الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 684الرجوع إلى "الثقافة"

الأنسان بين مختلف الدراسات

Share

قامت محاولات عديدة من أجل تعريف الإنسان بصورة تجعله متميزا عن الحيوان، وتبرز صفاته التى تفرده بين بقية الكائنات وسائر المخلوقات. وقد يبدو ذلك يسيرا سهلا أمام العقل، ويخيل إلى الباحث أنها مشكلة بسيطة الحل . بيد أن الفجوة تظل بعيدة الفور بين ما نراه لأول وهلة وبين حقيقة الأمر، والهوة تظل عميقة بين فكرتنا النظرية وبين الواقع العملى . فقد يكون فى مقدور أى إنسان أن يفرق بين ما ينتسب إليه وما يغايره إذا ما عرضنا الكائنات عليه . بل وفى إمكان الحيوان كذلك أن يميز فصيلته عن سائر الفصائل بفعل غريزى لا ندرى كنهه على التحديد . ولكن الحد النظرى الفاصل يظل رهنا بالآراء التسوية إلى أصحاب التفسيرات المختلفة.

فأرسطو ينعت الإنسان بالحيوان الاجتماعي، وهناك من يذهب إلى حد تسميته بالحيوان العاقل أو الناطق أو الضاحك، أو بالحيوان القابل للتقدم، وهناك آخرون يلتمسون فى المظهر الفيزيائى معالم اختلاف ويقررون أنه حيوان منتصب القامة يمكنه استخدام إبهام يده استخداما شديد المرونة . ويضيف آخرون إلى ذلك أن دماغه أضخم الأدمغة وأشدها تلافيف، بحيث تكون القشرة الدماغية أعقد القشور بين المخلوقات الحية.

ولنقبل على هذه النظرات والتعريفات لنرى ماذا سيئول إليه الأمر، ولندرك مدى الدقة والإصابة فى تلك الآراء . فمن جهة النظر إلى الإنسان على أنه حيوان اجتماعى يمكن القول بأن صفة الاجتماعية بغير شك هى أبرز الصفات الإنسانية . ولكن المقصود بكلمة الاجتماع قابل للتأويلات، و يختلف حسب الألوان التابعة لرغبات الذين يؤيدون كل نظرية على حدة . ويمكن أن نعترض اعتراضا آخر يجعل هذا المذهب ضيفا لا يقف على قوائمه، فنقول - من وجهة النظر الواقعية - إن ثمة مجتمعات حيوانية لها أسسها

وظواهرها مثل مجتمعات النمل والنحل وبعض القوارض كالكاستور . أما من الوجهة النظرية فيمكن الاعتراض على ما يدعيه الاجتماعيون المتطرفون من أن المجتمع هو الذى يخلق الصفات التى يتحلى بها الإنسان ، إذ يقولون إن هناك استجابات مباشرة ترجع إلى طبيعة الجسم المادية، ومبعثها إثارات اجتماعية بحتة . وهناك استجابات غير مباشرة تتعقد فتؤلف العادات بمرور الزمن ومن تداخل العادات يتعين السلوك . والإثارات دائما اجتماعية، كما أن الاستجابات تظل مادية مع تعقيدها . ومن زاوية عامة - بخلاف الزاوية الفردية السابقة - تؤثر بعض النظم الاجتماعية فى حياة الفرد المادية، بحيث يصير أداة تحركها التيارات الاجتماعية وتقودها إلى مصيرها المحتوم .

ومن الطبيعى أن نظرية كهذه تسقط من حسابها العوامل الوراثية من ناحية، والعوامل الروحية من ناحية ثانية . أما العوامل الوراثية فقد تأكد ثبوتها بالتجارب العلمية التى أجريت على التوائم بعد انتسابهم لبيئات مختلفة؛ فكانت العلاقة بين صفاتهم أشد وثوقا من العلاقة التى تربط أحد التوأمين بإنسان غريب عنه يعيش فى نفس بيئته . ويكفينا هذا القدر من التدليل، لأن هناك تجارب عديدة على الأباء والأبناء تثبت هذه التجربة القاطعة .

وتجاهل العوامل الروحية يعد تعسفا فى البحث، لأن العلم حين يتخذ موقف المحايد فى مسألة لا تصل إليها تجريته، لا يدل هذا على أن هذه المسألة لا أساس لها من الصحة . وموقف الفيلسوف الألمانى كنت بعد موقفا سائبا إلى حد كبير فى هذا المضمار . فقد جعل للعقل إمكانيات، منها ما يتعلق بالهموس والتجربة، ومنها ما يفلت من هذا النطاق فيتوارى خلف أبواب ما بعد الطبيعة، ويغيب وراء سحائب المتافيزيقا بحيث يضل الملاح فى سعيه إليها . .

ولنضف إلى هذا أن الحتمية العلمية مسألة تتعلق بالناحية

العملية ولا يمكنها القطع بالقوانين المطلقة؛ بل إن حتمية السبب والمسبب صارت عزيلة فى المنطق الحديث الذى يقول بالعلاقات وفاعلية علاقة بالنسبة إلى غيرها . ويجدر بنا اقتباس أحد أمثلتهم القائلة بأن تتابع الليل والنهار لا يدل منطقيا على تسببب الليل للنهار، أو النهار لليل .

هذا كله فى حدود النظرية الاجتماعية التى تعالج موضوع الإنسان ؛ أما إذا نظرنا إليه من وجهة الفكرة الفلسفية التى تقول إنه حيوان عاقل . فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر عليه عقله، وإنما يقع الإشكال فى تفسير معنى العقل : ما هو وماذا نقصد به ؟ لو طرقنا هذه النقطة من هذا الجانب لأفلت الموضوع الذى نبحثه من بين أيدينا دون أن نصل إلى نتيجة يمكن الاطمئنان إليها . فعلينا أن نلجأ إلى افتراضات تناقشها حتى تتبين لنا المشكلة من أطرافها . فهناك افتراض بأن العقل هو الوازن للأحكام المنطقية ؛ ويمكننا أن نقول - ونحن بسبيل التعليق عليه - إن الشعوب البدائية لها نوع من المنطق الخاص الذى ينفى مبدأى الذاتية وعدم التناقض، فيعتقد الفرد منهم أن له عدة شخصيات وأنه فى أمكنة مختلفة في نفس الوقت . وعلى العموم فإنه من المستحيل أن يقارن فى هذا الباب بين عقلية البدائى وغريزة الحيوان . ويزعم افتراض آخر أن العقل مولد للذكاء ! ولكن الذكاء كلة توازى كلمة العقل فى غموضها . وقد وقف علم النفس أمام مدلولها مكتوف الأيدى ثم أخرجها على صورة " العامل العام " الذى درسه سبيرمان عالم النفس الإنكليزى فى بداية هذا القرن . ومهما يكن الأمر فإن " العامل العام " يظل رهنا بالبيئة وبالظرف الاجتماعى، وبنوع الأفراد الذين يتخذون كمقياس مقارن، أما تعريف الذكاء بأنه مداراة لتوقف واستجابة سريعة صائبة له، فلا يؤدى إلى أدنى تقدم فى بحثنا، لأن الحيوان له ذكاؤه الخاص الذى يدارى به موقفه المعين . وهناك افتراض ثالث خاص باعتبار العقل أداة للتقدم . وسليحة عندما نتعرض لصفة التقدم فى الإنسان .

وننظر بعد ذلك فى القول بأن الإنسان حيوان ناطق وضاحك . فنجد أننا لو فهمنا النطق على أنه " تعبير " لما استطعنا تمييز الإنسان من الحيوان . . فللحيوان تعبيره هو

الآخر، ولو أخذناه على أنه كلام لأدخلنا البيغاء فى زمرة بنى الإنسان . أما أن النطق يولد حضارة وينتج ثقافة، فهذا يتعلق بالتقدم من جهة وبالمذهب الذى سنعتمده أخيرا . لذلك نتوقف عن الحكم مؤقتا ونترك ذلك لحينه . كذلك نلاحظ أن القردة تشترك مع الإنسان فى صفة الضحك وهو دليل هزيل . . اللهم إلا إذا عنينا بالضحك ما يتصل بالثقافة أو بالنكتة الفكرية . وهذه أيضا نتركها إلى مناسبتها فى الكلام .

ونصل إلى النظرية القائلة بأن الإنسان حيوان قابل للتقدم، فتتأتى قليلا قبل أن تقطع بأن التقدم هو الحد الواضح الفاصل بين الإنسان والحيوان . . ونتساءل : هل التقدم علاقة زمنية أم هو تحسن القيمة الإنتاجية ؟ أو بعبارة أخرى هل هو صفة ترتبط بالزمن كلا أوغل فى التقدم، أم أنه حركة ظاهرة تنتاب عملية الإنتاج فى المجتمع ؟

١ - إذا كان علاقة زمنية فالقول باطل من أساسه، لأن هناك نكصات حضارية وعصورا ذهبية على حد قول المؤرخين . يضاف إلى هذا، الوجه الفردى الذى ظهر فى عالم الإجرام وعلم النفس المرضى . ففى الأول يذهب لمبروزو إلى تحليل الإجرام بنكوص إلى عهد بداني، حيث تسيطر شريعة الغاب، وتبدو آثاره على شكل عاهات عضوية . وقد امتد هذا المذهب إلى علم النفس المرضى، فذهب بعضهم إلى أن الأمراض العقلية ترجع إلى الضعف الوراثى الذى انضمت إليه مع الزمن عاهات عديدة تظهر على شكل خلل عقلى يستدل عليه من ندوب جسدية . ومع أن هذين المذهبين ضعيفا الحجج والأدلة، فقد وجدا من يدافع عنهما فى السنة الماضية حينما اقيم مؤتمر علم الإجرام ومؤتمر علم النفس المرضى فى باريس .

٢ - أما لو حكمنا بأن التقدم هو تحسن القيمة الإنتاجية لكان فرضنا صائبا فيما لو نوفر لدينا مقياس ثابت نقيس به هذا التحسن . وكلنا يعرف أن القيم لا تقاس بالمعايير الثابتة، بل تظل نسبية يرتفع مقدارها أو ينخفض تبعا لوجهة النظر التى ترتكز عليها . فقد يكون التقدم ماديا وهذا نسلم به فيما لو حكم على كميته وتزايدها، ولكنه لو قيس بالنسبة إلى السعادة الإنسانية لتضاربت الأقوال واحتدمت المناقشات .

ولو كان التقدم روحيا لسمعنا أصواتا عديدة تعلن عن تداعى الإنسان الحالى فى إنتاجه الروحى وعن تأخره المروع فى هذا المضمار، لا حكم لنا إذا فى هذه الناحية إلا بطريقة نسبية لا يمكن أن يرتاح إليها مذهب نظرى

وننتهى من هذا كله لنعرج على نظرية المظهر الفزيائى، فلا تناقشها هاهنا، ونما نكتفي بأن نتبع المذاهب النظرية . ونقول عابرين إنه لا يمكننا استنتاج شىء حاسم إلى هذه الساعة حين تمر بفكرة تعقد التلافيف الدماغية وصلتها بالمقدرة علي التفكير ؛ لأن الصلة بين الدماغ والفكر لم يقطع فيها قطعا طويوفزافيا . . كما أنه لا توجد هنالك علاقة سبب بمسبب أو شرط لمشروط، بل هناك علاقة وثيقة واقتران ثابت ثم تحل مقتيضاته بعد . !!

بعد هذا النقد المقتضب للمذاهب الواردة الذكر محلول عرض مذهب حديث تري وجاهته ونشعر بأسالته وهو مذهب الرمز الثقافى .

يمكننا تصور حياة أي مخلوق كان كتابع لمواقف مختلفة وفى كل موقف تتحرك بعض الدوافع ، تومئ بعض الحوافز فتتعين استجابة ما . ويشترك فى هذا الإنسان والحيوان .

فالحيوان العطش يدفئه عطشه لطلب الماء ، فيجد ويشرب منه مطفئا ظما . فالدافع هنا هو العطش والموقف وجود الماء أما الاستجابة فهى الشرب .

والإنسان الذى تأكله الغيرة . طرح الخيانة التى تعمل فى لاشعوره على محبوبه، مثلا ، وموقفه الشابة بينه وبين هذا المحبوب، أما استجابته فتختلف بين فرد وآخر، فهى إما الغضب مع الصراخ أو الضرب، أو قتل معشوقته أو من يظن منافسا له إلخ . .

أما الفرق الأساسى بين الإنسان والحيوان فهو فى الرمز للقيمة التى تتعين فى الموقف . رمزا يتعلق بالثقافة الحضارية . فالقيمة عند الحيوان تطابق الموقف ولا تتعدد فالماء للحيوان العطش قيمته الإرواء، ولكنه للإنسان يختلف فى مدلوله اختلافا واضحا . فهو يؤخذ بعد تصفيته ويبرد فى الصيف وقد يصنع بواسطته بعض المرطبات"

ويكون وقع مختلف باختلاف الامكنة والظروف ، إلى آخر ما هنالك من ملابسات .

هذا موقف مادي بسيط مخرج منه رموز ثقافية عديدة . والحال ينعقد بشكل متشابه حين نتعرض لمواقف عاطفية أو فكرية . تأخذ موقف المحبوب من محبوب ولتصورها في نزعة خلاوية ، فنجد أن الاستجابات تتعدد بمعذر الهبين . وختلف عند اثنين منهم باختلاف الظروف واللابسات ، فهناك ذكريات تعمل وآمال محموم ، ثم جرأ : تنسكع أو ملاطفة تؤثر وشعر . . إلخ الخ .

وهناك من يذهب إلى أن حياة الإنسان فى عصرنا الحديث يمكن أن يرتد إلى بضعة رموز أهمها الساعة الأحرف - والنقود . أو بتعبير أوضح الوقت والثقافة والاقتصاد .

ففي الزمن ذكريات تتوالى وأخيلة تحبك وأمال تتطلع . وحاضر يداري . وهناك ساعات عمل ، ومواعبد محدودة وساعات للنزهة والرياضة . . إلخ

وفى الأحرف المنطوقة أو المكتوبة تنتقل الثقافة على كل تربية أو يصورة تعليم أو بكتاب أدنى من نثر أو شعر . أو فى بحث علمى . بها خير عن العواطف ونناقش الآراء . وبواسطتها تتسع المعرفة وتثرى الحضارة .

أما النقود فتسوى علاقاتنا المعاشية ، وتحل محل التبادل المباشر لتسهيل التجارة والعمل ، وعلى أصوات رئيتها ترتفع الأنغام السياسية بدعابتها وأساليبها سافرة في جشعها واستغلالها

فهل يستطيع الإنسان أن يستخدم هذه الرموز التى ابتدعها لصالحه ، أم أن الآلات التى ابتكرها والنفود التى سكها ستقوده إلى نهاية خطرة ؟ .  .

المقدمات تلوح بخطورة الطريق ، والعاقبة محزية إذا طعن الإنسان بالسلاح الذى ابتكره والذى اختال به على أخيه الحيوان ! .

اشترك في نشرتنا البريدية