ما زال القلم ينازعني في التعقيب على نبأ طالعته في الصحف قبل أشهر، وما برحت أطامن نفاره وأرده عن جماحه حتى غلبني على أمري فكان هذا المقال!
وقصارى هذا النبأ أن (جمل المحمل) نفق، وليس في هذا شيء، فما كان نفوق حيوان ليسترعي الأذهان، ولكن بعض الصحف أبرز هذا الخبر في إطار مبالغة في الاهتمام به ولفت النظر إليه، إذن فليس الأمر أمر حيوان نفق وصار جيفة من الجيف، فلا بد أن للخبر وجهاً آخر يعادل هذا الوجوم المرتسم على كثير من الوجوه التي طالعها الخبر
إن الذين قرءوا نبأ نفوق جمل المحمل، عرفوا من قبل أن (طلعة المحمل) قد ألغيت منذ هذا العام، وأن أهل القاهرة سوف يحرمون هذه (البدعة) التي جرت بها التقاليد منذ عهد (أم خليل المعتصمية) المشهورة في التاريخ باسم شجرة الدر، ومن ثم كان الحزن وكان الوجوم، وكان التساؤل: أي خير فات الأمة من بقاء المحمل؟ ومتى نهى الدين عن المحمل؟ وهل من الخير أن نقحم الدين في كل شأن من الشئون؟
وقبل عام وبعض عام كانت المعركة محتومة بيننا وبين الطغاة المحتلين على ضفاف القناة، وكنا نعبئ قوانا ونستنهض الهمم والعزائم، وإذا بشيخ جليل القدر كبير المكانة، يطلع علينا بمقال ضاف في إحدى الصحف بأن تقبيل زمام جمل المحمل حرام، وأن الدورات السبع لجمل المحمل لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وقرأنا هذا الكلام ونحن في قتام المعركة وقبل أن ينجلي عن الملحمة غبارها، نهد للشيخ
الوقور من يقول له إن تقبيل زمام الجمل لا يعني إلا تمجيد المعنى الذي يعنيه سفر المحمل إلى البقاع القدسية وأن التقليد القائم على دورات المحمل السبع لا يعني إلا التمثل بالأشواط السبعة حول الكعبة المشرفة أو بالأشواط السبعة بين الصفا والمروة.
وكنت أحب أن أرد على الشيخ، وكانت النفس في سورة جامحة، ذلك أن إثارة ذلك الموضوع في هاتيك الأيام لم يكن يقصد به وجه الله، وإنما كان يراد به صرف الأذهان عن مجاهدة الأعداء.
واليوم أرجو أن أستميح القارئ عذراً إذا تحدثت في هذا الموضوع، فلقد كثر الحديث في هذه الأيام حول ولاية علماء الدين في الإسلام وتعرض الأزهر الشريف لمحنة سوف يخرج مها إن شاء الله منصوراً مبجلاً من أهله ومن غير أهله.
ولقد قدمنا الحديث بجمل المحمل، ولا نريد أن نتزيد أو نحمل الألفاظ أكثر من معانيها؛ وإنا نقولها صريحة إن (المحمل) ليس من الدين، ولم يكن ثمة (محمل) في عهد رسول الله ولا في عهود الخلفاء الراشدين ولا ملوك الأمويين ولا العباسيين، وإنما ابتدع المحمل في نهاية الدولة الأيوبية، ليكون هو دجالا لشجرة الدر، ثم جرى به العرف والتقليد من ذلك العصر، فكانت قافلة تعبر القاهرة المعزية إلى السويس ثم تجتاز صحراء سيناء، والركب خلال ذلك يهللون ويكبرون، فتتجاوب الاسداء بكلمة الله بين تلك المهامة البيد والتناف الفيح حتى يبلغ الركب البقاع المقدسة التي ضمت بيت الله الرحام وقبر الرسول الاعظم عليه صلوات الله ومقابر الصحابة والتابعين عليهم رضوان من الله اكبر
فأى جلال هذا الجلال , وأى جمال هذا الجمال !
ابعد قرابة ألف عام يطلع علينا من يزعم أن المحمل "بدعة " فى حين أن البدعة على ما فهمها الفقهاء " كل
شيء ليس له أصل في الدين) وليس المحمل بمندرج تحت هذه البدعة، وإنما هو مظاهرة دينية فيها فن وفيها جمال، ولقد بصرت بعيني مواكب المحمل ورأيت الألوف من المشاهدين تموج عيونهم بالدمع، وهم يودعون ركب المحمل ويقبلون الكسوة وهي في طريقها إلى الكعبة أو إلى قبر الرسول، لقد رأيت الناس يذرفون الدمع الهتون شوقاً إلى البقاع المقدسة ويعاهدون الله أن يزوروها إذا مد لهم في الأجل، فإذا لم يكن للمحمل إلا هذه الفائدة، لكفاه فخراً، وهل بعد التشويق لزيارة البيت الحرام زيادة لمستزيد؟
وإني لأذكر الساعة أن ركب المحمل منع من السفر من مصر إلى الحجاز أحد عشر عاماً، ثم أذن له بالسفر عام ١٩٣٧ وتواكب الناس لرؤيته من كل فج حتى عمرت القاهرة واكتظت جنباتها، وقيل إن عدد المشاهدين بلغ ألف ألف، وأذاع المسئولون عن النظام يومئذ أنه رغم هذا الجمع الهائل لم تحدث سرقة واحدة ولا حادث مخل بالآداب، أبعد هذا يقال إن المحمل (بدعة) لأنه لم يكن في عهد النبي ولا في عهد الخلفاء الراشدين!
لقد كان المحمل ضرباً من (الفن) قضينا عليه بأيدينا ليعلم غير أهل الآلام - بغير حق - أن الإسلام عدو للفن والتقاليد الصالحة، ولأننا صرنا إلى الحال من الفوضى الدينية لا يرضى عنها عدو ولا نصير، ولسنا نعرف والله ماذا يضير الإسلام في قواعده الخمس التي لا يأتيها الباطل إذا بقيت التقاليد التي لا تمس الجوهر والتي فيها الجمال الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى (ولكم فيها جمال) .
إن رجال الأديان الأخرى فهموا الدين على حقيقته الطبيعية، فجعلوا منه فناً وتزاويق وموسيقى تغري الناس باعتناقه ونحن في القرن العشرين نريد أن نجعل من الإسلام ديناً تجريدياً لا يفهمه إلا الفلاسفة، وهيهات أن
يكون الناس كلهم فلاسفة
فإذا رخم المؤذن صوته بالآذان وحلاه، قلنا هذه بدعة، وينبغي أن يكون الآذان خالياً من الطلاوة والحلاوة وأن يؤديه صاحبه بجلافة وكأنما يفجر قنبلة أو يلقى حجراً، وكأنما غاب عنا أن لحلاوة الصوت مدخلاً للآذان ومعبرا إلى الإيمان، ولقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري يرتل القرآن بصوت حنان فأعجبه الصوت الندي وأثنى على صاحبه بقوله (كأنما أوتيت مزماراً من مزامير داود) وهش أبو موسى لهذا الثناء وقال (والله يا رسول الله لو كنت أعلم أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيراً) أي لزاد في حلاوة الصوت وجمال الترتيل.
فهذا خاتم المرسلين قد قدر الفن وشجع أهل الفن وجئنا من بعده ندعو إلى غير ما يدعو، وصرنا نرمي كل ذي رأي بالابتداع أو الوثنية.
ولقد انصرف كثير من الوعاظ عندنا إلى التنفير من كل فن وغاب عنهم أن الإسلام مجد الفنون ودعا إلى الأخذ بها، وإنما نهى عن الشرك بالله، ودعا إلى إقامة دعائم الدين، وليس من الذين أن يقصر كثير من الشيوخ حديثهم حول الوسيلة والشفاعة، والقول بأن الصلاة على النبي بعد الآذان بدعة وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة بدعة.
وهنا أقف قليلاً لأرى في صيغة الصلاة على النبي بعد الأذان ضرباً جميلاً من فن النغم، وليس في المر بدعة وإنما هو شيء طبيعي، وليس لدي الساعة مرجع تاريخي يسعفني لأذكر الميقات الحقيقي لدخول هذه الصيغة المحببة على الآذان، وإن كنت أستبعد أنها وقعت في العهد الأيوبي كما ذكر بعض المؤرخين، وإنما أرجح أنها جاءت لعهد عمر بن عبد العزيز الذي استبعد سباب أهل البيت بعد الآذان.
كذلك أبعدنا الإسلام عن كل فن حين قلنا بهدم القبور والانصراف عن زيارة مقابر الأولياء، وزعمنا أن كل أولئك (بدعة) بل هو ضرب من الوثنية، في حين أننا نقرأ في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن وحيده إبراهيم سوى عليه بيده الشريفة ورش الماء وأعلم عليه بعلامة وقال (إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي) .
ولما طاف عمر بن الخطاب بالكعبة في أول خلافته استلم الحجر الأسود وقال (اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) وورد في بعض المراجع أن ابن عباس شوهد يوماً - وهو في طريقه إلى الحج - راكباً ناقة يدور بها حول شجرة، ولما قيل له في ذلك أجاب بأنه رأى مرة ناقة الرسول عليه السلام تطوف بهذه الشجرة فأراد أن يتبرك بآثار ناقة الرسول.
وفي القرآن الكريم ما يدل على التبرك بآثار الصالحين في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً) (فلما ان جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا)
ونمضي في القول بأنه فضلاً عن التبرك بآثار الصالحين فإن في إقامة هذه المقابر ضرباً من الفن، لأن الأضرحة تشيد على أنماط خاصة وزخرفة خاصة تأخذ العين وتستهوي القلب وتدفع النفس إلى التذكرة، والاستشهاد بالحديث الشريف(لا يشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) لا ينفي على الإطلاق زيارة مساجد الأولياء؛ فكما أن المرء يشد رحاله لزيارة صديق أو قريب لا عليه أن يسافر ليصلي الجمعة في مسجد الإمام الحسين أو في مسجد السيد البدوي مثلاً.
ويجرنا هذا إلى الحديث عن الإيمان التجريدي مرة
اخرى ذلك الايمان الذي لا يعرفه حق المعرفه لا خاصة الخاصة ممن اصطفى الله ، ولسنا نطالب عامة الناس بمثل هذ النوع السامى من الايمان، فالناس يخاطبون على قدر عقولهم، وقد سال النبي مرة جارية اعجمية "اين الله" فاشارت الى السماء فعدها الرسول الكريم مسلمة
ولقد كان الخليفة المأمون رجلا فيلسوفا يؤمن بالله إيمانا مجردا , بيد انه رزى " فى أخريات أيامه بصحبة القاضى احمد بن أبي دؤاد فزن له ان يجعل رعاياهكلهم على شاكلته اى من المعتزلة , فاوقعهم فى النازلة الكبرى التي سودت تاريخه ولطخته , ونعني بها محنة خلق القرآن , ومات المامون , وبلغت المحنة أقصى حدتها فى عهد الخليفة المعتصم وكان رجلا فظا لا يعرف من الدين إلا اولياته , ووقع بين برائنه الإمام العظيم أحمد بن حنبل , وأبى أن يقول بخلق القرآن , فلطمه على وجهه وأمر به فجلد حتى غشى عليه ولما جاء بعده الخليفة الوائق خفت حدة المحنة , حتى إذا تولى " المتوكل على الله " امر برفع المحنة وقال بالرجوع إلى الكتاب والسنة ؛ ولذا ذهب فى الناس قولهم " الخلفاء ثلاثة : ابو بكر فى حروب الردة , وعمر بن عبد العزيز فى رد المظالم , والمتوكل فى إحياء السنة "
ولم يكن الخليفة المتوكل فى علم سلفه المأمون ولا فى فقهه , بيد انه أدرك من خلال البشر مالم يدرك المأمون ، ذلك ان الدين سجية وفطرة وليس حكرة لأحدمن العالمين . وليس لمسلم وصاية على مسلم ما دامت قواعدالإسلام الخمس الاصيلة مرعية الجانب , وليس لإنسان أن يقحم نفسه فى دقائق الامور وتفصيلامها , ولقد ذهب العهد الذى يرمى فيه المسلم بالإلحاد أو الزيغ لأنه خالف فعل إمام من الأئمة أو تزيد أو ابتدع
وما دمنا نتحدث عن صلة الإسلام بالفن والحياة , فلا علينا ان نعرج على رجل عظيم الشأن من علماء الدين
ما زالت تعاليم تحدث الفتنة وتجعل المسلمين يخبون فيها ويضعون , ونعنى به شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ فا كبر الظن ان الرجل كان يبقى خير الأمة , وإن شذ فى بعض الأمر حتى بدعه طائفة من علماء عصره من سبعة عشر وجها , وحتى اتهمه التقى السبكي بالزيغ من ثلاثة وجود , نقول إنه كان رجلا عظيما لا شك فى ذلك . قال ما اعتقد , ولا احسبنى غاليا فى القول إذا زعمت اليوم أن عظامه تضطرب في قبرها لما أحدثت تعاليمه التي تأولها المتأولون من الفتنة والفرقة ؛ إذ قام من بعده الشوكانى وان القيم الجوزية ولم يكن لهما علمه ولافضله , فلجا فى الأمر وكفرا جماعة المسلمين . ثم تبع هذين محمد بن عبد الوهاب الذى بالغ فى تكفير المسلمين ورفع حد السيف لمحاربة المسلمين بدعوى انهم " كفار " وأسرف فى هدم الاضرخة والقباب فى نجد , منم عدا أتباعه على الأرض المقدسة فهدموا أضرحة الصحابة الأمجاد وأزالوا القباب ذات الأثر الفنى الرائع وكادوا يأتون على مسجد الرسول الأكبر لولا صرخة ارتفعت من ضمير العالم الإسلامى
نستطيع أن نقول إن هؤلاء الناس فهموا الدين فهما مجردا لا فن فيه , فهو عندهم مجرد ركوع وسجود , وزكاة وحج ويوم ومعاملات , وأن المسلم عندهم ينبغي له أن يكون اداة صماء تنفذ التعاليم المكتوبة دون تصرف ولا مرونة , ودون مجاراة لروح العصر , ودون أخذ لما يقتضيه علم الاجتماع وطبائع البشر , فإذا لم يفعل المسلم هذا فهو ملحد وأى ملحد !
ومن هنا اتهموا اتباع الطرق الصوفية بالكفر فى حين أن الطرق الصوفية كان لها فضل كبير على المسلمين في الحروب الصليبية وفى حروب المغول وفى وقعةعين جالوت بالذات , فإن العزبن عبد السلام الذى نفر المصريين للقتال لم يكن إلا شيخ طريقة . على أن هؤلاء معذورون فما
يرون ؛ فعندهم أن اتباع الطرق الصوفية إن هم إلا حواة يروضون الثعابين وياكلون الحديد ويلعبون بالنار , وغاب عنهم أن سوء استعمال الشىء ليس دليلا على فساده , وإنما الفساد أن يرمى المؤمن البرىء بالكفر , وأن يكون راميه على غير حجة أو بينة
ونخلص من هذا الحديث إلى أن الإسلام ليس دينا ودولة فحسب , كما يحلو لطائفة من جلة المؤمنين أن يقولوا ، وإنما هو دين ودنيا , وعلم وفن , بل هو مرادف للحياة وفى ذاتها , الحياة فى هذه الدار , وفى تلك الدار , وإن المتزمتين المسلمين الذين يفهمون الإسلام على أنه تعاليم كتبها فقهاء طوتهم الأجيال , هؤلاء لم يعد لهم مكان فى دنيا الإسلام , ولا فى دولة الإسلام , ولا فى دين الإسلام
