الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 145الرجوع إلى "الثقافة"

الإعداد للحياة

Share

استأذن ودخل مكتبى ، ثم حيا وجلس ، وقد كان فى الثانية والعشرين من عمره ، تخرج فى المدارس الثانوية ورفض كل الرفض أن يدخل المدارس العالية ، لأنه كره أن يطيل حياته المدرسية ، وهو يتوق إلى ما يظنه حياة حرة بعيدة عن قيود المدرسة والدرس .

قال : أنت رجل حر الفكر ، تكتب في الحياة الاجتماعية كثيرا ، وتحمل فى كتاباتك على الجيل الذى يتسلط على أقدار مصر الآن ، ثم أنت تعطف على الجيل الناشئ ، تقف فى صفه تطلب له الحرية فى العمل والتفكير ، وتفتصف له من الجيل المتقدم عليه . والآن قد حضرت إليك لتنصفنى من أبي ، فهو رجل رجعى ، يكره المجازفة والمخاطرة ، نشأ على نوع معين من الحياة ، ولا يريد أن يحيد عنه ، ثم هو فى نفس الوقت لا يسمح لنا أن نجرب ضربا آخر قد يصلح لنا ، وإن كان لا يصلح له .

قلت : ما هو سبب النزاع بينك وبين أبيك وأنا أضمن لك أنى أقف فى صفك متى كان الحق معك ؛ فأبوك صديقى ولى عليه نفوذ ، فماذا تروم منه ؟

قال : طلبت إليه أن يعطينى خمسمائة جنيه لأفتح بها متجرا لبيع الأدوات المدرسية فرفض ، وأصر على الرفض وأصررت على مشروعى ؛ فتخرجت الامور بيننا لدرجة أنى لا أطيق العيش نحت سقف واحد معه .

قلت : وماذا تصنع بالخمسمائة جنيه لو نزل والدك هى رأيك وسمح لك بها ؟

قال : أشترى بها أدوات مدرسية . قلت: هذا كلام لا يصلح للتجارة ؛ فالتجارة تتعامل بالوحدات ، بالأعداد والأرقام ، أما الكلام العائم فشئ

بعيد عنها . فما هو إذا مشروعك بالضبط ؟

قال : أبتاع ورقا وكراسات وأقلاما وما أشبه . قلت :كم قلما يلزمك لمتجرك ؟ وكم كراسة ؟ وما ثمنها عند الشراء وما ثمنها عند البيع ؟

قال : شئء غريب ؛ ما هذا الكلام ؟ كل متاجر الأدوات المدرسية بها أقلام وأوراق وكتب وكراسات ، ومتجرى سبصبح واحدا منها ، فيه ما فى غيره مما يحتاجه طلبة المدارس .

قلت : صف لى متجرك كما تتخيله ، واشرح لى الخطة التى اعتزمت السير عليها . وبمعنى آخر: افرض أن فى جيبك الآن خمسمائة جنيه ؛ وأنك ستخرج من هنا مباشرة إلى السوق لتعمل ما تريد ، فابسط أمامى خط سيرك خطوة فخطوة .

قال : أستأجر مكانا لتجارتى . قلت : أين ؟ قال : فى أى حى ، إذ أن كل الأحياء لدى سواء . قلت : وبعد ؟ قال : أبتاع أدوات قلت : ما عددها وما مقدارها بالجنيه ؟ قال : لا أعلم عددها ، وإنما ابتاع بما يساوى ٢٠٠-٣٠٠-٤٠٠ جنيه .

قلت : ثم ؟ قال : ثم أعين موظفا لمساعدتى . قلت : يساعدك فى ماذا ؟ قال : فى البيع يا أخى . قلت : وهل انت واثق أن حركة البيع فى متجرك تستلزم جهود شابين ؟

قال : ولماذا لا ؟ ألا بوجد فى بعض المتاجر اثنان وثلاثة من الموظفين ؟

قلت : بل أكثر من ذلك فى أحايين كثيرة . قال : أنت إذا موافقنى على أن يعطينى أبى هذا المبلغ . قلت : لا . لا أوافق على هذا بحال من الأحوال ، بل إنى أنصح لوالدك أن يمتنع عن إعطائك جنيها واحدا لصرفه فى هذا الباب ، فأنت لا تفهم فى التجارة ، ولا تريد أن تحمل نفسك مشقة البحث ؛ وغاية ما وصل إليه بحثك فى هذا الباب هو صورة استقرت فى ذهنك أعجبتك فأردت أن تصل إليها بأقرب الطرق دون عناء أو مشقة ، ودون مجهود تبذله فى هذا السبيل - هذا الوضع الذى أعجبك ، وهذه الصورة التى راقت لك فأردت تحقيقها على حساب والدك ، هى صورة شاب يلبس بذلة نظيفة مرتبة وينضد شعره ويضع فيه الروائح والعطور ، ويجلس إلى مكتب عليه آلة التليفون ، وأمامه شاب موظف ، أو ربما فتاة تجلس إلى الخزينة ، ثم تناول السلع للشارين إن تصادف وجودهم بالمتجر . وبعبارة أخرى : حلمت أنك رجل كبير عنده موظفون وإدارة ومحل تجارى محترم ، فتملك هذا الحلم مشاعرك وأردت تحقيقه على أهون السبل ، فذهبت إلى والدك تطلب إليه أن يحقق لك أحلامك . أما أن تبدأ بداية متواضعة ، تعمل بنفسك على تحقيق هذا الحلم الجميل ، فتجاهد وتناهض وتجوع وتتعب وتسهر على العمل له ، تلبس له الخرق البالية ، فتنظف المتجر بنفسك وترتب السلع فيه وتنقض عنها الغبار فيدخل إلى حلقك وخياشيمك فى سبيل تحقيق آمالك ، فهذا شئ لا قبل لك به ، ولا يتفق مع مزاجك . والواقع أنك لا تهوى العمل والجد ، وإنما تهوى المظاهر واللهو ، وهذه خصال لا يستطيع إنسان عاقل أن يعينك على تحقيقها . ناهيك بمبلغ خمسمائة جنيه تصرف فى عبث لا طائل تحته .

خرج من مكتبى غير راض عن تفكيرى ، وتركنى غير راض عن مدارسنا .

لقد طالبنا بتغيير المناهج فى مدارسنا تغييرا أساسيا ، فتقلب فيه الأوضاع رأسا على عقب ، وتطلق فيه الحرية للنشاط الفكرى والبدنى ، وتوثق فيه الصلة بين المواد المدرسية والحياة الاجتماعية بجميع مناحبها ، حتى يخرج الطالب منها وهو عارف بضروب هذه الحياة فيهجم عليها كأنه لم يفارقها لحظة واحدة . أما هذا الذى يدرسه الطلبة فى المدارس ، وما يشقون لتحصيله ويسهرون الليالى فى مقارفته ، فشئ لا قيمة له عندنا ، ولا فائدة فيه لأولادنا .

نقول هذا القول لرجال وزارة المعارف فيعجبون ويتهمون قائله بطائفة من التهم ، بعضها مستتر وراء الألفاظ ، وبعضها صريح لا يحتاج إلى بحث أو استنتاج ، ثم يقولون : ماذا تريد أن نحذف من هذه المواد - أتريد حذف الرياضيات ، وهى جهود عقلية تشحذ الفكر وتغذى الاستنباط والاستنتاج ، وتعين على الذكاء وتساعد على الدقة فى التعبير وفى البرهان ؟ أم تريد أن نحذف التاريخ ، وفيه عبر وعظات ، وفيه حياة شعوب ودول بعين الاطلاع عليها الشعوب والأفراد على الحياة العادية من يوم إلى يوم ؟ أم تريد حذف الجغرافية ، وهى لازمة الدراسة إقليمنا الذى نعيش فيه ، جوه وهوائه ومائه ، وعلاقته بالدول المجاورة له والبعيدة عنه ، والمسالك البحرية والأرضية للتجارة بينها جميعا ، وأنواع السلع التى تنتجها أو تستهلكها ، وكيف تكون تجارة بغير جغرافية ؟ وهكذا إلى آخر هذه الحجج التى لا تقنع ولا تفيد .

نحن لا ننكر أن المعلومات شئ نافع فى ذاته ، وأنه لا اعتراض لدينا على أن يعرف الصبي ما يستطيع أن يعرف ويجمع من المعلومات ما وسعه أن يجمع ، إذ أن المعارف هى ميدان النشاط للعقل الانسانى ، ولا يصح أن يغلق هذا الميدان دون عقول الشباب فى هذا البلد ؛ ولكنه ميدان واسع الأطراف إلى درجة لا يتصورها العقل ؛

فتراث المعارف تراث ضخم يملأ الكون من أقصاه إلى أقصاه ، بينما الحياة اليومية فى بيئة معينة تتطلب معارف ومعلومات معينة ، بدونها يشعر الفرد أنه غريب عن هذه البيئة بعيد عنها ، لا تربطه بها صلة من الصلاة . فماذا يفيد الطفل المصرى لو عرف ما تنتجه الصين وما تستهلكه البرازيل ، وأنهار هذه وموانئ تلك ، وجو هذه وأمطار تلك ، ودورات المياه والرياح ، وتعاقب الفصول ، إلى آخر هذه المعلومات ، بينا هو لا يعرف كم بيضة بالقرش ، وماذا ببيع الناس فى حى البقالة ، وماذا يشترون من سوق البلح ، وأين هو خان الخليلى ، وماذا يصنع الناس هنالك ؟ ماذا ينفعه التاريخ وهو لا يعلم كيف يعيش مع رفاقه فيتعاون معهم ف إدارة شئونهم ، يخضع حيث يجب الخضوع لقراراتهم ، ويعترض حين يجوز الاعتراض أو يجب ؟ ماذا تنفعه الجغرافية والمعلومات التجارية التى يحصل عليها من دراستها ، بينا هو لا يستطيع - إن أراد - أن يتكسب قرشا واحدا عن طريق عمل من الأعمال التجارية ، لا بل لا يعرف الخطوات الأولى الضرورية لإنشاء المتاجر .

فرق بين أن يتعلم الطفل الحقائق والمعلومات عن طريق نشاطه فى حياته اليومية ، وبين أن يتعلمها مجردة عن كل علاقة بهذه الحياة . فرق بين أن يتعلم الحساب مثلا عن طريق حوض ملئ من الماء تصب فيه حنفية قدرا منه فى الدقيقة وتفرغ بالوعة قدرا آخر ، ويطلب إلى الطفل أن يحدد الزمن الذى يملأ فيه الحوض أو يفرغ ما فيه من ماء . نقول فرق بين هذا الشئ الذى لا يراه أحد فى حياته العادية ولا يمارسه إلا المجانين ، وبين أن يعرف الطفل قواعد الحساب عن طريق الأخذ والعطاء العادى ، أو عن طريق التعامل الفعلى بينه وبين الناس فى بيئة طبيعته كما يفعل جميع الأحياء من متعلمين وغير متعلمين على السواء . ولا نظن أن إنسانا عادى الذكاء فى البلاد المصرية بنقصه من قواعد الحساب القدر الضرورى

له الذى يعينه على تصريف شئونه كما يشاء .

ليست المعلومات والمعارف شيئا نحمل أطفالنا على الحصول عليه بكل الطرق حملا ، ونكلفهم تكليفا ، لا يجب أن يشقوا فى مقارفته لأنه فى ذاته شئ جميل ، فكم من جميل لا يجب أن تربك أنفسنا به ، لا نظن أن إنسانا يجب أن يطالب بالحصول على المعلومات لأنها معلومات ، فلسنا نطالبهم مثلا بأن يتعلموا كيف يبنون بيوت الأسكيمو ، أو عشش سكان أواسط أفريقيا ، أو عادات الدبية فى القطب ، كيف تأكل وتنام ، ومن أين تأكل وأين تنام ، ولا نطالبهم أن يعرفوا الأبعاد بين الكواكب والشموس والنجوم ، وكيف تقاس ، وكيف يقيسونها بأنفسهم . لا نطالبهم بهذا أو ما يشبهه ، وإن كانت هذه وأمثالها معلومات ومعارف ، وجميل بنا أن نعرفها وأن نعلمها لهم .

يجب أن يكون أساس التعليم الحياة ، يجب أن تكون المدارس وسيلة من وسائل العيش ، يعيش فيها الطالب وينشط كما يعيش وينشط فى البيئة الصالحة السليمة ، وبعد ذلك - لا قبله - تتوافر فيها المعارف والمعلومات التى يحتاج إليها الواحد منهم عند ما يتطلب النشاط منه الحصول عليها لا قبل ذلك ، ولا نكلف الطالب بأن يأخذ منها إلا ما يشعر أنه لازم له فى ضروب النشاط الذى يضطلع به فى ذلك الحين بعينه . أما تحديد المعلومات والمعارف ، وتعيين مقاديرها وأنواعها والكتب التى تؤخذ منها ، قبل أن يدخل الطفل المدرسة ، فقلب للأوضاع الطبيعية للأشياء ، شأننا فى هذا شأن الوالد الذى يصر على تفصيل طفله على قدر الملابس الموجودة ، فيقصر ذراعيه ويمط قدميه حتى يستوى جسمه لهذه الملابس .

ووزارة المعارف تفصل عقول أولادنا على ما عندها من معلومات ومعارف .

اشترك في نشرتنا البريدية