الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الخامس عشرالرجوع إلى "الرسالة"

الاشعاع

Share

كتب أخى الدكتور أحمد زكى فى مجلة الرسالة مقالا بمتعا فى الإشعاع فى " باب العلوم " تكلم فيه عن اشعاع الشمعة والنجوم والشمس والأشعاع اللاسلكى وموجات الضوء واختلافها ، فأوحت مقالته الى معانى فى الأشعاع النفسى .

ان للنفوس والعقول اشعاعات لا تقل جمالا عن اشعاعات  النجوم والكواكب، نشعر بها وقد لا نستطيع التعبير عنها،  وهى أشد غموضا وتعقدا من الاشعاع الحسي، وهى مختلفة  أكثر من الاختلافات بين أشعة الألوان من حمراء وبنفسجية  وتحت الحمراء وفوق البنفسجية وما بين ذلك، وهى مختلفة فى القوة  أشد من اختلاف المصابيح الكهربائية، فلئن كانت قوة المصباح  شمعة أو شمعتين أو ألفا أو ألفين فللنفوس قوى تختلف الى  ما لا نهاية له صغرا وضآلة، والى ما لا نهاية له عظمة وسناء

لعلك تشعر معى أنك ترى الرجل أو تحادثه أو تجالسه  أو تسمع لمحاضرته فيشع عليك نوعا من الاشعاع يخالف  الآخر قد تحسن التعبير عنه وقد لا تحسن، فهذا يشع عليك  سرورا وأريحية واطمئنانا، وهذا يشع حزنا ووجدا ورقة  وحنانا، وذاك يشع هيبة وجلالا ووقارا، وآخر يشع ضعة  وذلة وهوانا، وقد تحس من رجل بنوع من الأشعة تدركه  وتستطعمه، ولكنك لا تستطيع وصفه كما اذا أكلت كمثرى  وتذوقتها وأردت أن تصف طعمها لمن لم يذقها.

فى الناس من اذا جالسته أشع عليك نورا أضاء لك ما بين  جوانبك فأدركت نفسك، وأشع نورا على العالم الذى حولك فتبينته  وعرفت محاسنه ومساوئه، وأدركت مكانك منه، ورأيت كل شىء  حولك صافيا لينا كأنك تنظر اليه من مصباح (المصباح فى زجاجة،  الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة  لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار "

وفى الناس من يجالسك فتتلقى منه أشعة مظلمة تنقبض لها  نفسك وتظلم جوانبها وتحس بميل الى الفرار منها، وتتنفس  الصعداء اذا بعدت عنها ونجوت من ظلامها وخرجت الى النور.

قديما قالوا: (ان وردة عمر أهيب من سيف الحجاج) ذلك  لأن عصا عمر معها يد عمر ومعها نفس عمر، وهى تشع  جلالا وعظمة وتخضع أمام أشعتها نفوس الجبابرة، ويحس كل  من وقعت عليه هذه الأشعة أنها صادرة من مستودع قوى  دونه المصباح الكهربائي، البالغ ما وصل اليه العلم من القوة، وأما  سيف الحجاج فمعه نفس الحجاج، وهى تشع من غير شك  قوة، ولكنها قوة على الجسم لا على الروح، قوة تخاف وتُرهب  ولكن لا تُحترم ولا تحب، أشعة عمر كانت تطاع سرا وعلنا،  وأشعة الحجاج تطاع علنا لا سرا، لذلك كفت عمر عصاه،  ولم يغن الحجاج سيفه

هذا الاشعاع هو السر فى أنك تلى عظيما فيملؤك أثرا  ويملؤك قوة، بهيئته، بنبرات صوته، بطريقة تعبيره، بنظراته،  باشاراته، بهزة رأسه، بحركة يديه، فكان فى كل عمل من  هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا  عنيفا. قد لا يحدثك طويلا، وقد لا يكون لكلامه فى الواقع  قيمة ذاتية، ولكنه يوقظ نفسك ويحيى روحك، وتبقى رنات  كلماته فى الأذن الأيام والليالي، تعمل عملها فى هدوء حينا وعنف  حينا، وأصدقك أنى لقيت عظيما من هذا النوع يوما فخرجت  من عنده مملوءا حماسة وقوة وحياة، حتى اذا بلغت الى محطة  الترام لأركبه الى مسافة بعيدة عفت الركوب لأنه يبعث  على السكون ونفسى ثائرة، والمشى فى شدة القيظ ظهر أنسب لها  وأكثر اتفاقا لما هى فيه من نشاط وقوة. اذا ذكرت الآن  كلامه لم أجده ذا قيمة، وكثير من الناس يتكلمونه ويتكلمون  خيرا منه وأسمى وأعمق، ولكن أحدا منهم ليس له هذا الاشعاع  ولا قوته وعظمته. وحدثنى من أثق به أن الأستاذ جمال الدين  الأفغانى كان يرتطن عجمة، ولم يكن فصيح اللسان ولا سلس  القول، ولكن تجلس معه فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح  وبلاغة البليغ، لانها النفس مستودع كهربائى قوى يصعق أحيانا،  ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا

والرجل العظيم، أو الكاتب الكبير، أو المؤلف القدير، يخرج  ما ينتجه كتلة من الأشعة من جنس نفسه. ألست تقرأ المقالة  أو الكتاب فيشع عليك معانى مختلفة، منها الهادئ الرزين، ومنها  القوى المتين، منها المضحك، ومنها المبكي. منها الذى يأخذ بيدك

فيحلق بك فى السماء، ومنها ما يدفعك الى الحضيض، وآية هذا  الاشعاع أنك تقرأ المقالة أو الكتاب فيبعث عندك من المعانى  ما لا تدل عليه الألفاظ، من طريق الحقيقة ولا المجاز، بل ما بين  السطور يشع كالسطور نفسها، أولست ترى مقالة الاشعاع فى  باب العلوم أَشَعَّتْ عليَّ معانى فى باب الأدب؟

ليسم هذا علماء النفس تداعى المعاني، أو ليسموه ايعازا أو اقتراحاً  أو ليسموه ما شاءوا، فليست الا اشعاعات نفسية من جنس  الاشعاعات التى يشعها الأشخاص فى كلامهم وحديثهم وحركاتهم  فتلقف منها من المعانى ما يقرب وما يبعد. وفى الأماكن كذلك  أشعة مختلفة، فشارع عماد اليدن يشع رغبة فى اللهو وميلا الى مسرات  الحياة، والمساجد تشع ميلا للعبادة وتمجيدا لله، والبحر الجليل  يشع عظمة وجلالا، ونجوم السماء تشع حسنا وجمالا، والبنك  يشع حبا فى المال، والجامعة تشع حباً فى العلم، بل وكل بلد يشع  نوعا من الأخلاق، والا فلم يذهب المصرى الى انجلترا وقد  اعتاد الفوضى فى حياته ومواعيده وصحوة ونومه، فما هو الا  أن يطأ أرضها حتى ينقلب خلقا آخر دقيقا فى نظامه، دقيقا فى  معيشته؟ ويذهب المصرى الى ألمانيا فيكون فى بيئة علمية  فيشرب من مشربهم ويسير سيرتهم، فاذا عاد هذا وذاك الى  مصر عادا سيرتهما الاولى، ما هو الا الجو النفسى تلقى فيه  أشعة نفسية مختلفة الاثر، مختلفة الألوان

ومن قوانين هذا الاشعاع النفسى أنه فى كثير من الاحيان  يعتمد على الفاعل والقابل معاً، واعتماده على القابل أبين فيه  من الاشعاع الحسي، فاللون الأبيض أبيض عند كل الناس،  والأحمر أحمر عند كل الناس، الا من أصيب بعمى اللون،  وليس كذلك الاشعاع النفسي، فالخطيب يخطب واشعاعه  يختلف باختلاف السامعين، والكلمة قد تهدى ضالا وقد  تضل هادياً، كما يقول المثل الانجليزى (ان الليل الذى يغمض  عين الدجاج يفتح عين الخفاش) وهذا هو السبب فى أنك  تستخف روح انسان وغيرك يستثقله، وتعجب بقول متحدث  ومن بجانبك يستسخفه، وتتفتح نفسك لكتاب وغيرك ينقبض  منه، ما هذا الا لأن الاشعاع الواحد يختلف باختلاف من وقع  عليه الشعاع، وان هناك تفاعلا قوياً بين مصدر الاشعاع  وقابله، ومن أجل هذا قد ترى لصا فى مسجد وعابدا فى حانة.

وموسى الذى رباه جبريل كافر   وموسى الذى رباه فرعون مرسل

والأرض يمطرها السحاب، فمنها جنان ناضرة، ومنها صحراء  مجدية قاحلة، والنار تضيء للسارى فيهتدى وللفراش فيحترق  لقد أثبت العلم الاشعاع اللاسلكى وأصبحنا نسمع الآن من  الراديو أصوات الموسيقى فى أوربا، وسنسمعها من أمريكا،  وسنسمعها من أنحاء العالم، ومعنى هذا أن فى جو مصر تموجات  من أوربا وأمريكا وأنحاء العالم، واذا كان هذا فى المادة فاشعاع  النفوس أبعد مدى، وأنفذ شعاعا، وأسرع سيرا. واذا كان فى  حجرتى أمواج هوائية من مناحى العالم يظهرها الراديو، فان فى  حجرتى ملايين واكثر من الملايين من اشعاعات نفسية تشع من  السماء ومن الأرض ومن النفوس البشرية، ومما لا يعلمه الا الله.  وما الفكرة تصدر عني، ولا الالهام ألهم به فلست أعرف له  مصدرا وليس يخضع لقوانين المنطق ولا نظريات الاستنتاج،  ولا الظواهر النفسية تتعاقب على فلا اعرف تعليلها من انقباض  وانبساط، وسمو وانحطاط، وكدورة وصفاء، وظلمة وضياء  الا أثر من هذا الاشعاع

ان وراء هذا العالم المادى عالما روحانيا نفسيا أسنى وأبهى،  واذا كان للأجسام والحواس جو يحيط بها قد امتلأ أشعة من  نجوم وكواكب وشموع ومصابيح، فللنفس جو يحيط بها  اشتبكت فيه أشعة نفسية لا عداد لها. واذا كان للعين أفق  يختلف باختلاف النظر قصرا وطولا، فللنفوس أفق يختلف  كذلك، فبعضها ينفذ الى ما وراء الحجب ويستمد منه ما يستخرج  العجب، وبعضها قصير المدى قريب المتناول. ولئن كانت قوانين  الاشعاع الحسى لما يستكشف منها الا قليل، فقوانين الاشعاع  النفسى أشد تعقدا وأكثر التواء غموضا، والعاكفون على  دراستها، والموفقون لاستكشاف بعضها أقل وأندر. خضع  كل الناس للاشعاع المادي، وخضع كل الناس للاشعاع النفسي،  ولكن آمن بالأول كل الناس، وما آمن بالثانى الا قليل.

هل تنبعث من عالم النفس شرارة قوية تضىء جوانب النفوس؟  وهل يبعث العالم النفسى موجة قوية تعم العالم وتهزه هزة  عنيفة فينتبه من سباته، ويهب علماؤه لتنظيم الحياة الروحية  كما نظموا الحياة المادية، ويتخصص علماء النفس لاستكشاف  قوانين الاشعاع النفسى كما استكشف الماديون قوانين الاشعاع  الحسي، ثم ينتفعون وينفعون الناس كما انتفعوا بقوانين الضوء  وما اليه، واذ ذاك يكون الناس أسعد حالا وأهدأ بالا وأكثر  اطمئنانا ؟ من يدري !!!

اشترك في نشرتنا البريدية