منذ أسابيع، وأنا أرقب من منظار النقد محاولة جديدة في بناء القصة المصرية القصيرة، وكانت نفسي وأنا أرقب هذه المحاولة، موزعة بين الإعجاب الخالص والإشفاق البالغ. . . أما الإعجاب فمبعثه إنني كنت - منذ أمد بعيد - أتطلع إلى ذلك اليوم الذي أعثر فيه على (الأداء النفسي) وقد غزا ميدان القصة، بعد أن عثرت عليه وقد غزا ميدان الشعر.
وحين عثرت على هذا الأداء - فجأة وعلى غير انتظار - غمرتني هذه النشوة التي تغمر كل صاحب فكرة تمليها وجهة من وجهات النقد، وتحققها دورة من دورات الزمن. . . ومن هنا كان هذا الإعجاب الخالص بتلك المحاولة التي بدأها على صفحات (المصري) منذ أسابيع، ذلك القصاص الشاب زكريا الحجاوي!
وقلت لنفسي بعد أن قرأت له أول قصة: ترى أيكون هذا القصاص قد اهتدى إلى النبع، نبع الأداء النفسي الذي كم تمنيت أن تكون أول ريشة تغمس فيه هي الريشة المصرية؟ وامتزج الإعجاب الخالص فى نفسي بالإشفاق البالغ، خشية أن تكون قصته الأولى رمية أصابت الهدف من غير قصد!. . . ونشر الأستاذ الحجاوي قصته الثانية وإذا أنا أرجع إلى نفسي وأراجع إشفاقي: لقد كان المنهج المرسوم والهدف المقصود واحدا في القصتين، ولم تهتز الريشة في يده. إنها تتجه إلى النبع الذي كنت أتطلع إليه في خط مستقيم لا انحراف فيه! وبقي الإعجاب كما كان وتبخر جزء كبير من الإشفاق. . . وحين دفع القصاص الشاب إلى القراء بقصته الثالثة ومن بعدها الرابعة، أدركت تماما أن هناك محاولة جديدة لخلق قصة جديدة، أو بدء محاولة تخطو إلى غايتها في وعي وثبات وهي مفتوحة العينين!
فقد اهتدى القصاص الشاب إلى النبع، وتلك محاولة من حقه علينا وعلى تاريخ الأدب أن نسجلها له. . . ونحن الذين قد قمنا من جانبنا بتلك المحاولة التي تهدف إلى مذهب جديد في النقد
هو مذهب الأداء النفسي في الشعر، يسعدنا أن نعثر بين الكتاب المصريين على من يبدأ بمثل هذه المحاولة في ميدان آخر هو ميدان القصة القصيرة. ذلك لأننا مطالبون في هذه الفترة
من حياتنا الأدبية بأن يكون لنا كيان فني قائم بنفسه مستقل بطابعه، أعني أنه قد آن لنا أن نتخطى مرحلة المحاكاة الناقلة إلى مرحلة الأصالة الخالقة، أو مرحلة الجلوس حول موائد الغير إلى مرحلة الجلوس حول موائدنا الخاصة!
. . نريد هذه المحاولات (المذهبية) المستقلة وندعو إليها في كل فن من فنون الأدب، فإذا تحقق هذا الحلم الجميل واستجاب له كان كاتب في محيط مواهبه الأصيلة وملكاته الذاتية، أمكننا أن نظفر بذلك (الأدب المصري) الذي تنسب فيه كلمة (المصرية) إلى منهجه الفني المتفرد بطبيعة التفكير وطريقة التعبير، قبل أن تنسب إلى موطنه الذي يضفي عليه ظلال البيئة ويغمره بأضواء المكان!
إننا نبارك هذه المحاولة الجديدة وقد ونلفت إليها الأنظار، وهي المحاولة التي طبقها الأستاذ الحجاوي على قصصه الأربع: (يوم الزفاف (أنا قديس) و(الطريق الخامس) و (الشارع المسدود) . . . وليثق هذا القصاص المصري الشاب أنه لو سار على هذا النهج (المنهج النفسي) الذي اختطه لفنه في بناء القصة القصيرة، ليثق كل الثقة من أننا سوف لا نكتفي بتسجيل محاولته، بل سنعمد إلى وضعها تحت مجهر النقد الذي يكرس وقته وجهده لتحليل كل ظاهرة مذهبية جديدة في حقل الأدب المصري الحديث. . علينا هذا، وعلى الأستاذ الحجاوي أن ينهض بإتمام محاولته!
