الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 281الرجوع إلى "الثقافة"

الأدب فى السودان

Share

السودان كغيره من أمم العالم قد اعتورته أحداث متبابنة ، هزت شعور ابنانه فترجموا عنها في صدق وإيمان ، ترجموا عنها في الأمثال وفي الشعر والنثر ، وترجموا عنها في الفن البدائي الظاهر . وهم اصحاب ماض له صروفه وعوامله التي خلفت ذلك التراث ، وامدت ذلك التعبير بكثير من التجارب فاستفاد منها جهد الاستطاعة

وصلة السودان بمصر قديمة مغرقة في القدم ، بل عرفت هذه الصلة منذ أن حفر النيل مجراه الحالي . والذي يلاحظه الباحثون أن الفراعنة قد اهتموا به إلى حد كبير ، إذ أن " امنحتب الأول " قد عين ابنه حاكما على السودان ؛ وكانت سياسة رمسيس الثاني هي مسالمة السودانيين والاهتمام باستخراج الذهب . أما عن الصلة الروحية فقد كان

السودانيون يدينون بالدين المصري القديم ، ويتكلمون اللغة المصرية .

تحدثنا هيرودوت قائلا : إن دارا  فرض على بلاد النوبة جزية تدفع له ذهبا وعاجا وعيدانا ، ومن هنا يظهر لنا أن العلاقة بين مصر والسودان قد امتدت إلي زمن البطالسة ، ولم تقتصر على العهد الفرعوني وحده ، حتى ان بطليموس الثاني لم يأل جهدا في ذلك فازدادت التجارة في وقته ازديادا عظيما .

أما عن انتقال الحياة العربية إلي ربوع السودان ، فذلك ما تحدثنا عنه دائرة المعارف البريطانية إذ تقول : " إن الغزو العربي لشمال إفريقيا في القرن السابع ، والذي جعل من مصر بلادا إسلامية ، لم يكن له التأثير عينه في بلاد النوبة ؛ ولكن عرب بني أمية قد استطاعوا - تحت ضغط العباسيين في القرن الثامن العبور إلي بلاد النوبة عن طريق البحر

الاحمر ، وهيأوا لانفسهم موطنا قريبا من سنار التي تقع على النيل الأزرق " .

هذه لحظة عابرة عن تطور الحياة في السودان ، وهي من غير شك ذات أثر ملموس ، لان الماضي يعمل في توجيه الأفراد والجماعات نحو غاياتهم المتباينة . . وكان من جراء هذا أن يكون التعليم دينيا إلى حد كبير ، وأن يوجد علماء محترمون مطلعون على طائفة من كتب الفقه والحديث واللغة ، يتجهون بحياة البلاد وتفكيرها وجهات تخضع لهم وحدهم . ولكن محمد على حينما فتح السودان بدأ بإنشاء المعسكرات ، وأنشأ مدرسة ابتدائية بالخرطوم كانت تحت اشراف رفاعة بك الطهطاوي ، ومن هنا ابتدأ السودان يعرف شيئا عن الحضارة الأوربية ويتذوق آثارها الرائعة ، ولكن بدرجة أقل مما كان جاريا في أرض الكنانة . .

انجهت الحياة الأدبية في السودان اتجاها عربيا في أسلوبها وموضوعاتها وتفكيرها ، وذلك لأن طبعة البداوة التى تحدرت من دماء النازحين إلينا ما فتئت توجه الشعور في طريقة الاداء ، فعالج الشعراء موضوعات الحماسة والفخر والإباء والحب والرثاء ، وافتتحوا قصائدهم بالغزل والاعتداد بالنفس ، بل لم يسلم من هذه النزعة حتى أولئك الذين عرفوا العلوم العقلية وأخذوا منها بحظ وافر ؛ فها هو الشيخ الحسين الزهراء قد تلقي علوم الفلسفة والطبيعيات وامتاز فيها ، ولكن يبدو لي أنها كانت كامنة فيه بالقوة ، لأنا لا نجد لذلك مسحة في شعره .

أما الشعراء الذين كان لهم أثر قبل عشرين عاما ، فقد كانوا يعالجون موضوعات الحماسة والفخر والإباء ؛ فهذا يقول : إنه لا يرجى له في المحامد بدل ، وغيره يتحدث قائلا : إنه سائر إلى العلا والمكرمات ، وثالث يهتف قائلا : لست أرضي بهوان أبدا ، ورابع يتحدث في صوت مسموع مهيبا بنا :

عز الفتي في طاعة الرحمن

وكذا التقي شرف إلي الإنسان

وهذه الاتجاهات قد يلازمها - من غير شك - تكلف في انتقاء الكلمات وعدم ترك النفس على سجيتها ، ويلازمها أيضا إغراق في المدح ، وتشطير لكثير من القصائد . هذه بدعة تقليدية إن كنا نغفر لأولئك الذين لم يأخذوا من الحضارة بحظ كبير ، ولم تتسع لهم أسباب المعرفة بحال من الأحوال ، إن كنا نغفرها لأولئك فلن نغفرها للأساتذة عبد الله عبد الرحمن ، وعبد الله البنا ، وكردي وغيرهم ؛ ذلك لأن آثار الإنسانية الرفيعة إنما تتطلب منهم التجديد بأوسع معانيه..

إذا كان اساتذتنا هؤلاء ، لم يجددوا رغم الحياة المتجددة التي تحيط بهم ، فإنا نلمح شاعرا فذا عاصرهم في القديم من الزمن ثم ما زال معهم في ركب الحياة ، ولكنه يبذهم بتجديده ، فاسمعه بقول قبل عشرين عاما :

اسكب الراح وناول من طلب

وأدر كأسك فالدنيا طرب

ما علينا أن شربناها وقد

كتب الله علينا ما كتب

ثم اسمعه يقول قبل عامين من قصيدته "نجوى "

املأ القلب غراما وهوى

وهياما واشتياقا وجنون

إنه القلب الذي فيك هوي

وتردي في غيابات الشجون

لم يضق ذرعا ولم يشك الجوي

ماجن يعتقد الحب مجون

كلما أمعنت فيه كلما

سؤته فيك اعتقادا لا يسي

يا خفيف الروح يا حلو اللما

فنيت نفسي ولما أيأس

ذلكم هو الأستاذ صالح عبد القادر ، الست ترى معي الآن أن صالحا قد استطاع ان يساير ركب الحياة الإنسانية ، لأن نفسه لم تعرف اليأس ، ذلك لأن الفناء

في سبيل العلم والأدب هو خلود أبدي من غير شك .

في السودان كما في مصر كثير من أولئك الذين يؤمنون بأن العربية الفصحى يجب أن يكون لها المقام الأسمى في التعبير ؛ والمعركة بينها وبين العامية لا تزال اثارها بادية للعيان ، وإن ظهرت هذه في مصر في القرن الماضي عند كل من رفاعة وعثمان جلال ، وانجهت الآن اتجاها خاصا في التأليف ، فإن أثرها في السودان إنما يتجلى في التمثيل والأمثال . ولكن الصحافة اليومية ستكون ذات أثر بعيد في تبسيط اللغة ، وجعل الجيل الجديد في السودان يدمن القراءة إلي حد كبير . وللاستاذ البناء قصيدة طويلة يتحدث فيها عن مجد اللغة العربية ، ويذكر ايام عبد الحميد ، وجرير ، وبني حمدان ، والرصافة ، ثم ابن هانئ ، ومما جاء فيها :

أم اللغات رعاك الله يانعة

في مصر دائبة بالعلم سقياك

سقا الحيا نفرا في مصر قد وهبوا

لك الحياة وحياهم محياك

وباكر المزن قبر اليازجي ومن

بالشام نضر بالسقيا محياك

فالشام مصر ومصر الشام إنهما

على محارية الأيام خدراك

أما النثر فقد كان - في بادئ الأمر - مكاتبات تتصل بالرسائل ، وقد حدث ذلك بين المهدي وغوردون ، وتجلى هذا واضحا في الرسائل التي وجهها المهدى إلي رؤساء القبائل ليستجيبوا له ، وينضموا إليه ؛ وهذه يظهر فيها الاقتباس من القرآن الكريم . وظلت الحياة تسير سيرها إلى ان عرفت الأداب الأجنبية عن طريق الترجمة ، واخذ الشباب يتجه صوب مصر ، ويقرأ صحافتها في كثير من الرغبة ، ويتتبع مناحي نشاطها الجمة . وعرف الشباب ايضا شعراء الطليعة في العالم العربي ، فقرأوا لجبران ونعيمة والريحاني، وأعجبوا بالزهاوي إلي حد

بعيد ، كان من جراء هذا كله أن شارك الجيل الجديد في التراث العربي ، فكتبوا في أوضاع مختلفة ، منها القصة والمقالة ، والبحث ، والمسرحية ، وعكفوا على أدب التراجم يستخلصون منه العظات التي توجه الإنسانية ، وتحرص عليها حرصا شديدا . .

ليس للاتجاهات الفلسفية العميقة أثر يذكر في توجيه الأدب السودانى ، وإن كان الشباب قد عني بالنقد إلى حد كبير ، ولكن صلة الأدب وفهمه على ضوء التفكير المحض ، والجهود التى يبذلها في هذا السبيل الاستاذان الفاضلان العقاد وأحمد أمين ، تلاقي ترحيبا جما في اوساط الشباب؛ واتجاهات الأستاذ عبد الرحمن بدوي تجد إعجابا خالصا وتحمسا لها منقطع النظير . إن صلة الفلسفة بالأدب إنما هي صلة العقل بالعاطفة ، وهي ضرورية للتزاوج بين شقي الحياة الإنسانية العاملة .

وخير من يمثل هذا هو شاعر الشباب السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير ، ولكن المنية اوقفته عن المضي في هذا السبيل .

هناك أفراد نزحوا إلي مصر لطلب العلم ، ثم استهوتهم الحياة العملية ليصلوا منها إلى أبعد حد مستطاع ، وهم يشاركون الآن في الأدب المصري المعاصر ، ومن هؤلاء أستاذنا توفيق أحمد البكري الذي يعرفه قراء الثقافة ، ويعجب به أساطين الأدب ، فاستمع إليه يوجه الحديث لأبناء الشرق :

إن الذي ملأ الكهوف مخاوفا

جعل الشباب فتوة ويقينا

لا يرهبون الدهر في أحداثه

أو يعرفون تشككا وظنونا

لو يطلبون النجم في عليائه

دانى وأصبح باليدين رهينا

وأخيرا نقول إن الذهنية السودانية قد تأثرت في إنتاجها بكثير من العوامل ، منها الينبوع العربي الفياض ، ومنها الإسلامي الذي درس القرآن والحديث والسيرة

والفقه ؛ ومنها الثقافة المصرية وما تذيعه من نقد وفلسفة وادب واجتماع وترجمة ، ويتصل بهذه إعجاب بجهود الأساطين في الأدب والفن والعلم ، وسير على خطي المتوثبين من عباقرة الشباب ومفكريهم ؛ ثم أخيرا معرفة الثقافة الإنجليزية وانتشارها بين ربوع السودان ، وتلقي كثير من الشبان دراساتهم الجامعية في مصر وإنجلترا وبيروت .

أما الذي يرجوه شباب السودان ، فهو أن يكون لهم أدب قوي رائع ، وأن تنصرف الجهود لدراسة الحياة العالمية من ناحيتها الإنسانية العامة ، وأن يفهم هذا الأدب على ضوء الدراسات العلمية المنظمة ، وأن تفسر أصوله ونصوصه على ضوء علوم النفس والأخلاق والجمال ، وأن يصبح ذا أثر ظاهر بين آداب الأمم الشرقية .

(كلية الآداب)

اشترك في نشرتنا البريدية