الأنباط قوم من العرب الساميين. ويذهب المؤرخ الشهير فلافيوس يوسيفوس، إلى أن نسبهم يتصل بنبايوت بن إسماعيل، ابن هاجر، (زوج سيدنا إبراهيم) ، ولكنَّ المؤرخ الكبير مومسن يخالف هذا الرأي، فقد ذكر أن الآراميين قد انشئوا قديماً من
رعاياهم مستعمرة في خليج العرب لتربط طرقهم التجارية مع الجنوب. وقد نزح سكان هذه المستعمرة فيما بعد، واستوطنوا بترا الواقعة في شبه جزيرة سينا، بين خليج السويس وأيلة، وأن هؤلاء الأنباط الذين يرجح أنهم أقرب إلى الفرع الآرامي منهم إلى أبناء إسماعيل. ولكن مومسن لا يذكر إلى جانب هذا الزعم، الذي اتفق جمهور المؤرخين على تخطئته، أسباب نزوح هؤلاء القوم، وتاريخ نزوحهم، ولا أشار إلى عدد النازحين منهم، وفي ذلك كله مجالٌ طويل للافتراض والشك. . . على أنه مهما يكن من الغموض والاختلاف في نسب الأنباط إلى نبايوت أو غيره، فان المصادر جميعها متفقة على نسبتهم إلى الفرع السَّامي، بدليل طراز معيشتهم البدوية، وعاداتهم وتقاليدهم العربية، وبدليل أنهم كانوا يتكلمون العربية، ولم يتكلموا الآرامية إلاَّ بعد احتكاكهم
بالرومان. وتدل الآثار والنقوش النبطية الكثيرة التي اكتشفت في مدائن صالح على أن خط هجرتهم إلى بترا كان من الجنوب إلى الشمال، أي أنهم نزحوا من أواسط سهوب البادية واستوطنوا جنوب الأمارة الأردنية الحاضرة، وكانوا حيثما نزلوا يقيمون في مضاربهم المصنوعة من الوبر والشعر؛ دون أن يعمدوا إلى الكهوف، أو إلى إقامة الأبنية الحجرية. وإن في خروجهم من قلب البادية لأكبر دليل على ساميتهم، وعلى نسبتهم، إلى أصل عربي. أماَّ المستر هورسفيلد فيخالف هذا الزعم في مبدإ هجرتهم، ويزعم أنها كانت من الشرق لا من الجنوب كان الأنباط في أول أمرهم يشتغلون بالقرصنة على سواحل البحار وبالسلب والنهب، ولكنهم عندما سكنوا بترا وأجلوا عنها الآدوميين، وجهوا هممهم نحو التجارة، لأنَّ بلادهم كانت معقلاً للقوافل التي كانت تسير بين أواسط آسيا ومصر، ومركزاً لتبادل المتاجر والبضائع التي كانت تمر بها من الجزيرة والهند، وأهمها التمر، والبن والأبسطة، وريش النعام، والعاج والبخور، والتوابل، والبهارات - بالمنسوجات والمصنوعات الخزفية، والحرير، والأدوات التي كانت ترد من سواحل فلسطين الفينيقية، ومن سوريا، ومصر، فاثروا من ذلك ثراء طائلا، واستولوا على جميع الطرق التجارية، واحتكروا النقل عليها بغير منافس مدة طويلة من الزمن، حتى كانت جواسقهم تفهق بالمال، وآبالهم تنوء بالخير والرزق، فتجردوا عن بداوتهم وبدأوا بالتحضر رويداً رويداً فزادت معنوياتهم وقويت شوكتهم وهيبتهم، حتى لقد خطب البابليون ودَّهم وتحالفوا معهم فتخوف منهم الآشوريون وسيروا إليهم ٦٤٦ق. م قلة من جيوشهم فغلبت ملكهم ناطمو، وأخضعوه لسلطتهم حيناً من الزمن. ولما اعتلى أشور بانيبال العرش الأشوري، جرد جيشه ثانية وأعاد الكرة على البابليين، فالتقى بهم في عزاليا (٦٤٠ - ٦٢٨ق. م) وقد انضم إليهم الأنباط، فدارت بين الفريقين رحى الحرب، وكان النصر أخيراً للآشوريين عليهم، وذلك للمرة التاسعة فأسروا امرأة
يوتحا وأخته وأمه، وحملوهن إلى الشام، وقطعوا على الأنباط موارد الماء جميعها، وذلك لانضمامهم إلى أعدائهم البابليين، ولأنهم أجاروا ملكهم (يوتحا) ، ولما اشتد بهؤلاء العطش ولم تغنهم عن المال آبالهم العديد التي نحروها، قبضوا على يوتحا وسلموه إلى أعدائه الآشوريين، فأرسله إلى نينوى وشدوه من فكه إلى أحد أبوابها حيناً من الزمن
وفي عام ٣٣٤ ق. م. اكتسح الاسكندر المقدوني سوريا وفلسطين، وكان الأنباط قد تحصنوا في بلدة غزة، فلما جاءها قاومه النبطيون مقاومة شديدة، ولكنه أخيراً تمكن من فتحها واكتساحها
وفي عام ٣١٢ ق. م. وجه ملك سوريا (أنتفونس) إلى الأنباط جيشاً لجباً مؤلفاً من ستمائة فارس وأربعة آلاف من المشاة وكان على رأسه القائد العظيم أثنيوس. فاخترق عمون ومؤاب بدون مقاومة ثم نزل بترا فجاءة واحتلها بسهولة، ذلك لأن الأنباط كانوا يقاتلون في بعض الجهات الأخرى، ولما عاد جيش النبطيين من جهاده حمل على الجيش اليوناني حملة غماء الجبين، وهزمه هزيمة منكرة، واستأصل شأفته، حتى لم ينج من ذلك الجيش الجرار سوى خمسين فارسا
ثم جهز انتفونس جيشاً آخر مؤلفاً من أربعة آلاف فارس ومثلها من المشاة بقيادة ابنه ديمتريوس، وسيره ليثأر لأبطاله من الأنباط، ولكن النبطيين هجروا المدينة (بترا) بإبلهم وأرزاقهم ولجاوا إلى الصحراء، ولما دخلها ديمتريوس لم يجد فيها سوى العجزة، الذين افتدوا أنفسهم بالمال، ورجع عنهم إلى دمشق
وفي عام ٢٨٦ ق. م. ارتقى عرش مصر بطليموس الثاني فأغار على بلاد الأنباط غير مرة ولم يتمكن من اكتساحها فعمد إلى محاربتهم اقتصادياً، إذ استولى على طريق تجارة الهند، فانحطت معنوياتهم، ونالتهم الأزمة، ثم دخل البطالسة حرباً جديدة ضد السلوقيين في سوريا، فاستغل النبطيون هذه الفرصة إذ استرجعوا مكانتهم الاقتصادية وبسطوا نفوذهم حتى بصرى شمالاً وفلسطين غرباً، وأخيراً عهد إليهم المصريون البطالسة بحراسة الحدود المصرية، فصاروا أمة ذات هيبة وشأن أما أشهر ملوكهم بعد ناطمو فكان (أرطاس الثاني) ،
وفي عهد هذا الملك الذي الذي امتد حكمه من (110-96) ق.م وفي عهد خلفائه: اوبيدس الاول؛ ورويال الاول؛ وارطاس الثاني بلغت دولة الانباط اوج رفعتها وعلائها، إذ كانت متمتعه بالاستقلال الناجز التام، كما كانت اقتصادياتها في حالة ممتازة، وفي عهد اسكندر جانوس عمت الفوضي والانحلال الحكومه السوريه البيزنطيه، واشتدت كراهيه السوريبن للمستعمرين البيزنطيين، حتي إنهم كانوا عونا لكل خارج عليهم اوطامع في مناوشهم، ولذلك لم يلق الحارث فيلهلين (95 -50 ق.م.) مقاومه عنيفه.حين زحفه علي الشام. بل سرعان ما سلم له السوريون مقادة امرهم ومقاليد دولتهم، ليتخلصوا من ظل الارهاق البيزنطي الممقوت. وقد تولي سوريا من بعد الحارث خمسه ملوك نبطيون، وهم: مالك (50-38 ق. م) وعبادة (٣٠ - ٧ ق. م) والحارث الثاني الملقب بفلوديموس (٧ق.م - ٤٠ ب. م.) ومالك (٤٠ - ٧٥ ب. م) ودابل (٧٥ - ١٠٦)
وقد كانت مملكة الأنباط ممتدة من جنوبي أرنون إلى مدائن صالح، والجزء الجنوبي من شرقي الأردن الواقع شرقي الخط الحجازي حتى دمشق وبصرى، وجبل الدروز، وفي عام ٦٧ ق. م. اتفق الحارث فيلهلين مع الفرس على أن يساعدوه في استرداد بلاده التي اغتصبها اسكندر جانوس، فجهز جيشاً مؤلفاً من الأنباط والفرس يبلغ (٥٠ ألف محارب)، وسار على رأسه لحصار أرسبيلوس في قصره، ولكنه رجع من حصاره مغلوباً وفي عام ٦٤ ق. م بينما كان بومي مشغولا بتسكين ثورة اليهود في فلسطين، جهز جيشاً بقيادة ماركوس سكوروس، وسيرة لمقاتلة الأنباط، فتصادم معهم على شواطئ الأردن، فناوشهم طويلا، ولكنه لم يستطيع قط أن يخترق بلادهم ويتوغل في جنوبي شرق الأردن. وانتهت هذه المناوشات بتدخل انتباتر الكاهن اليهودي، إذ استطاع أن يقنع الملك النبطي (الحارث) بان يدفع لسكوروس القائد الروماني مبلغاً معيناً من المال فدية لبلاده. (راجع تاريخ رما ص ١٣٨ - ١٣٩ لمومسن) . وتخليداً لذكرى هذا الانتصار ضرب سكورس نقداً عليه صورة الحارث يقود جملا، ويقدم إلى الرومانيين غصناً من الزيتون
وفي عام ٣٤ ق. م أهدى أنطوني ٦٧١ جزءاً من بلاد الأنباط إلى كيلوبطرا، وهذه بدورها أهدته إلى هيرودس؛ فكبر على الأنباط أن يروا بلادهم سلعة تتهاداها الملوك، فجيش ملكهم المعروف (بمالك) عساكره، وانقض بهم على كيلوبطرا فانتصر عليها في واقعة، قرب السويس، وأغرق أساطيلها التي كانت في البحر الأحمر. ولما بلغ أنطوني خبر اندحار معشوقته، جهز جيشاً عظيماً وسيره بقيادة هيرودس ليثأرلها من الأنباط؛ وكان ذلك عام ٣٢ ق. م فانتصر عليهم في بادئ الأمر، ثم امتد خط القتال حتى كاناثا وهناك أديل للأنباط من الرومانيين في معركة حامية الوطيس، ثم جهز هيرودس جيوشاً جديدة والتقى بالأنباط قرب مدينة عمان (عاصمة شرق الأردن الحاضرة) وفتك بهم فتكاً ذريعاً، فانسحبوا حتى تحصنوا بأم الرصاص (قرب مدينة مأدبا) تدل على ذلك النقوش والكتابات النبطية التي اكتشفت
فيها والتي يرجع عهدها إلى عام ٣٩م ولما اعتلى عرش الأنباط الحارث الثاني المعروف بفلوديموس أخذ يخطب ودَّ الرومان الذين كان قد امتد نفوذهم إلى المملكة النبطية، فزوج ابنته من هيرودس التتراكي، ولكنها لم تلبث أن طلقته هاربه إلى أبيها في بطرا، لأنها اكتشفت علاقاته الغرامية مع هيرودياس زوج أخيه، فاستشاط الحارث غيظاً لشرف ابنته وانقض على هيرودس وهزمه
أما اليونان فقد ظلوا يهتبلون السوانح ويتحينون الفرص المناسبة ليثأروا من الأنباط لهزيمتهم عام ٢٥ ق. م. حتى كان عهد تروجن فجهز عام ١٠٦ ب. م. جيشاً لجباً بقياده أولوس كرنيليوس، حاكم سوريا، وسيرة إليهم، فقضى هذا الجيش على تلك المملكة العظيمة التي دام عهدها التاريخي زهاء ستة قرون وأقصى آخر ملوكها وهو دابل عن العرش (يتبع - شرق الأردن)

