كتب الأستاذ سليم الجندي عضو المجمع العلمي العربي (بدمشق) مقالاً رائعاً عن المناهج التي تتبع في دراسة الأدب العربي، تطرق فيه إلى الرد على بعض ما وهم الأستاذ أحمد أمين
في بحثه عن الأدب الجاهلي في كتابه (فجر الإسلام) وقد رأينا أن من الخير لقراء الرسالة أن ننقل إليهم قسما من مقال الأستاذ ليتبادل أدباؤنا الرأي وتظهر الحقيقة. قال الأستاذ الجندي: (وأنت إذا أنعمت النظر وتبينت
أن البلية كل البلية أتت اللغة من الكتاب البحثين، وهؤلاء أتتهم البلية من التهاون في البحث وعدم الاستقراء. مثال ذلك أن صاحب فجر الإسلام قال في الجزء الأول من كتابه ص٥٥: إن ألفاظ اللغة في العصر الجاهلي كانت في منتهى الدقة والسعة إن كان الشيء الذي وضع له اللفظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية. فالإبل خير مأكلهم ومشربهم ومركبهم وعماد حياتهم، ولذلك لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة تتعلق بها إلا وضعوا لها لفظاً أو ألفاظاً
(وإذا انتقلت من الجمل إلى السفينة رأيت اللغة في غاية القصور فهم لم يوفوها حقها كما وفوا الجمل، ولم يحصوا كل أجزائها، ولم يضعوا اسماً لكل نوع من أنواعها. نعم إن هناك ألفاظاً تتعلق بذلك، ولكنها لا تكاد تذكر إذا قيست بالألفاظ الموضوعة للإبل وشؤونها. بل إنك إذا فحصت الألفاظ المستعملة ف السفن ومتعلقاتها وجدت كثيراً منها معرباً غي عربي كالسيابجة واليماسرة. . . وكثير منها لا نشك في أنه وضع بعد العصر الجاهلي) انتهى كلام الأستاذ أحمد أمين
قال الأستاذ الجندي: (وأنت إذا رجعت إلى كتب اللغة تبين لك أن هذا الحكم قائم على استقراء غير تام، وأن العرب في الجاهلية ما غادروا صغيرة ولا كبيرة تتعلق بالسفينة المعروفة في عهدهم إلا وضعوا لها لفظاً أو ألفاظاً غير ما أدخل بعد ذلك ف العصور التالية، وأنهم نعتوها وشبهوا بها
وإذا تذكرنا أن السفينة في ذلك العهد كانت تتألف من أجزاء بسيطة، وليس لها أنواع كثيرة التفاوت في الأشكال والمقادير، ونظرنا ما وضع لها ولأجزائها من أسماء ونعوت، وجدنا أن اللغة ليست في قصور في هذا الأمر.
انظر إلى دقة لوضع في التفريق بين الأنواع والأجزاء عند الجاهليين، فإنهم قسموا ما يركبه الإنسان فوق الماء إلى أنواع. فإن كان من قرب تنفخ ويشد بعضها إلى بعض فتجعل كهيئة سطح فوق الماء سمي طوفاً ورمثاً، وربما كان من خشب أو غيره. وما عدا ذلك فهو سفينة. ويقال للسفن الصغيرة زورق وقارب
وركوة ومعبر. وللكبيرة: فلك وخلية وقرقور وماخرة ومصباب وجارية وجفل وعدولي. وما يتخذ للقتال منها بارجة
ووضعوا لكل جزء اسماً مختصاً به. فالسقائف ألواحها، والدمر خيوط تشد بها الألواح أو المسامير، والطائف ما بين كل خشبتين منها، والشراع رواق السفينة، والصاري خشبية في وسطها يمد عليه الشراع، والقلس حبل الشراع من ليف، والصابورة ما يوضع في بطنها من الثقل، والمعايير خشب فيها يشد بها الهوجل، والمردى خشبة يدفع بها الملاح، والمقذاف خشبة في رأسها لوح عريض تدفع به السفينة، والمرساة حديدة تلقى في الماء، والكفر القير الذي تطلى به
وكذلك اختصوا كل قسم منها باسم: فالمرنحة صدرها، والكوثل مؤخرها، والسكان ذنبها، والجمة الموضع الذي يجتمع فيه الماء الراشح
وجعلوا لكل عامل فيها اسماً خاصاً به: فالملاح سائس السفينة، والداري الملاح الذي يلي الشراع، والردفان ملاحان يكونا في مؤخرها، والربان رئيس الملاحين
وقد وضعوا لكل حالة تعرض لها اسماً يميزها من غيرها، فقالوا مخرت السفينة إذا جرت تشق الماء مع صوت، وسخرت إذا أطاعت وطاب لها الريح، ودسرت الماء بصدرها إذا عاندته، وجمحت إذا تركت قصدها فلم يضبطها الملاحون، وجنحت إذا انتهت إلى ماء قليل فلزقت بالأرض فلم تمض، وماهت إذا دخل فيها الماء، وكبت إذا جنحت إلى الأرض فحول ما فيها إلى أخرى، وقمص البحر بها إذا حركها الموج. . . ولولا أن الإطالة تدعو إلى السأم لأتينا على كثير مما يتعلق بالسفينة. فلا يجوز بعد ذلك أن يقال إن اللغة في غاية القصور، وإنما القصور في البحث والتقري. وإذا كان ما جمع من كلام الجاهلين في الجمل أكثر مما جمع في السفينة فذلك منشؤه أمران: الأول أن صاحب المخصص إنما ذكر فيه ما أحاط به علمه في السفينة، وليس هذا كل ما يتعلق بها. الثاني أن السفينة لا تساوي الجمل في كل شيء فهو أكثر أجزاء وأطواراً وأعرضاً وأمراضاً وأغراضاً. . . والسفينة في ذلك العهد مؤلفة من أجزاء قليلة بسيطة. . الخ. آه)
هذا ما كتبه الأستاذ الجندي. والقارئ يلاحظ معنى أن الأستاذ أصاب الحقيقة، وبدد الوهم الذي وقع فيه الأستاذ أحمد أمين فما قول أولئك الذين يرمون اللغة بالقصور؟

