الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السادسالرجوع إلى "الرسالة"

الادب اليابانى, الأدب اليابانى

Share

٢ انتهينا فى مقالنا الأول من الكلام عن الأدب اليابانى حتى  نهاية العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أى بعد أن هدأت الثورة  اليابانية الأهلية وابتدأت بوادر التجديد تظهر فى جميع نواحى الحياة  اليابانية كما هى العادة دائما عقب الثورات الاجتماعية الخطيرة التى  تظهر فى الأمم. وكان حظ الأدب اليابانى من هذا التجديد عظيما  إذ لم يلبث أن ظهر فى الميدان الأدبى "كويو" koyo وهو  مؤسس المدرسة الأدبية الحديثة فى اليابان المسماة "أصدقاء المحبرة"  وكان هو وتلاميذه وأتباعه يدينون بالمذهب الواقعى، ولا يكتبون  الا القصص المفعمة بالمشاعر الرقيقة، والتى تتزاحم فيها العواطف  والنزعات المختلفة، متخذين كتاب الحياة مصدرا ومعينا لما يكتبون  ويصفون. وبالرغم من تباين أتباع "كويو" فى الأعمار  والمراكز الاجتماعية والأزمنة التى عاشوا فيها كانوا يضربون  جميعا فى مؤلفاتهم على هذا الوتر الحساس الذى طرب له "كويو"  فاتخذه شعاراً لمدرسته الأدبية الحديثة، ونعنى به المذهب الواقعى.  ولم يعمر "كويو" طويلا بل توفى فى عنفوان شبابه بعد  أن طبقت شهرته جميع أنحاء اليابان. وتعد قصته الموسومة "بشيطان  الذهب" أبلغ أعماله الأدبية على الإطلاق. ولقد اشترك  مع "كويو" فى تأسيس تلك المدرسة الأدبية الحديثة أديب آخر  يدعى "روهان"Rohan ولو أن هذا لم يكن يميل إلى المذهب  الواقعى ، بل كانت الروح الغالبة على مؤلفاته هى الروح الخيالية  الدينية الفلسفية. كذلك اكتسب هذا الأديب شهرة فائقة بقصة  ألفها تدعى "بوذا المدلل" وهو لم يكتب شيئا آخر غير تلك القصة،  ولو أن العمر امتد به إلى ما بعد تاريخ هذا الكتاب بكثير.

وبعد الحرب الصينية اليابانية أخذت الآداب الغربية تطغى على  اليابان رويدا رويدا، وكان أعظمها أثرا مؤلفات تولستوى وإبسن  إذ ترجمت إلى اليابانية آثارهم وآثار غيرهم من زعماء الأدب  الأوربى أمثال موبسان وهوجو وزولا وغيرهم حوالى عام ١٨٩٦  حتى وقف العقل اليابانى حائرا أمام هذا السيل الجارف من الآداب  الأوربية ؛ وحاول "كويو" وأتباعه أن يدخلوا روحا جديدة  تحليلية على الأدب اليابانى، وفعلا أصدروا عدة مؤلفات تعبر أصدق  تعبير عن نفسية الشعب اليابانى الحديث، كما تعصب فريق آخر لأدب  زولا وحاولوا تقليده.

وبعد انتهاء الحرب الروسية اليابانية التى شب اوارها عام  ١٩٠٥ نجد الآداب اليابانية تزيد صبغتها الغربية وتقوى، فأننا نجد  مثلا "هجوتسو" Hugestu أحد أساتذة جامعة (واسدا) فى طوكيو  يعود بعد سياحته الطويلة فى ربوع أوربا ويؤسس مدرسة أدبية  جديدة هى تحوير للمدرسة الأدبية الفرنسية المعروفة بالمدرسة الطبيعية.  حسبما تقتضيه البيئة اليابانية وأذواق الشعب اليابانى. وأهم المبرزين  فى تلك المدرسة هما توسون Toson وكافو kafou

تبدأ الحرب العالمية بعد ذلك ويخفت صوت الآداب الأوربية  نوعا ما، فتجد الآداب اليابانية المجال أمامها متسعا لكى تقف بنفسها  فى الميدان، وتسمع صوتها للملأ، فتقوم فى اليابان حملة عنيفة  على الأدب المكشوف، وهو شعار المدرسة الطبيعية، ويطلب أصحاب  تلك الحملة بإلحاح أن تكون الآداب وسيلة لطلب المثل العليا،  وأنها يجب أن تسير فى جو محتشم طاهر، وأصبح هؤلاء فيما بعد  زعماء المدرسة "الإنسانية" Humannatura وهؤلاء لم ينجحوا  الا فى القضاء على أصحاب الأدب المكشوف، ولكنهم فى الوقت  نفسه ظلوا فى إسار الآداب الغربية. ولعل أشهر هؤلاء الجماعة  وأرسخهم أدبا هو "أريزيما" Arisima وأشهر أعماله الأدبية  قصته المسماة "تلك المرأة" وهى تاريخ حياة امرأة حديثة  "مودرن" تمثل فى جملتها العقلية اليابانية فى ذلك العهد  الذى تشبع بالروح الغربية، ويمكننا أن نعتبر هذه القصة مثالا  لحالة الأدب اليابانى فى ذلك العصر الذى أغارت فيه الحضارة  الغربية على بلاد الشمس المشرقة.

والمتصفح لتاريخ الأدب اليابانى منذ أقدم عصوره إلى الآن يمكنه  أن يلاحظ بكل وضوح مقدار اختلاف العقلية اليابانية عن العقلية  الغربية. فالذي تنفرد به العقلية اليابانية هو سرعة استعدادها لاعتناق  كل ما هو جديد. بل التهامه التهاما دون التأمل والنظر فيما إذا كان الطعام الذى ستتناوله فى مقدرتها هضمه أم لا. وليس معنى هذا  أنها عقلية عديمة القدرة على التمييز والاختيار ولكن هذا التمييز  وهذا الاختيار يأتيان بعد فترة من الزمن بعد أن تملك  النفس زمامها وتألف رؤية الشيء الجديد ويذهب عنها بريقه  ولمعانه. ويمكننا أن نذكر لك أن اليابان كانت تعشق أدب  تولستوى عام ١٨٩٤ فتحولت عنه إلى سودرمان وهوبتمان  عام ١٨٩٦، ثم تحولت عنهما عام ١٨٩٧ إلى موبسان وزولا  وهوجو ثم منهم إلى ترجنيف عام ١٨٩٨ ثم إلى نيتشه عام ١٩٠١  ثم إلى مكسيم جوركى ومترلنك عام ١٩٠٢ وأخيرا انتهى بها  التنقل والمطاف إلى تشيكوف وواجنر عام ١٩٠٣. وإذا عرفنا (البقية على صفحة ٣٧)

( بقية المنشور على صفحة ٢٦)

هذا لا نعجب إذا رأينا اليابان تحتفل احتفالا عظيم الشأن بالعيد  المئوى للشاعر شيلر، أو إذا رأيناها تخصص الصفحات الأولى من  جرائدها ومجلاتها المحترمة للكتابة عن إبسن ومؤلفاته ومكانته  الأدبية الممتازة عقب وفاته. لهذا يمكننا أن نعتبر الآداب الغربية  نوعا من أنواع "المودة" التى تروح وتغدو كل عام بين  أوربا واليابان.

ولم يعقب . هذا اللقاح المتعدد الأنواع والأجناس إلا نوعا من الآداب أشبه شىء بالثوب الذى تزدحم فيه الالوان دون تناسق أو تآلف أو ترتيب , ولكن يصح الآن أن نقول أن الآداب اليابانية قد تخلصت من جميع تلك العناصر الغربية بل يمكن أن نميز فيها بوضوح إتجاهين يابانين جديدين . فانه بعدالمدرسة الانسانية  Humanitaire التى أنشأها "سيرا كابا" عقب المدرسة الطبيعية  ظهرت مدرسة أخرى جديدة تدين بالمذهب الواقعي جعلت همها  مخاطبة الجماهير والتحدث إليهم عن معايب الطبقة الرأسمالية الغنية؛  وكان زعيم هذه المدرسة الجديدة "كيكوتى" الذى أسس عام  ١٩١١ فى اليابان جمعية أدبية أطلق عليها اسم "جمعية القصصيين"  ولا يزال أثر هذه المدرسة نافذ المفعول حتى اليوم، لأن آثار

"كيكوتى" وأتباعه الأدبية قد لاقت هوى فى نفوس العدد  الأكبر من اليابانيين لأن رجال المال هم القابضون على زمام  الأمور فى تلك البلاد.

أما الاتجاه الآخر فهو أن جماعة من كتاب اليابانيين الحديثين  أخذوا على عاتقهم أن يصفوا فى كتاباتهم حياة الطبقة الدنيا من  اليابانيين أى طبقة العمال ومن إليهم، وقد تعمقوا فى هذا الوصف  حتى أنك تكاد تلمس بيديك فى كتاباتهم هيكل البؤس والتعس  المخيم على هذه الطبقة الفقيرة.

وخلاصة الموقف الأدبى الآن فى اليابان هو أن هناك فى الميدان  أربع فرق من الأدباء تتنازع الجمهور اليابانى، فالفريق الأول هم  أصحاب المدرسة الكلاسيكية الذين يعشقون الآداب لذاتها، وهؤلاء يمثلون الطبقة الأرستقراطية من المجتمع، ويقفون وجها لوجه أمام الفريق الثانى أى الأدباء الذين يعبرون عما تكنه صدور الطبقة الدنيا من آلام وآمال وهموم وأحزان؛ ثم الفريق الثالث وهم  أدباء المدرسة الحديثة الذين يحبون التجديد فى كل شىء حتى فى  العواطف الإنسانية ويطلقون عليهم تهكما اسم "المدرسة الاستقراضية" وآثارها مع ذلك لا تخلو من الطرافة فى نواحي عدة منها. أما  الفريق الرابع فهم أدباء المدرسة الشعبية وينضم تحت لوائها العدد  الأكبر من أدباء اليابان وهم يخاطبون الشعب الياباني كأنه كتلة  واحدة لا تباين فيها ولا اختلاف.

اشترك في نشرتنا البريدية