الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 930الرجوع إلى "الرسالة"

الأدب والفن في أسبوع

Share

نحن المساكين من سامعي الاذاعة

كنا نسكن في إحدى ضواحي القاهرة، ونعمنا فيها زمانا  بالهدوء والجمال، ثم أغارت علينا أسراب البعوض فنغصتنا وكدرت  صفونا، وأخرجتنا من ذلك العش الهادئ، كما أخرج الشيطان  أبوينا آدم وحواء من الجنة. . ولجأنا إلى شقة بحي من أحياء  القاهرة الزاخرة العامرة. وتنفسنا الصعداء، إذ صرنا بنجوة من  ذلك الذي كان يلدغ أجسادنا فيعكر دماءنا، ولكن سرعان ما تبين  لنا أن صروف الدهر لا تزال تترصدنا، فلقد أبدلتنا بالبعوض  الإذاعة. . ورأينا برامج الثانية أشد تبريحا من زباني الأول، هذا  ينال من الجسد، وتلك تنكل بالذوق السليم. وقد كنا نحاول  أن نتقي البعوض بغلق النوافذ ورش السوائل المبيدة، ولكن  لا بد لنا من الهواء، فإذا فتحنا له دخل العدو المهاجم معه. ولم  يكن البعوض بمنزلنا فقط حتى نستطيع حصاره فيه وإبادته، وانما  هو يأتينا من كل مكان في الضاحية، فأن قتلنا منه رسلا أقبلت  أرسال. وكذلك صار حالنا مع الإذاعة، نقفل مذياعنا، فتهاجمنا  أصواتها من مذياع الجيران، وبكل شقة مذياع، ولكن هذه  الشقة التي تقع تحتنا يسكنها (فسخاني) الحي، وهو رجل  عريض القدر كبير المقام، لأنه (فسخاني) الحي كله. . ومذياعه  على قدر مقامه وعلو قدره، فلا بد أن يعلو صوته حتى سمع  من لا يحب أن يسمع. . والرجل يحب ألوان الغناء التي لا أسيغها  بل لا أطيقها، وخاصة (التواشيح) التي يتغنى بها (الفقهاء)   في الموالد، التي تنقلها الإذاعة المصرية بعجرها وبجرها، فتصك  الأسماع وتؤذي الأذواق السليمة بما تجلجل أصوات المنشدين وما  تطلقه حناجر المستمعين.

وما زلت أعاني عقابيل (السهرة) الأخيرة التي احتفل فيها  بمولد سيدي مرزوق الأحمدي في مسجده بالجمالية، ولم تفت

الفرصة إذاعتنا الهمامة، فشمرت عن ساعد (الميكرفون)   وراحت تبحث في تلك الأزقة حتى بلغت ضريح (سيدي  مرزوق الأحمدي) ومن الإنصاف أن نسجل لها ذلك الجهد  الكبير الذي كشفت به ذاك الضريح فبزت بهذا الكشف    (كولمبس) وغيره من كبار المستكشفين. . فما كنا نعرف      (سيدي مرزوق الأحمدي) قبل اليوم وما كنا نسمع له ذكرا. . في تلك (السهرة) سمعنا عجبا. . بدأ المذيع نحن الآن  في مسجد سيدي مرزوق الأحمدي - ووصف موقعه بالضبط -  لنذيع عليكم الاحتفال بمولده. . . يالها من همة. . يزيدها شأنا  علو مذياع جارنا (الفسخاني) المفروض علينا سماعه فرضا!  ثم غنى (الفقي) ومعه (تخته) يردد ما ينشده ويحكي عبثه  وتكسره. . وكلما ارتفعت أصوات الاستحسان تمادى في تقطيع  أوصال الكلمات وتشويه نطقها بمختلف الأفانين، كأن يقول: (نابي (نبي)   ألبس الدنيا جمالا) ويمد الرجل نون (نبي)    ما ساعده نفسه وهو طويل. . . وهو يخلط ما ينشد، يأتي ببيت  من منظومة وآخر من أخرى، ثم يسترسل في نثر مسجوع،  ويتضمن كل ذلك معاني سخيفة وخيالا سقيما، ومما علق بالذاكرة

يا أل بيت النبي عبيدكم غلبت ... عليه شقوته والساعة اقتربت

منوا على من به أيدي النوى لعبت

ومنه:

(في يوم موته أهتز العرش طربا، ومال الكرسي عجبا)

ويستمر في كلام غث يتحدث به عما يزعم أنه وقع يوم مولد  النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الكلام أن الحيتان في قمر  البحار. . لست أدري ماذا فعلت!

ويدرك كل ذي ثقافة إسلامية صحيحة ما في ذلك الكلام  كله من انحراف عن جادة الفكر الإسلامي السليم. ولكن الإذاعة  المصرية لا تدرك ذلك، لأنها جاهلة، وجهلها مركب، إذ  تضيف إلى جهلها أن تذيع هذه الحفلات على أنها حفلات دينية وتجترم تشويه الدين بإذاعة هذا السخف باعتباره من  مظاهر الدين!

ذلك قليل من كثير، مما تصيبنا به الإذاعة التي نسمعها على  كره. وهو مثل من المهزلة الإذاعية التي تمثل في هذه  البلاد المسكينة.

اشترك في نشرتنا البريدية