الريفيرا» المصرية:
ما زلت أذكر ما كتبه إلى صديق الأستاذ سيد قطب حين كان بأمريكا ، في رسالة خاصة ، إذ قال ما معناه : إن بلادنا أحفل بلاد الدنيا بالخير والقوة والجمال . وكل ما في الأمر أن الطبيعة والإنسان فيها مهملان . وكنت أجادله في رسائلنا الخاصة التي نشرت طرفا منها فى هذا اللباب من ( الرسالة » ، ساخطا على ما أراه في البلاد من قبح واضطراب ، وكان يجيبني بالمشاركة في هذا السخط ، ولكنه بردنى إلى تلك الحقيقة التي زاد إيمانه بها سفره إلى هنالك ..
ذكرت ذلك وأنا على هذا الشاطئ الذي أبدت صلعه بد الله وقصرت بجانبه يد الإنسان هنا شاطئ البحر الأبيض المتوسط يمتد على الساحل المصرى بجوار بلطيم محو ثلاثين كيلو مترا ، حيث بتآخي الرمل والماء ، ويتعاونان على تهيئة مصيف لعله يصلح أن يكون أجمل مصيف في العالم
الرمل منبسط محمد على طول الشاطئ تقف المكتبان على حراسته من بعيد ، ويفد إليه الموج رفيقا فيثب على أديمه الداني يداعبه، كما يدب الكاب الودود على صاحبه يلاعبه ، ويرتد عنه تاركا صفحة بيضاء مسواة كأرضية رخامية أبدعتها يد صناع وكأن البحر يريد أن يعلم الإنسان كيف يجمل هذه البقعة ، ولكن الإنسان يأبى أن يتعلم 1 ·
وكثيرا ما يطيب للبحر هنا أن يغفو ، فتراه كلان مخدرا ، كأنه ( معاول ! ( مما يلقى إليه من ( حشيش » الشام ..1 فأنفاسه خافتة ، وحركته بطيئة وانية ، وصوته ضحكة بجرجر منظمة .. لست أدرى أهى مثل ضحك سائر الحشاشين لا سبب
لها ولا باعث إلا مجرد الرغبة في الضحك .. أم هي ضحكة استهزاء وسخرية من هذا الجندى الواحد الذي تزهم الحكومة أنه يحرس سبعة كيلو مترات على الشاطئ من أن ترسو عنده إحدى سفى التهريب بالليل أو بالنهار 1 واستيقظ البحر مرة عند ما لمح ذلك الجندى إحدى تلك الفن تقترب في الظلام من الشاطئ" ، فأطلق عليها بندقيته المتواضعة ، فأجابته السفينة بمدفع متكبر أرداه . . استيقظ البحر فعلا صوته ، لا أدرى هل زيجر غاضبا من المهاجمين بالسموم والنار ، أو قهقه ساخرا من قلة الحراس وومن الحراسة
وأدع للشعراء مرأى شروق الشمس ومشهد غروبها ، هماهم يصوغون من منظر الغروب قرصا ذهبيا فيودعونه الماء في الغرب ، ثم يرتقبون بزوفه على الماء من الشرق وهو يحمل على السحب بأشعته النافذة حتى يدميها . . فتبدو زرقتها مختلطة بالدم في لون بهيج
أدع ذلك وما إليه لإخواننا الشعراء يهيمون فيه ، لأعرج على هذه الأعشاش القائمة الأهلة برواد البحر ومنتجعى السكون وطلاب الجمام في هذا المكان. وهنا نرى مدى التقصير في حق ذلك الجمال ! بل مدى الغفلة عن الانتفاع بطبيعة ساحلنا الذي يفتح لنا ذراعيه فمرض عنه وتنأى
أول ما يتجشمه القاصد إلى المصيف عناء السفر ووعورة الطريق ، فإن القادم من القاهرة عن طريق المواصلات العامة ، يكاد ينفق يومه كله حتى يبلغ المصيف .. تتحاوره وسائل النقل الحديثة والمتوسطة والقديمة ، فاذا تسامحنا واعتبرنا هذه القطر التي تستعملها السكة الحديدية من الوسائل الحديثة .. فبعدها شي يسمونه ( قطار الدلتا ، وهو يسابق السلحفاة في البطء .. فيسبقها بكثرة المطب ا وهذا من الوسائل المتوسطة لأنه هو الذي قيل فيه عند اختراع القاطرة : إنه يزعج الدجاج فلا يجعلها تبيض !
أما الوسيلة الثالثة فهي الخير .. وما أكثر الخير هنا ! ذلك كله والمسافة كانها لاتزيد على ١٨٠ كيلومتر ، أي أنها أقل مما بين القاهرة والإسكندرية .
ونسمع أن مصلحة السياحة قررت صرف ثلاثة آلاف جنيه
الإصلاح هذا المصيف ، وهي جمجعة لاترى لها طحنا .. وحسبك أن تعلم أن ماء الشرب يجلب إلى المصطافين من آبار بميدة ويباع لهم بثمن يساوى اللترفيه خمسة مليمات ! فهل رأيت مثل ذلك في بلاد للتيل فيها غدوات وروحات ..؟
وقصور الساحل الثانى لهذا البحر في ( الريفييرا ) الفرنسية و ( الريفييرا ) الإيطالية وغيرها - تصور ما يقمر ذلك الساحل من أضواء وأنوار ، ثم انظر إلى « الريفييرا ، المصرية ترها متلفعة برداء من الظلام ذى ثقوب تطل منه المصابيح ذات الشريط نمرة (۱۰) وسيقولون إن المصيف أثير في هذا العام بالكهرباء ، وهى دعوى لا دليل عليها إلا الأسلاك الممتدة التي تنوه بعبء التيار ، فتقطعه ولا توصله ، فلا تفنى من تلك المصابيح شيئا ، وهناك دليل آخر على تلك الدعوى هو مادفعه المصطافون من النقود لقاء عدم الاستهلاك ا
والمرافق الأخرى ليست بأحسن حالا . فرسائل البريد والبرق لاموزع لها ، إنما تبلغ مستقرها عند الشباك حتى يأتي من يسأل عنها ! والخبز أحيانا نتفقده فلا نجده ، وقد أقيم له مخيز لايق عجينه من الرمل .. وهذه آخر مرحلة تطور إليها خلط الرفيف منذ الحرب الماضية !
والعجيب أن يكون مصيف بلطيم على هذه الحال البدائية ، وعمره أربعون سنة .. فقد ظل هذا الزمن لا يلتفت إليه أولو الأمر وفى الوزارات لجان لتحسين المصايف وتشجيع الاصطياف وعندنا سياسة مرسومة للسياحة أهم أغراضها جلب السائحين إلى البلاد لتستفيد منهم استفادة اقتصادية.. وفي رأيي أن الشاطي المصرى ، في مواقفه المختلفة لو وجهت إليه العناية أصبح كعبة القصاد من خارج البلاد ، فضلا من أهلها الذين يرحلون عنها ليبذروا المال ويغدقوه على الأجانب
مقامة الرغيف :
ومن طريف ما وقع هذا ، أن ضاق أحد الزملاء ، وهو الأستاذ عبد الله حبيب و برداءة الخبز. وبجوارنا أستاذ فاضل من بلقاس هو الأستاذ عبد القادر الشايب المدرس الأول للغة العربية بمدرسة بلقاس الثانوية ، وقد رتب أمره - خيرته بالمصيف - على أن
يخبز له في منزله ببلقاس ويرسل الخيز إليه في « مشته » .. فما عرف الأستاذ عبد الله حبيب بهذا حتى تذكر «أبازيد السروجى» فاستدان بطريقته ، وكتب إلى الأستاذ الشايب ما يلى :
كتابي إلى السيد الجليل ، نفر الله عنه ، وأكثر د عيشه » وأدام على الأيام هشه وبشه . أما بعد ، فقد جئت إلى هذا المصيف ، غيرتى منه أمر الرغيف ، فهو تارة كالجندويل ! وتارة كميش بردويل ( اسم بلد ) . الرمل في خلاياه شائم ، وعجينه صائص مائع ، والأمعاء - أجارك الله من هذا وذاك - لا تقوى على هضمه ، والأسنان لا تقدر على قضمه وقد تفضل السيد ببعض ( عيشه » فهرعنا إلى عشه ، وما زلنا به نستجير وهو نعم المجير ، ثم صدنا الحياء عن ورده ، فعدلنا عن قصده . ودانا جيران السوء على عجوز في أقصى المصيف ، قالوا إنها تحسن صنع الرغيف ، فأحضرنا لها الدقيق ، فظهر أنه من السويق ، وخلطته لا بارك الله فيها بالرمل والتراب ، فجاء كميش الغراب ، وقد هافته نقدی ، بعد أن أذهب أنى ، وآذى حى . وأنت أيها السيد من ضيوف إقليمك مسئول ، فلا بد من إرسال شحنة صغيرة ، لتكون تصبيرة ،
ولا بد من أن تدلنا على أمثل طريق، أيها الرفيق ، فإذا لم تدر كنا بالمشورة ، فستوالى طلب التصبيرة ، وأمرك الله من قبل ومن بعد ، وسلام الله عليك ورحمته )
الثقافة المصرية في السودان :
تعمل الآن وزارة المعارف على الإعداد لموسم المحاضرات الثقافية التي يلقيها بعض الأساتذة المصريين في الأندية السودانية وهو موسم جرت الوزارة على تنظيمه منذ سنة ١٩٤٤ ، وقد نشر أن معالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف سيفتتح الموسم القادم بالخرطوم في توفير القادم . ولا شك أن معاليه لو استطاع أن يفرغ من شواغله الكثيرة ويسافر إلى السودان ويفتتح الموسم فعلا ، فإن ذلك يكون ظفرا عظيما لإخواننا في الجنوب ، ويكون منهجه فيها يحاضر به هناك مثالا للأساتذة الذين اعتادت الوزارة أن توفدهم إلى هناك
وهذا الكلام يحتاج إلى شي من البسط
جرت وزارة المعارف على أن تختار أولئك المحاضرين من موظفيها كه تشى التعليم ، وأحيانا تضم إليهم بعض الموظفين في مكتب معالي الوزير ، وهؤلاء لهم خصائص معينة فيما يعدون من محاضرات ، هى خصائص مدرسية مكررة لا ابتكار بها ولا يتميز فيها جهد بارز ، وأذكر أن بعض الصحف السودانية وصفت هذه المحاضرات بأنها معلومات تدرس في المدارس الثانوية وليس في هذا الوصف مجانبة للحقيقة ، فإن المحاضر بن من المدرسين الذين قضوا سنين كثيرة مشغولين بما في مناهج المدارس لا يكادون يخرجون عنه .. وبعضهم من موافى الكتب المدرسية المعروفة في مدارس السودان كما هي معروفة في مصر . ولا شك أن إخواننا السودانيين الذين يقرأون الإنتاج المصرى الحر ، ويطالعون مافيه من روائع ، ثم بمون تلك المحاضرات التقليدية (الرسمية) - معذورون إذا هم صدموا بالفارق بين هذه وتلك، كما أنهم محقون إذا وصفوا الأشياء بصفاتها
وهناك نوع من أوائك المحاضرين ، يحب أن يدل على تجديده ) أو على ( عمقه » أو على ( وطنيته ) فيشوب الموضوعات الثقافية بإشارات سياسية ، تفسد الثقافة ، وتفسد السياسة .. أما إفسادها الثقافة فتأتي من ناحية التكلف الذي يحرف الأمور عن مواضعها والذى يقد كل شي ، وأما الجانب السياسي فنحن لا نجني من هذه الإشارات إلا ما نجنيه في مصر من المهاترات الحزبية ، ويجب أن يعلم هؤلاء الأساتذة أنهم مبعوثون إلى إخواننا الجنوبيين جميما على اختلاف أحزابهم وطوائفهم، وأن مهمتهم الثقافية الخالصة هي التي تخدم الوحدة أما ما يبقونه من الظهور بمظهر البطولة فإن عاد إليهم بشى من الوجاهة ) في نظر المساحيين ، فإنه يجر إلى جانب ذلك كثيرا من الحزازات ويغرس النفور في النفوس
وليت وزارة المعارف تخرج عن تلك ( الرسمية ) المقفرة فتختار بعض الأدباء المعروفين بآثارهم العلمية الناضجة ليشاركوا في موسم المحاضرات المصرية بالسودان فتتيح لأهله أن يروا الوجوه التي يقرؤون لأصحابها ، ويصلوا ما يقرؤون بما يسمعون، ولعل في هؤلاء من يطلع عليهم بما يفتقدونه في أولئك
توصيات اللجنة الثقافية :
تجتمع بالإسكندرية اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية ، وقد بدأت اجتماعاتها يوم ٢٠ أغسطس الماضي ، ولا تزال توالى هذه الاجتماعات حتى كتابة هذا . وقد فرغت من النظر في بعض الموضوعات المعروضة عليها ، فقررت توصياتها فيها
نظرت في موضوع ترجمة الكتب العالمية التي تهم العالم العربي فأوصت الإدارة الثقافية باتباع الوسائل التي تراها كفيلة بعدم تكرار الجهود فى الحكومات العربية وبين المترجمين الأحرار في الترجمة العربية
ونظرت في تشجيع التأليف ، فرأت أن تخصص الجامعة العربية جائزتين لهذا الغرض تمنحان سنويا ، على أن تؤلف لجنة خاصة لوضع شروط هذا المنح ، وقد رؤى أن تخصص الجائزة الأولى لأحسن كتاب عربي على أو أدبى يخدم فكرة تتصل بتحقيق غايات الجامعة العربية وأهدافها العامة ، وأن تخصص الجائزة الثانية التكليف مؤلف عربي أو أكثر وضع كتاب يستكمل وجها من أوجه النقص في مجال التأليف العربي المتصل بدراسة حياة العرب وفكرهم وحضارتهم ، وترى اللجنة أن في حياة العرب وترأنهم القديم ونهضتهم الحديثة كثيرا ما يستحق التسجيل بالوسائل العصرية كالسينما ، ولذلك توصى بأن تمتى الدول العربية بتصوير أفلام تعليمية وتعريفية من حياة كل منها التعريف العرب بعضهم ببعض ، وتعريف العالم الخارجي بالحياة العربية ونهضتها في العهد الحديث
ونظرت اللجنة في موضوع نشر الثقافة بين الكبار ، فسجات بالتقدير ما أصابته تجربة تثقيف البكبار في مصر من نجاح ، وأوست سائر الدول العربية بتعميمها ، على أن تتبع في ذلك المبادى " الآنية :
١ - أن يبدأ تثقيف الكبار بعد المرحلة الإجبارية من التعليم وحيث تنهي فترة التعليم الأساسي
٢ - يعهد إلى المختصين في وضع كتب في الحد الأدنى لما يلزم المواطن العربي الصالح لتعريفه حقوقه وواجباته الأساسية.
ووضع كتب لمعالجة مشاكل الحياة اليومية كالصحة والاجتماع والتدبير المنزلى وبعض الحرف البسيطة للرجال والنساء
3- تعد أشرطة سينمائية للتثقيف والإرشاد 4- إعداد دراسات ثقافية في دورات معينة لخريجي المدارس الثانوية الذين حالت ظروف الحياة دون إكمال تحصيلهم.
