الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 590الرجوع إلى "الثقافة"

الأدب والأفكار

Share

العلاقة بين الأدب والمذاهب الفكرية السائدة في أي عصر من العصور علاقة أكيدة لاسبيل إلى إنكارها والمماراة فيها ، وبعض النقاد لا يكتفون بالتحدث عن فلسفة الشاعر أو مجموعة الأفكار البادية في شعره والغالبة عليه ، وإنما يعدون الأدب جميعه ضرباً من ضروب الفلسفة ، أو أنه مجموعة من الأفكار والنظرات والخطرات والمواقف تجاه الحياة والكون ، مفرغة في قوالب جميلة تستهوي العقول وتملأ الأفئدة والقلوب . وانصار الأدب الخالص قد ينفرون من اتسام الأدب بالفلسفة ، ولا تعنيهم اتجاهات الشعراء الفكرية ، ولكن مؤرخي المذاهب الفكرية يعمدون إلى تحليل الآثار الأدبية ليستعينوا بذلك على تعرف الأفكار التى كانت شائعة في العصر الذي يحاولون دراسته والإحاطة بثقافته في مختلف منازعها . وقد أتي على النقاد حين من الدهر أسرفوا أثناءه في ذلك إسرافاً شديداً ، وحملوا الآثار الأدبية أفكاراً فلسفية ربما لم تخطر للشعراء ببال ولم تطف بخواطر الكتاب ، وقد استدعي ذلك ظهور مذهب في النقد ينكر العلاقة بين الأدب والفلسفة ، ومن أقوال أحد

النقاد المتطرفين في ذلك - وهو الناقد جورج بوس - " الأفكار في الشعر في العادة مبتذلة وزائفة ، وأي إنسان تجاوز السادسة عشرة من عمره لا يضيع وقته في قراءة الشعر لمجرد الوقوف على ما تضمنه من أفكار " . وقد نقر هذا الناقد على ان مشتملات بعض الأشعار المشهورة الفكرية ليست من الطرافة والابتداع بالمكانة المأثورة ، ولكن تغني الشاعري بها ألهانا عن تفاهتها ، وسما بها ، وأكسبها روعة وجمالا ، وربما كان أبو تمام يقصد إلى شيء من ذلك حينما قال عن الشعر :

يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة

                     ويقضي بما يقضي به وهو ظالم

والواقع أننا إذا حللنا الأفكار الواردة في بعض أبيات الشعر التى نعجب بها نجد انها أفكار عادية مألوفة ، بل

تكاد تكون من البديهيات التي لا يكاد يجهلها أحد ، انظر مثلا إلى قول المتنبي في باثبته الممتازة التى عزى بها سيف الدولة حينما فقد غلامه التركى " بماك " .

وقد فارق الناس الأحبة قبلنا

              وأعيا دواء الموت كل طبيب

فمن الذي يجهل أن الموت لا وقاء منه ولا دافع له ؟ فنحن البشر لسنا في حاجة إلى المتنبي أو غيره من الحكماء ليعلمنا هذا الدرس الذي استظهرناه من التجارب اليومية والمشاهد المألوفة ، ولسنا في حاجة كذلك إلى أبي العتاهية لتعلم أن :

بين عيني كل حي                 علم الموت يلوح

والكثير من حكم المتنبي وأبي تمام والمعري لا يزيد على كونه من الحقائق الأولية المعروفة المسلم بصحتها ، ولكننا باتنزاعنا هذه الآبيات الحكيمة من مواقعها في القصائد والمقطوعات نسئ إلى وحدتها الفنية ، وبنائها البلاغي ، ونفرض عليها مقياساً قد يغاير طبيعة الفن وتقديره ، وفي اعتقادى أننا إذا نظرنا إلى هذه الآبيات التي تتضمن الحكم والمواعظ والنظرات الأخلاقية وما يسميه النقادة الإنجليزي ماثيو أرنولد " نقداً للحياة " أقول إننا إذا نظرنا إلى هذه الآبيات من حيث هي جزء من الصورة الفنية التى رسمها الشاعر أو صورها الكاتب يتضح لنا سر إعجابنا بها وتقديرنا لها .

ولا نزاع في أن الآثار الأدبية يمكن أن تعد وثيقة يطمأن  إليها في تاريخ الأفكار والمذاهب والنظم الفلسفية ، وذلك لأن تاريخ الأدب يسير في حذاء التاريخ الفكري ويعكس صورته ، وكثيراً ما تتم كلمات الشاعر ومضامين أبياته على المذاهب الفكرية الشائعة في عصره . انظر مثلا إلى قول أبي تمام في الخمر :

جهمية الأوصاف إلا أنهم

                          قد لقبوها جوهر الأشياء

فهو يتضمن اشارة خفية إلى مذهب الجهم بن صفوان زعيم الجهمية في نفي الصفات ، مما يدل على أن المناقشات في أصول هذا المذهب وفروعه كانت ذائعة في عصر ابي تمام . وقول المتنبي :

وكم لظلام الليل عندك من يد

                           تخبر أن المانوية تكذب

يمكن أن نستخلص منه أن المناقشات حول مذهب ما في التنوي القائل إن النور يفعل الخير والظلمة تفعل الشر ، كانت تشغل تفكير الناس في عصر المتنبي وكذلك قوله :

هون على بصر ماشق منظره

                                  فإنما يقظات العين كالحلم

يدل على أن الفكرة الأصلية التي قامت عليها الفلسفة المثالية الألمانية في القرن التاسع عشر كانت تراود الأفكار في عصر أبي الطيب .

ولا نزاع في أن أمثال هذه الإشارات تدل على أن الشاعر قد ألم بهذه المذاهب الفكرية أو أحس على الأقل بوجودها وعلم بفكرتها العامة ، وفضلاً عن ذلك فإن تاريخ النقد الأدبي جزء من تاريخ التفكير الجمالي ، والتفكير الجمالي متصل أشد اتصال بالتفكير الفلسفي ، وأفلاطون وأرسطو من واضعي أسس التفكير الجمالي والنقد الأدبى .

وتاريخ الأدب الإنجليري بوضح إلى حد يعيد اتجاهات التفكير الفلسفي ببلاد الإنجليز ، فالشاعر سبنسر يبدو في شعره أثر الأفلاطونية التى سادت في عصر إحياء العلوم . وقصيدة بوب المشهورة المسماة " مقالة عن الإنسان " ملأى بأصداء التفكير الفلسفي ، والشاعر حري ضمن أشعاره أفكار الفيلسوف لوك ، وكان الشاعر الإنجليزى كواردج فيلسوفاً له قيمته وأره في التفكير الفلسفي ، وقد درس مذهبي كانت وشلنج وأخذ عنهما وتأثر بهما ، وعن طريق كواردج تسربت المثالية الألمانية إلى الشعر الإنجليزي ، وفي شعر وردزورث أثر فلسفة كانت ، وقد تأثر شلى بفلاسفة القرن الثامن عشر الفرنسيين وبتلميذهم جودون ، ثم تأثر بعد ذلك بأفكار سينوزا وبركلي وأفلاطون .

وقد احتدمت في العهد الفكتورى المناقشة بين رجال العلم ورجال الدين ، وقد ظهر أثر هذه المناقشة في شعر

تتيسون وبراونتج ، وفي شعر سوتيرن وتوماس هاردي يبدو أثر التشاؤم في صورة جلية ، وقد نقلت الروائية جورج اليوت بعض آثار فرباخ وكتاب ستراوس عن المسيح إلى اللغة الإنجليزية ، وبرناردشو كان من قراه صامويل بتلر ونيتشه ، وجيمس جويس الروائى كان من دارسي مؤلفات فرويد وبونج وفيكو وبرونو .

وكثيرا ما كتب نقاد الألمان عن علاقة شاعرهم الكبير شار بفلسفة كانت وعلاقة شاعرهم الحكيم جيتي بأفلوطين وسبنوزا وعلاقة كلابست بكانت وعلاقة هبل بفلسفة هجل ، وفي أثناء النهضة الرومانتيكية بوجه خاص تأكدت العلاقة بين الأدب والفلسفة وتأثر الشعراء بالفلاسفة المعاصرين أمثال هجل وشلنج وفخت .

وفي الأدب الروسي وجد النقاد المنزاعون إلى الفكر الفلسفى مجالا واسعاً للدرس والتحليل في مؤلفات دستوفسكى وتولستوي ، وبحوث أمثال مرز كوفسكى وشستوف وبايرديف في هذا السبيل من الفقد الكاشف الممتاز .

وهذا كله حق واضح ليس به خفاء ولكن علينا أن نسأل : هل أجدى على الشعر وأغناه وأبعد آفاقه ورفع من مستواه تسرب الأفكار الفلسفية إليه واتكاء الشعراء على المفكرين والفلاسفة ؟ وهل تقدر قيمة الشعر بمقدار ما فيه من تفكير فلسفى وصحة نظر للحياة ، وعمق معرفة بمشكلاتها وغوامضها ؟ وهل اصالة التفكير الفلسفي وطرافته هي مقياس شاعرية الشاعر ومعيار تفوقه وامتيازه ؟ .

" الواقع أن الأدب ليس لوناً من ألوان المعرفة الفلسفية ، وليس من واجبه أن يقتصر عمله على نقل التصورات الفكرية إلى الأخيلة الشعرية ، وإنما يحاول الشعراء أن يتناولوا بعض المسائل المتصلة بالحياة البشرية ، مثل مشكلة القدر ومشكلة الموت والمشكلة الدينية ، وموقف الإنسان حيال الطبيعة وموقفه من مشكلة الحب ، وبعض هذه المشكلات تدخل في حيز الفلسفة ، وبعضها يتصل بتطور الأحاسيس وأحوال العواطف الإنسانية ، ونظرة الإنسان للطبيعة قد تتأثر بتفكيره الديني والتقاليد الأدبية المتوارثة والاعتبارات الجمالية ، ومن الصعب أن تؤرخ التغيرات الطارئة على العواطف

والأحاسيس لأنها ثابتة متغيرة ، فموقف جيل من الأجيال من الحب قد يختلف بعض الاختلاف عن موقف الجيل الذي يليه ، والدموع الغزار التي كانت تفيض من عيون كتاب القرن الثامن عشر وشعرائه من فرط التأثر إزاء أى حادث مهما هان أمره ، مما يسترعى النظر ويثير شيئا من العجب .

وقد بدا لبعض الفلاسفة الآلمان أن يقسموا مواقف الناس تجاه الحياة إلى ثلاثة مواقف ، وهذه المواقف تشمل الموقف الفكري والموقف العاطفي ، وأشهر محاولة معروفة في هذا السبيل هي محاولة المفكر الألماني دلتاي ، والطرز الثلاثة التي لمحها في تاريخ الفكر هي الطراز الوضعي ويمثله ديموكريناس ولو كريتاس ، وهو يشمل هويز والفلاسفة الأنسيكلويديين الفرنسيين والمادبين المحدثين ، والطراز الذي تغلب عليه المثالية الموضوعية مثل هيراكليتاس وسينوزا وليينئز وشلنج وهجل ، والطراز الذي تغلب عليه المثالية الذاتية مثل أفلاطون وكانت وفخت ، والطراز الأول يفسر الأشياء الروحية تفسيراً مادياً ، والطراز الثاني ينظر إلى الواقع من حيث هو تعبير عن الحقيقة الداخلية والطراز الثالث يري ان العقل مستقل عن الطبيعة ، ويلحق ديلتامي بهذه الطرز الكتاب والشعراء ، فبازاك وسقندال عنده من رجال الطراز الأول ، وجيتي من الطراز الثاني وشار من الطراز الثالث .

وقد حاول بعض الباحثين الألمان تطبيق هذه الطرز الثلاثة على التصوير والموسيقى ؛ فرامبران وروبنز في رأيهم من المثاليين الموضوعيين ، وقبلاسكية وهالز من الواقعين ، وميشيل انجلو من المثالبين الذاتيين ، وكذلك بيتهوفن الموسيقار ، وألحقوا شوبير بالطراز الثاني وبرليوز بالطراز الأول .

وقد اثارت هذه التقسيمات اهتماماً كبيراً في التفكير الألماني ، وطبقت على تاريخ الأدب والفنون ؛ فأدب القرن التاسع عشر في أوربا بوجه عام انتقال من الطراز الثاني الذي كان يمثله جبتي والرومانتيكيون إلى الطراز الثالث الذي يمثله التأثربون والتعبيريون .

ولكن الذي يطيل النظر في هذه التقسيمات يخالجه شئ من الشك في مدى انطباقها على الواقع ، وقد يعحب من قداسة هذا التثليث الذي يحصر الأمزجة والملكات في

حدوده . والطبيعة الإنسانية أكثر تعقيداً وأعظم تنوعاً من أن تحويها أمثال هذه القوالب الدقيقة ؛ وقد أدرك أنصار هذه التقسيمات ذلك ، فحاولوا أن يخففوا من حدتها ووسعوا مداها ، وأدرجوا ضمنها تقسيمات أخرى فرعية تشمل أكبر عدد ممكن من الطبائع والأمزجة ؛ ولعل أوضح عيب لهذه التقسيمات أنها تذعلنا عن الخصائص الفردية للشعراء والكتاب والفنانين ، وتجعلنا نكتفي بإلحاقهم بطراز من الطرز المذكورة ، وننصرف بذلك عن بحث خصائصهم ومزاياهم الذاتية .

والعلاقة بين الفلسفة والأدب في عصر من العصور علاقة خداعة ، وأكثر البراهين على وجودها قد لا تخلو من المبالغة والتهويل ، وهذا الشك لا ينفي أن هناك علاقة لأن المؤثرات التي يستهدف لها الأدب والفلسفة في أي عصر من العصور متشابهة ، ولكن بالرغم من هذه المؤثرات لا يمكن أن تكون العلاقة وثيقة قوية ، وذلك لأن ممارسة الشعر غير ممارسة الفلسفة ، و للأدب تطوره الخاضع لمنطقه الداخلي وطبيعة مشكلاته وللفلسفة كذلك تطورها الداخلى الخاضع لطبيعة مشكلاتها وتوالى هذه المشكلات ؛ وقد يجمع بعض الأفذاذ بين مواهب الشاعر ومواهب الفيلسوف مثل إمبيدوكليز قبل عهد سقراط في بلاد اليونان ، ومثل جوردانوبرونو وجبتي وجورج سانتايانا في العصر الحديث .

وقد نسأل أنفسنا : هل تتوقف أهمية رواية فاوست أو روايات دستوفسكى على ما بها من فلسفة ؟ إن قيمة الأفكار الفلسفية في أمثال هذه الروابات هي أنها زادت الفنان عمقاً وسعةً ، ولكن الأفكار الفلسفية إذا لم يحسن الكاتب أو الشاعر هضمها والانتفاع منها قد تعوق إنتاجه ونفسد عليه عمله . وقد لاحظ النقادة الفيلسوف الإيطالي كروتشه أن بعض أشعار الكوميديا الإلهية ليست سوى أفكار دينية منظومة ، وأن الجزء الثاني من رواية فاوست تطفى عليه الروح الفلسفية ، كما لاحظ غيره من النقاد أن التفكير الفلسفي في روايات دستوفسكي يكاد يذهب بروعتها الفنية .

وتظهر براعة الشاعر أو الكاتب وقدرته على هضم الأفكار الفلسفية في استطاعته إحالة التصورات الفلسفية إلى أخيلة شعرية وصور حية معينة للأشخاص والأفكار .

اشترك في نشرتنا البريدية