للاستعمار أنواع كثيرة وأشكال مختلفة ، ولكن أكثره مؤسس على الاقتصاد السياسي ؛ فهو يرمى إلى انتفاع أهل البلاد المستعمرين ما أمكنهم ذلك ، ولذلك خدمت السياسة الاقتصاد .
والمستعمر في الغالب يرمي إلي ثلاث مسائل : الأولى - استغلال أموال أمته في البلاد المستعمرة ؛ فإذا كان الممول يستطيع أن يستغل ماله في بلده لثلاثين في المائة مثلا ، وفي البلاد المستمرة لأربعين في المائة وجهها إلى هذه البلاد بحكم قوانين الاقتصاد . والثانية - استغلال المواد الخامة في الأقطار المستعمرة كالقطن والحديد والحبوب ونحو ذلك ، مما خلت بلاد المستعمر منها أو قلت فيها . والثالثة - تصريف المستعمر بضائعة في البلاد المستعمرة ؛ وذلك بصناعة المواد الخامة ثم ترويجها.
هذه هي أهم ما يرمي إليه المستعمر . وليس الاستعمار في ذاته شيئا محبوبا ، لما يلاقيه المستعمر من المتاعب ، ولكراهية المستعمر طبيعيا للاستعمار .
ثم تأتي السياسة بعد ذلك فتمهد الطريق لتحقيق هذه المطالب ، فالجنود التى يرسلها المستعمرون إلى البلاد
المستعمرة إنما هي لحماية هذه الأغراض من الثورات التي تقوم في البلاد ، أو صدا لطموح أمة أخرى تحل محلها .
ولتحقيق هذه الأغراض تتخذ الأمة المستعمرة وسائل كثيرة لتحقيقها : منها إضعاف روح المستعمر حتى لا يفهم فيطالب بالاستقلال ، وقد يعتمد في ذلك على تفريق الأمة بالأحزاب وإيقاع الخلاف بينها ، أو على إفساد أخلاقها بكثرة السكرات ، واستهوائهم بالفتيات الجميلات اللائي يخدمن الاستعمار ونحو ذلك . ومنها إضعاف لغة البلاد وتقوية لغتها هي ، علما منها بأن الناس يميلون إلى القوم الذين يتكلم المستعمرون لغتهم ، وقد يستهوون المستعمرين بإنشاء مدارس لهم نموذجية ، حتى يوهموا المواطنين بأن منهجهم خير من مناهج أهل البلاد ، وحتى يشجعوا أهل البلاد بالإقبال عليها . ومنها اختيار الوظائف لمن يثقون بتأييدهم ، والعمل لمصلحتهم ، ومقاومة الوطنيين والزعماء ، وبث الدسائس لسقوطهم في نظر أمتهم ورميهم بالخيانة . ومنها تقوية الزراعة وتوجيه الناس إليها حتى لا ينافسوهم في صناعاتهم ، ويفهمونهم بأن بلادهم زراعية لا صناعية ، واجتهادهم في
فرض ضرائب كبيرة على المنتجات الوطنية ، حتى تغلو أسعارها فتتسع التجارة الأجنبية ، إلى غير ذلك من وسائل لا تحصى . وأهم عدو لهم في ذلك ، الإسلام والمسلمون ، لا اليهود ولا الوثنيون ، لأنهم يعتقدون أن الإسلام يدعو إلى أن تكون بلاد المسلمين لهم لا لغيرهم ، ويفرض عليهم المقاومة ما أمكنهم ، ولا يصح أن يفرطوا في أى بلد يدخل في نطاق دار الإسلام ؛ ولذلك قال أحد الزعماء الفرنسيين : يجب أن نحارب اللغة العربية لأنها وسيلة لتعليم القرآن . والقرآن يأمر بالجهاد في سبيل الاستقلال .
نعم ، إن بعض الاستعمار ليس القصد منه الاستغلال ، وإنما القصد المحافظة على الطرق الحربية ، كاحتلال الإنجليز لجبل طارق ، ولو لم يكسبوا منه ماديا ، ولكن ذلك قليل بجانب ما أسلفنا من أسباب الاستعمار - إذا علمنا ذلك أمكننا أن نعرف كل داء فنعالجه بدوائه لا بشيء آخر ؛ فعلاج توظيف رءوس الأموال الأجنبية إذا هو مقاومتها بتوظيف الأموال الوطنية ، وفرض استخدام عدد معين بنسبة مئوية من المواطنين على الشركات الأجنبية .
والاجتهاد في تشجيع المنتجات الوطنية ومقاومة المواد الأجنبية .
ومن وسائل الشركات الأجنبية الماكرة ، التهرب من قوانين البلاد والتستر وراء مواطن يحتمون باسمه ، ويتهربون من الواجبات تحت ستار منه ، والأمثلة على ذلك كثيرة . ومن وسائلهم أيضا في ذلك ، استخدام ذوي النفوذ من المواطنين ليحتموا بهم ويحققوا لهم أغراضهم .
وعلاج استخدام المواد الخامة في البلاد ، هو منعها قدر الإمكان من أن تصل إلى الأجانب ، وتوسيع المصانع الوطنية التي تستخدم خامات المواطنين .
وعلاج ترويج الصناعات الأجنبية إغلاء الجمارك ، والضرائب عليها ، حتى تكون أعلان السلع الوطنية أقل من أثمان السلع الأجنبية فيقبل الناس عنها ، والاجتهاد في تحسين المصنوعات الوطنية حتى تفوق أو تقارب الصناعات الأجنبية ، وهكذا .
وإذا علمنا ذلك أيضا ، أمكننا أن نفهم سخافة مقاومة الاستعمار بكسر فوانيس الشوارع أو إحراق الترام أو إضراب المدارس ، إلا أن يكون ذلك علامة على بغض الاستعمار وإظهارا للعواطف الثاثرة أو نحو ذلك ؟ فهذا علاج لا يقابل الداء .
والعلاج الصحيح الذي ذكرنا يحتاج إلى ثقافة في أساليب الاستعمار واسعة ، وتنبيه شديد للوعى القومي ، حتى يدركوا صحة موقفهم ، ويدركوا كيف يعملون لمقاومة خصومهم ؛ ومتى أدرك المستعمر أنه لا يستطيع تحقيق أغراضه لم يعد يري أن للاستعمار فائدة فانسحب بسلام ؛ وهذه كانت طريقة غاندي وأمثاله التى ترتب عليها انسحاب الإنجليز من الهند . والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
هذه نظرة الذوق الفطري للاستعمار ، ولا بد أن يكون عند المختصين في الاقتصاد والسياسة ما هو أدق من ذلك وأوسع . والله أعلم .

