كثير من المؤرخين الذين يكرهون النزعة الفلسفية ويؤثرون ما يسموه السياسية العملية يرون فرضا عليهم أن يثبتوا أن الحاكم الفيلسوف من طراز مرقس أوريليوس لابد أن يكون سيئ الإدارة غير قادر على النهوض بأعباء الملك . وحقيقة أن هناك ما يثبت أن فرط تسامح مرقس أوريليوس قد جنى على سياسته وأساء إليه . ولكن عهده برغم ذلك كان حافلا بالإصلاح والأخذ بأسباب التقدم والنهوض والرقى . ولقد كانت له ثروة ضخمة ولكنها كانت تنفق جميعها في الصالح العام ، وكان يحترم السناتو ويرعي جانبه ، وكان في كل عام يشن حربا خماة الثغور ، على فرط كراهيته للحرب وحبه للسلام ، وقد حارب الكوادى والمركومانى حربا مظفرة لا لين فيها ولا هوادة.
وكان دمقراطي النزعة يمقت الارستقراطية الرومانية القديمة ، ولا يرى قيمة لغير الامتياز الشخصى ، ولم يجد
فى أشراف الرومان من يؤيد أفكاره فى الحكومة الصالحة ، ولذا آثر أن يستعين برجال لم يرشحهم للحكم سوى كفائتهم واستقامة أخلاقهم . وقد أخذت الحكومة الرومانية فى القرن الثانى لأول مرة في التاريخ بتلك النظرية السليمة التي تقول إن الحكومة عليها واجبات أبوية نحو الشعب . وكان أهم ما يشغل بال السياسيين مشكلة تعليم أولاد الفقراء والصعاليك والعبيد . وكان النظام الاقتصادى
السئ لا يجعل علاج هذه المسألة من الشئون الهينة ؛ وقد عالج تراجان هذه المشكلة بوضع مبالغ من المال على الأشياء المرتهنة ، وعهد إلى وكلاء من قبله في جمع ربع تلك الأموال ، فلما جاء مرقس أوريليوس جعل هؤلاء الوكلاء من موظفى الدولة الملحوظين ، وكان يختارهم بعناية بالغة وتدقيق شديد. وناط بجماعة من الفقهاء المتمكنين مهمة تهذيب القوانين القديمة وتنقيحها وتعديلها وإشاعة الروح الإنسانية فيها ، وتلطيف قسوتها وشدتها ، وجعلها ملائمة لحالة قوم متحضرين .
وأخذ الإمبراطور على عاتقه حماية الضعفاء والعاجزين ، ولم يكن لهم قبل ذلك نصير ؟ فأصبح الطفل اليتيم أو المريض يظفر بالعناية ويحظى بالرعاية . وقام الإمبراطور بوضع خطط وأساليب تبث روح الرحمة والعطف والإنسانية فى مختلف أعمال الدولة وإداراتها ومصالحها .
وموجز القول أن هذا الرجل النبيل والحاكم القدير كان لا يري الإنسان العادي آلة من الآلات أو وسيلة من الوسائل ، كما هو شأن بعض أدعياء السياسة وفريق الحكام الغلاظ الأكباد القساة القلوب ، وإنما كان يعتبر الإنسان كائنا أخلاقيا له حقوق كما أن عليه واجبات ,
وقد حاول أن يبطل تلك المظاهر الفظيعة التى كانت تجعل المسارح الرومانية مؤذية للمشاعر السليمة ، ولكنه لم يوفق في ذلك ، فقد كانت هذه المشاهد الكريهة جزءا من حياة الأمة الرومانية ، ولما سلح المصارعين وأرسلهم
إلى الحرب التى قام بها لدفع نظرة القبائل الألمانية كادت تحدث ثورة حاطمة وأخذت الأوشاب والدهماء تقول : " يريد أن يسلبنا نسليتنا ليرغمنا على أن نكون فلاسفة " . واضطر مرقس أوريليوس أن ينزل على حكم الرأي العام ، وقد حاول تلطيف الشر الذى لم يستطع دفعه ، فأمر بوضع فراش تحت الراقصين على الحبل وأن تكون الأسلحة التى تستعمل في المصارعات غير حادة ولا مستوية ، وكان يتحاشى جهده حضور تلك الحفلات .
واتخذ الإمبراطور من أساتذته وزراء وسياسيين ورفع مكانتهم ، وكان لأستاذه جونياس راستيكاس منزلة سامية في نفسه ، على أن هذا العطف الذى أسبغه الإمبراطور الفيلسوف على جماعة المفكرين وبينهم الصالح والطالح كان لابد أن يتمخض من بعض العيوب ، وقد استدعي مرقس أوربليوس الفلاسفة المشهورين من كل ناحية من نواحى الإمبراطورية المترامية الارجاء ، وكان من بين هؤلاء جماعة من الدجالين والمتخلفين العاجزين ، وكان شعرهم الأشعث ولحاهم المرسلة وأظفارهم الطويلة تجعل منهم موضوعا صالحا للفكاهة والتندر ، وكان الإمبراطور يغدق عليهم المال ويظلهم برعايته حتى صار يقال إنهم عبء على الدولة ، واضطر الإمبراطور أن يبرر موقفه ويدافع عن سياسته .
ولم يحاول مرقس أوربليوس إخفاء عيوب أصدقائه ، ولكن حكمته كانت تقيم حدا فاصلا بين النظرية الفلسفية في ذاتها ، وضعف الذين يقولون بها ، وكان يعلم أن الفلاسفة الذين يأخذون أنفسهم بما يقولون للناس قليلو العدد أو أنهم غير موجودين على الإطلاق ، ولكنه كان أرجح عقلا ، وأعمق حكمة ، من أن ينتظر الكمال فى الناس ، وعيوب الفلاسفة لم تبغض إليه الفلسفة .
وكان من الطبيعى " أن يكبر" على ممثلى الروح الرومانية القديمة أن يروا مناصب الدولة الكبيرة نهبا مقسما بين
هؤلاء الناس الذين ليس لهم حسب ولا نسب ، وقد قدموا من الشرق الذي ينظر الرومانيون إلى أهله نظرة تنطوى على الزراية والاحتقار ؛ وهذا هو الموقف الذي شاء سوء الحظ لاسندياس كاسياس أن يقفه من مرقس أوريليوس ، وهو بطل مجاهد وسياسى على جانب من الاستنارة والثقافة ، وكان يعطف على مرقس أوريليوس ، ويضمر له الحب ، ولكنه كان مقتنعا الاقتناع كله بأن فن الحكم يستلزم شيئا آخر غير الموهبة الفلسفية ، ونعت الامبراطور بأنه " امرأة عجوز تتفلسف " وآل به الأمر إلى إعلان الثورة والخروج على الإمبراطور ؛ وكانت التهمة التى قذف بها الإمبراطور هي إسناد مناصب الدولة إلي قوم ليس لهم ضمان من المال أو سابقة من الفضل وبعضهم لم يحصل علما ولم يتلق درسا .
وكان الإمبراطور ينظر إلى أصدقائه الفلاسفة نظرة احترام وتتقدير ، ويعدهم إخوانه في الحكم وسياسة الدولة ، وكان هذا المظهر الغريب ملائما لأخلاق الإمبراطور ومتمشيا مع طبيعة الإمبراطورية ، وتصور الرومان للدولة ، وكان تصورهم لها تصورا عقليا خالصا ، وقد كان القانون هو المعبر عن العقل فمن الطبيعى إذا أن مجىء اليوم الذى تلقى فيه مقاليد الأمور إلى أيدى أصحاب العقول ، وقد كانت الفلسفة حينذاك تقوم مقام الدين ، وكان لها دعاتها
الذين يبشرون بها ويعملون على إذاعتها وتغليمها ، وكان من العادات المتبعة أن يدعو الناس قبل أن يموتوا أحد الحكماء ليهون عليهم احتمال الموت ويشجعهم فى الساعة الأخيرة من حياتهم ، وكان أول واجبات الفيلسوف هو أن ينير بصيرة الناس وأن يسندهم ويأخذ بيدهم ويهديهم سواء السبيل ، وحينما كان يصيبهم حزن شديد كانوا يدعون الفيلسوف ليرفه عنهم ويعزيهم ويواسيهم ، وكان الحكيم هو الصديق الحميم للأمير يستشيره فى دخائله ويفضى إليه بأسراره ويتقبل نصيحته ومشورته .
وقد مهد ذلك لحدوث ما قال عنه رينان " إنه يشبه المعجزة " وهو ما يمكن ان يسعى " بحكم الفلاسفة " ، وهذا الحكم عنى بتوفير أسباب التقدم الاجتماعي والأخلاقى وهذب القوانين وصقل العادات والآداب ، وأقام الدولة على قواعد الحكمة والعقل والبر والصلاح ، ولكن من ناحية أخري اعترى الضعف القوة الحربية وهبط مستوي الأدب ،
فقد كان الفلاسفة قوما غير الأدباء ، وكان الفلاسفة ينظرون فى شىء من التعالى والاشفاق إلى خيلاء الأدباء والكتاب وصلفهم وإسرافهم على أنفسهم وفرط حبهم للشهرة والمديح ، وكان الأدباء فى دورهم يسخرون من أسلوب الفلاسفة الحوشى النافر المتغاظل وتجافيهم عن رقة الآداب وحسن السلوك ولحاهم الغزيرة وملابسهم الخشنة الثقيلة ، وتردد مرقس أوريليوس حينا من الزمن بين الفلاسفة والأدباء ثم قطع الرأي واختار جانب الفلاسفة ، وأمدهم بتأييده ، وناصرهم ما وسعه الجهد ، وأعمل فى سبيل ذلك اللغة اللاتينية ، وآثر اليونانية ، وخصها بعنايته لأنها لغة
الفلسفة ولغة المؤلفين والمفكرين الذين كان يحبهم ويولع بقراءتهم ، وكان لذلك أثره البعيد فى تقهقر الأدب اللاتينى وعودة الأزدهار إلي الفكر اليونانى ، ولم يتقدم الفن كذلك في عهده لأن اتجاه العصر لم يكن يحفل بالجمال والقالب ، وإنما كان فى طليعة ما يشغل الساسة والمفكرين النهوض بالضعفاء وتيسير أسباب الحياة لهم ، وترقيق قلوب الأقوياء ، وكبح شرهم ، وتقليم أظفارهم.
وكانت الفلسفة الشائعة فلسفة أخلاقية خالصة تنقصها الروح العلمية ، ولذا سمت بالقلب ولكنها لم ترتفع بالعقل ؛ فكثرت الخرافات ، وذاع الاعتقاد بالسحر والرؤى والأحلام ، وتفشت الأوهام والخزعبلات ، وتبع ذلك ضروب شتى من الجهالات والحماقات ، وكثر الدجالون والمخرفون وأدعياء السحر والشعوذة ، ولم يقترن التقدم الاجتماعي بالتقدم الفكرى ، ولم يكن للامبراطور الفيلسوف
حيلة في ذلك ، فالعمل الذى كان يستطيع القيام ، قد قام به خير قيام ، وكان الهدف الذى يرمى إليه هو الإصلاح الاجتماعى ، ولكنه كان يستلزم زمنا طويلا وجهدا متواليا
على أن هذا الإمبراطور الفيلسوف الصالح قد وقع في خطأ خطير عرضه للكثير من اللوم ، وذلك الخطأ هو إحجامه من حرمان نجله كومورس من وراثة العرش ، وقد وجه إلى سياسة مرقس أوربليوس الكثير من النقد من جراء ذلك ، وقيل عنه إن حبه لابنه غطى على فكره ، وأضل رأيه ، وجعله لا يبصر مصلحة الدولة والملايين من أفراد الشعب . وقد التمس له ربنان شيئا من العذر ، فكتب في هذا الصدد يقول : " هذه المسألة من الأشياء التى يسهل
أن تراها من بعيد حيث لا تكون العقبات بارزة حاضرة ، ويفكر الإنسان فى الأمر بمعزل عن الحقائق وخارج نطاق الوقائع ، وينسى قبل كل شئ أن الأباطرة الذين ساروا على سنة التبنى منذ عهد ترفا لم يكن لهم أولاد ، وقد كان التبنى مع حرمان الابن أو الحفيد متبعا فى القرن الأول للامبراطورية ، ولكنه لم يسفر عن نتائج محمودة ، وكان مرقس أوريليوس على ما يظهر يفضل الوراثة المباشرة لأنه كان يرى أن ذلك يحول دون المنافسة ، فحالما ود كومودس
فى سنة ١٦١ أظهره لفيالق الجيش بالرغم من أنه كان له ابن آخر ولد معه ، وفي سنة ١٦٦ طلب لوشياس فيراس أن يصبح ابنا مرقس أوريليوس - كومودس وإيناس فيراس - وريثين للعرش ، وكان أساتدة كومودس قد لحظوا فيه الأدلة والعلامات والظواهر التى تنم على الطبيعة الشريرة والخلق الفاسد ، ولكن كيف يصدرون أحكاما سابقة على غلام في الثانية عشرة من عمره ؟ على أن كومودس كان يحاول كبح جماح نفسه ، ولما ظهرت بوادر سوء خلقه فى النهاية واستبان الإمبراطور أن الذى سيخلفه على العرش كان هولة سيسير علي خلاف منهجه ، وينحرف عن الطريق السوى ، خطر له بغير شك خاطر حرمانه من
وراثة العرش ، ولكن ذلك جاء متأخرا ، وفضلا عن ذلك فإن كومودس كان فى السابعة عشرة من عمره ، فمن يستطيع أن يجزم بأن أخلاقه لن تتحسن وتهذب ؟ ولقد استمر هذا الأمل حتى بعد موت مرقس أوريليوس ، وقد أظهر كومودس في بادئ الأمر أنه سيتبع نصائح الرجال الذين اختارهم والده ليكونوا إلى جانبه . هذا هو رأي ربنان فى هذه المسألة ، وهو كل ما يستطاع أن يقال فى الدفاع عن هذا الإمبراطور الفيلسوف الذى شاء سوء الحظ أن يكون نجله وخليفته على نقيضه فى كل شئ . كان الإمبراطور مرقس أوريليوس مثلا أعلى في الحكمة والفضيلة ، وكانت حكمته اكبر من عصره ، ولذا عجز عن
إنقاذ الإمبراطورية ؛ وإذا عبي الطبيب النعاس من علاج المريض فليتقدم إذا الأدعياء والدجالون لمباشرة العلاج ، وإذا أخفقت الحكمة والفلسفة فى إصلاح العالم فليتول ذلك الجهل والحماقة والخفة والنزق . وحيث لم يوفق الفيلسوف القديس والحكيم الصالح مرقس أوريليوس فليحمل عنه العبء نجله كومودس الفاسد الشرير السادى في الغواية المنغمس فى البهيمية . وهكذا شاءت الأيام أن تفنن فى المطابقة فيجىء كومودس شر الناس بعد مرقس أوريليوس خير الناس وأعفهم وأرجحم وزنا وأسماهم حكمة .
