المذنبات ويرجح أنها مؤلفة من أجسام نيزكية صغيرة وقد تكون (كما في بعض المذنبات) لامعة جداً تضاهي لمعان الزهرة. وأما الذنب فهو مادة لطيفة على هيئة مروحة كبيرة تتجه نحو الجهة المقابلة للشمس، ويختلف طوله فقد يملأ الشقة بين الشمس والأرض. ويقول بعض علماء الفلك أن المذنب هو مجموع أجرام نيزكية يحيط
بها ويتخللها جو غازي يجعلها منيرة وظاهرة (للعين) بسبب المجاري الكهربائية.
ويرجح بعض الباحثين أن نواة المذنب تتألف من أجسام نيزكية صغيرة؛ فإذا دنت من الشمس ارتفعت حرارتها كثيراً وخرجت منها غازات تدفعها أشعة الشمس بما فيها من قوة الدفع فتظهر وراء النواة مثل ذنب لها وتكون منيرة بنور الشمس. ويقول آخرون إن أذناب المذنبات تتولد من كهربائية تتكهرب بها دقائق المادة المنتشرة في الفضاء وتظهر كأذناب من نور وراء المذنبات. وهناك رأي ثالث يقول بأن هذه الأذناب ليست إلا ظواهر بصرية أي أن نور الشمس يخترق رأس المذنب ويظهر وراءه كذنب من نور.
ومن الطبيعي أن يكون لهذه المذنبات وزن ولكنه صغير جداً بالنسبة إلى الأرض أو السيارات إذ لا يزيد على جزء من مليون جزء من وزن أحدها.
أشهر المذنبات
تظهر المذنبات في أوقات مختلفة رصد العلماء منها حتى الآن أكثر من خمسمائة كلها تابعة للنظام الشمسي. وقد ظهر مذنب كبير في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد قيل إن طول ذنبه كان كبيراً جداً. وكذلك في سنة ١٣٣٧م ظهر مذنب كبير، ومذنب سنة ١٦٧٩م أفزع العالم وبقى ظاهراً أكثر من خمسة شهور وكان قريباً من الأرض. ويقال إنه في سنة ١٧٧٠م ظهر مذنب شديد اللمعان اقترب من الأرض وكان له ذنب طويل جداً امتد في عرض السماء لمسافة ٣٦٥ مليوناً من الأميال. وظهر في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد مذنب عظيم جداً حسب (هرشل) الفلكي الشهير طول ذنبه فوجده أكثر من (١٠٠) مليون ميل وعرضه أكثر من (١٥) مليوناً من الأميال. وكذلك مذنب (أنكى) من أشهر المذنبات وهو يدور في فلكه كل ثلاث سنوات وثلث سنة. وقيل إنه في سنة ١٨٢٦م كشف ضابط نمسوي مذنباً أطلقوا عليه اسم (مذنب بيلا) وقد فزع منه الناس واهتموا له. ووُجد أنه يدور دورة كل ست سنوات و (٣٨) أسبوعاً وقد ظهر عدة مرات بعد كشفه. وفي سنة ١٦٨٢م شهد (أدموند هالي) ظهور مذنب كبير وقد سماه العلماء (مذنب هالي) نظراً لاعتناء (هالي) بدراسته، وقد استنتج من حساباته أن هذا المذنب يظهر كل ٧٥ سنة وتنبأ بظهوره سنة ١٧٥٧م وقد حدث فعلاً ما تنبأ به. وفي سنة ١٨٥٨م ظهر
مذنب كشفه العالم (دوناتي) الإيطالي ودرس حركاته وطبائعه وكان شديد اللمعان وقد قيس ذيله فوجد أن طوله بلغ (٤٠) مليوناً من الأميال وكان على وشك الاصطدام بالزهرة.
وظهر سنة ١٨٦١م مذنب هائل كشفه (تيوت) في سدني باستراليا وقاس قطر نواته فكان(٤٠٠) ميل وذنبه مستعرض على غير نظام بلغت سرعته (١٠) ملايين من الأميال في اليوم. ويقال إنه في يونيو تلك السنة مرت الأرض في طرف ذنبه وشعر الناس بأشعة فسفورية. وهذا المذنب هو الذي أحدث خوفاً وجزعا في لبنان فكانت العجائز يضر عن إلى الله ويسألنه العفو والمغفرة ويتوسلن إليه أن يرفع عن الناس مقته وغضبه.
الاصطدام بالأرض
قد يقترب مذنب من أحد السيارات وقد ينتج عن هذا انحراف في فلك المذنب. ولكن لحد الآن لم يثبت أي تأثير للمذنبات على السيارات أو على الأرض. ولا عجب في ذلك فكتلة المذنب إذا قورنت بكتلة أي كوكب كانت صغيرة جداً. ولقد سبق ومرت الأرض في ذنب مذنب سنة ١٨١٩م وذنب مذنب سنة ١٨٦١م ولم يقع عليها ما يؤثر على حركتها أو يزعج سكانها حتى إنهم لم يشعروا بهما. فلولا الحسابات الرياضية والفلكية لما عرفنا شيئاً عن مرورهما واصطدامهما بكرتنا. وإذا اتفق واصطدمت الأرض بنواة إحدى المذنبات العظيمة كنواة المذنب الذي ظهر سنة ١٨٥٨م فقد تحترق الأرض من جراء ذلك. ولكن هذا بعيد الوقوع لأسباب ليس هنا محل ذكرها أو شرحها.
واستولى على الناس خوف عظيم في سنة ١٩١٠م عندما اقترب مذنب (هالي) من الأرض وكان من المحتمل جداً أن يصطدم بها وذهب بعض الفلكيين إلى أن هذا الاصطدام قد يكون بلاءً على الأرض ليس من ناحية تأثيره على حركتها بل من الغاز السام (السيانوجين) الموجود بكثرة في المذنبات. ولكنه بحمد الله مرّ المذنب ولم يحدث للأرض ما يفسد هواءها أو يسمم جوها. وثبت من الرصد أن المذنبات التي كشفها الفلكيون ووقفوا على بعض تفصيلات تتعلق بحركتها وأفلاكها وأقسامها - تابعة للنظام الشمسي متحركة من أفلاك حول الشمس. وكذلك وجدوا أن بعضها لا تستطيع التماسك بل تتحطم وتتناثر إلى قطع كبيرة ومن ذلك تتكون طوائف تسير حول الشمس في اتجاه المذنب. (نابلس)

