الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 141الرجوع إلى "الثقافة"

الاصلاح، بين اليأس والرجاء

Share

يتجدد الحديث فى كل عام عن الريف والريفيين ، ونقرأ لأعضاء البرلمان الموقرين خطبا وأحاديث ونقاشا ينم على شعورهم العميق بوجوب الاصلاح السريع لحالة الفلاح . ويتجدد مع هذا أملنا ، فننتظر النتيجة المحتومة لهذا الحديث ، ثم تمر الميزانية فى البرلمان ، وتصرف الأموال التى أقرها البرلمان فى وجوهها أو فى غير وجوهها ، وينصرم العام ، ونعود إلى الحديث والانتظار ، والأمل والخيبة .

للفلاح المصرى مشكلة ، هذا أمر مفروغ منه لا يحتاج إلى بحث أو كلام ؛ فما سمعنا أحدا يقول إن الفلاح بخير وإن حياته هنيئة ، وإن صحته على ما يرام ، وإن ثقافته الاجتماعية ومعرفته بشئون الحياة من يوم إلى يوم شئ يحسد عليه ، أو إن حظه من هذه الثقافة

يستقيم للحياة والعيش ؛ لم يقل أحد - فيما تعلم - بهذا ؛ بل الكل مجمعون على أنه ينقصه الشئ الكثير فيما يتصل بأصول العيش من جميع نواحيه .

وإنما الخلاف يقوم على وسائل العلاج وطرق الاصلاح ، وهل هذا الاصلاح بأنى عن طريق الاقتصاد أو التثقيف ؟ وهل يقوم بالتثقيف المصلح الاجتماعى أم إمام الدين ؟ وهل يناط توفر المياه الصالحة لشربه بالمهندس أم بالطبيب ؟ وهل ينتج عن ثقافته خطر على الطبقات الأخرى ؟ وهل يمكن أن تتسرب الآراء الخطرة إلى رأس الفلاح أثناء عملية التثقيف هذه ؟ وبعبارة أخرى : يختلف الناس على وسائل الاصلاح ، وليس على وجوبه ، كيف نبدأ به ، ومن يبدأه ويتعهده ويواليه ؟ وهل نبدأ بالمسائل الاقتصادية أم الثقافية أم الصحية ؟ أم نأخذ بهذه الأسباب جميعا فى وقت واحد ، وتنهض بها دفعة واحدة ؟ وهل فى طاقتنا أن نضطلع بهذا المشروع ، أم من الخير أن نقدر طاقتنا حق قدرها ونعرف حدود الامكانيات ، فنتواضع ونختار لأنفسنا غاية قريبة نستطيع الوصول إليها فى جهد قليل أو كثير ، ولكننا نصل إليها على أي حال .

لقد قيل فى مشكلة الفلاح الشئ الكثير ، فلا تخلو جريدة أو مجلة من ذكرها ، ولكل من الكتاب والمفكرين رأي خاص فى طريقة العلاج ، بحيث تعددت الطرق والآراء ، فأصبحنا حائرين فى أيها يؤدى الغرض المقصود ، وأيها ينفع فيما نرمى إليه من وجوه الفائدة ؛ وتملكنا شئ من الاضطراب طال به الزمن فانقلب إلى لون من اليأس ، نرجو أن لا يتأصل فى نفوس هذا الحبل أو الجيل المقبل فيقعدنا عن العمل .

ولا يريد كاتب هذه السطور أن يقترح حلا أو علاجا ، ذلك لأنه ليس إخصائيا فى مثل هذه الشئون ، ثم هو لا يريد أن يزيد فى بلهلة الأفكار أكثر مما هى مبلبلة

الآن ، وإنما يريد أن يدون بعض مشاهداته فى جولة بالريف فى بعض مديريات الصعيد ، وقد أتاحت له الظروف فرصة التجوال فى بعض القرى والحواضر ، ورأى وسمع ما يجعل النفس تثور فى داخل الانسان ، وما يجعل الحياة ثقيلة بغيضة إلى تلك النفس ، ويود لو ثارت نفوس المفكرين والأدباء والحكام وذوى النفوذ فى هذا البلد ، ففعلوا شيئا قويا حاسما يقلب هذه الأوضاع رأسا على عقب ، ويغير معالم الحياة فى الريف ، فلا نظن أن تغييرا مهما كان نوعه يغير هذه الحياة أكثر مما هى عليه الآن .

كانت رحلتنا فى سيارة خاصة ، وكنا صديقين متفقين فى المزاج والأهواء ، فقصدنا إلى الريف والحواضر على غير هدى وبغير برنامج موضوع ، نبيت حيث يمسى علينا المساء ، ونأكل حين نجوع ، ونصرف الوقت حيث يحلو لنا ، فنقيم أياما فى بعض البلدان ، وساعات فى بعض البلدان الأخرى ، ثم نشاهد ما يحيط بنا من مظاهر الحياة والأحياء ، ونتناقش ، فنختلف أو نتفق حيث يستدعى الأمر الاختلاف أو الاتفاق .

كنا جالسين فى مقهى بأحد بنادر المديرية ، وإذا برجل يبتاع واحدة من فاكهة المنجة ويأ كلها حيث ابتاعها ، وإذا بطفل فى ثياب رثة مهلهلة لا تستر عورة ، ولا تحمى من برد أو من شمس ، يقف أمامه يحدق فيه لا يملك أن يسترد نظرته كأنه مسحور منوم ، أو كأن حياته مرتبطة بفم الرجل ، ثم يقذف الرجل القشرة بعد أن يكون قد اعتصر منها كل ما يستطيع اعتصاره ، فيسارع الطفل إليها ويلتقطها ويمرر لسانه عليها ، فيلحسها كما يلحس الكلب يد صاحبه ، ويظل يلحسها ويدير فيها لسانه ذات اليمين وذات اليسار ، كل هذا وهو محدق بالرجل ينتظر ما يتلو هذا .

ليس فى هذا شىء غريب ، إذ يستطيع الانسان أن

يشاهد مثله فى القاهرة مئات المرات . وإنما الغرابة فيه أن هذا الطفل يشبه ابن صديقى الجالس معى شبها كبيرا ، ولا يقوم الفرق بينهما إلا على الفرص الكثيرة التى أتيحت لابنه ، والحرمان الشديد الذى انتاب هذا الطفل حتى أصبح لا يجد ما يتبلغ به أو يستر به عورته .

قلت لصديقى : ما الفرق بين هذا الطفل وولدك ؟ قال : لا فرق على الإطلاق سوى أنى لظرف من الظروف تركت قريتى التى ولدت فيها واستوطنت القاهرة وأعطيت لى فرصة التعلم فتعلمت وأصبحت أتكسب ما يسد جميع احتياجات ابنى المعقولة ، فأستطيع أن أطعمه وأكسوه ، وأدخله ما أشاء من دور التعليم فى القاهرة . وأغلب الظن أنى لو بقيت فى قريتى للآن لأصبح ابنى يهيم على وجهه فى الشوارع والطرقات يلتقط فضلات الأكل مما يرميه الناس فى الشارع .

ثم ذهبنا إلى عاصمة المديرية ، وإذا بها من أجمل عواصم الصعيد ، شوارعها متسعة نظيفة مرصوفة ، يتوافر فيها النور والماء ، تظللها الأشجار المبثوثة فيها ، فأعجبنا بها واسترحنا إليها ، وطاب لنا العيش فيها . فيها نزل جميل تتوافر فيه جميع وسائل الراحة لأمثالنا ، يكاد الانسان لفرط المتعة والراحة أن ينسى مشاكل الحياة والعيش ؛ ولكن بالله كيف ينسى هذه المشاكل ، وفى كل دقيقة يمر به من يذكره بها ؟ فما يكاد الإنسان يجلس إلى مقهى لتناول قدح من القهوة حتى مر عليه طابور من الناس أطفالا ونساء ورجالا ، صغارا و كبارا ، يستجدونه وهو يدرى ما يفعل بهم ، فالعطاء لا يغنى ولا يحل مشكلة واحدة من مشاكلهم الكثيرة .

وبالبلدة ناد كبير دعينا لتناول الشاى فيه فذهبنا ، يقع هذا النادى على النيل ، وبه حديقة فسيحة الأرجاء ، صففت فيه الموائد عليها أغطية نظيفة جميلة تدل على الذوق

الحسن ، وحولها مقاعد مريحة يجلس فيها الانسان ، ويكره أن يتحرك لفرط الراحة التى يستشعرها من الجلوس عليها ، تحيط بهذه الحديقة وتتخللها الاشجار الكبيرة الوارفة ، وينفر من أرضها ماء فراح يسيل على جوانب الحوض ، فيروى النبات والأزهار والأشجار ، له مبنى كبير مؤثث بخير الأثاث ، تقوم على خدمته طائفة كبيرة - من العمال والموظفين ، ويشترك فيه كبار الموظفين وأعيان البلدة ، يدفع كل منهم ثلاثين قرشا فى الشهر ، ثم يستمتع بكل هذا .

ومجموع المحصل من الأعيان وكبار الموظفين لا يكفى بطبيعة الحال لادارة هذه المنشأة العظيمة ، فسألت : من أين لهم المال اللازم لادارة هذا النادى ؟

فقيل لى : يدفع مجلس المديرية لهذا النادى إعانة سنوية .    قلت : وهذه بالطبع تجنى من الفلاح ؟    قال : ويدفع المجلس البلد إعانة أيضا ، ويقدم لنا النور والماء مجانا .

قلت : وهذه يدفعها العامل المسكين فى المدينة .     قال : وتدفع لنا اللجنة الأهلية مبلغا سنويا .     قلت : وهذا أيضا يؤخذ من أولئك الذين هم فى أشد الحاجة إلى المعاونة .

وبعبارة أخرى يلجأ أعيان المديرية وكبار الموظفين فيها إلى العامل الذى لا يتكسب اكثر من خمسة قروش في اليوم ، والفلاح الذي لا يكسب هذا المبلغ أو نصفه - حتى ينشئوا لهم ناديا ويؤثثوه بخير الأثاث ، ويعدوه أحسن إعداد ، فيستمتعون بكل هذا ، أليس من العدل والرحمة أيضا أن تترك هذه الطبقات تقارف العيش ، ويتكفل الأعيان والموظفون بما يصرفونه على راحتهم واستمتاعهم ، أليس هذا هو الوضع الصحيح للأشياء ؟

قال : هل أنت شيوعى ؟ قلت : حاشا ! أشكرك على الشاى ، والسلام عليكم .

ثم ذهبنا إلى قرية تشبه الغالبية العظمى من القرى فى مصر ، ودخلنا بعض بيوتها ، وتسميها بيوتا تجاوزا منا ، إذ أن كلا منها لا يزيد على حجرة واحدة لا تزيد مساحتها على أربعة أمتار مربعة ، فيها كل ما يملك الفلاح من زاد وماء وملبس ، ينام فيها ويأوى ما يملكه من حى وجماد .

قال لى صديقى : هل سمعت ما أذيع فى الراديو ؟     قلت : وما هذا ؟     قال : سمعت أن أحد الناس يقترح حلا يدعوه وافيا لمشكلة المهاجرة ، وهو أن كل فلاح يخلى حجرة من منزله لعائلة من المدينة ، ويعدها لإيواء تلك العائلة عندما يتطلب الأمر المهاجرة .

فدعوت فلاحا وقلت له : يا صديقى ؛ يقترحون عليك أن تخلى حجرة من منزلك لإيواء المهاجرين من القاهرة والمدن الكبيرة التى تنكب فى هذه الحرب .

فقال : أهلا وسهلا ! يتفضلوا وأنا آخذ زوجتى وأنام فى الأذرة .

الفلاحون راضون بهذه الهجرة ، فعلى مذيع هذا الحديث أن يذهب إلى القرى لاعداد الأمكنة اللازمة . وأغلب الظن أنه سيضطر لإعداد الأمكنة للمهاجرين وللفلاحين على السواء ، إذ أن الطائفتين فى أشد الحاجة إلى أمكنة لإيوائهم .

من الظواهر الغريبة التى شاهدناها فى هذه الرحلة أن معظم الأبقية المهمة الفخمة فى البنادر والعواصم هى ملك للحكومة ؛ فانك تستطيع أن تحكم لأول نظرة أيها تملكه الحكومة وأيها يملكه الاهالى ، فالفرق بينهما شاسع ، ويدل على أنه لا تناسب بين غنى الحكومة وفقر الشعب ، ونظن أن هذه ظاهرة لا تدل بحال على أن النظام الاقتصادى عندنا سليم ؛ وإنك لتدهش إذ ترى قصور وزارات الصحة والعدل والداخلية والمالية إلى آخره ،

فهى جميعا فى أحسن المواقع ومبنية على أحدث طراز ، مما يجعل التناسب معدوما بينها وبين ما يملكه الأهالى من المبانى .

الحكومة فى المراكز والعواصم بعيدة عن الشعب ، فهى فى متسع من العيش ، وهو فى ضنك شديد ؛ هى تبنى القصور وتؤثثها بخير الرياش ، وهو لا يستطيع أن يجاريها فى هذا ، وإنما يدفع لها الضرائب وفيرة غزيرة حتى تزيد فى الفروق بينها وبينه .

أذكر أنى رأيت مستشفى فى قرية من القرى لا أظن أنى رأيت أجمل منه أو أروع ، وقد كان ما صرف عليه يكفى لعشرة مستشفيات تتناسب فى بنائها وأثاثها مع

حياة الفلاحين وأهل البنادر . لا أدرى ما الحكمة فى هذا البناء الذى كان يصح أن يكون مبنى صالحا لإحدى الكليات فى أمريكا أو انكلترا أو ألمانيا ! ولكن ما قدر قد كان ، وقدر أن يكون هذا القصر مستشفى لطائفة من الناس تحتاج إلى التدقيق فى صرف كل قرش ، لأنها فقيرة معدمة لا تحتمل مواردها مثل هذا البذخ .

إنى أكره أن أعود لمثل هذه الرحلة ، إنى أكره أن أرى ما رأيت ، فمثل هذه المشاهد والمظاهر تكاد تولد اليأس فى نفس كل من يدعو إلى إصلاح أو يؤمن به .

اشترك في نشرتنا البريدية