يقول صاحب كتاب الموازنة (الآمدى) عن البحترى : " إنه أعرابى الشعر مطبوع ، وعلى مذهب الأوائل ، ما فارق عمود الشعر المعروف ، وكان يتجنب التعقيد ، ومستكره الألفاظ ووحشى الكلام . . . "
وإننى لأجد فى هذه الكلمة على إيجازها تحديدا لعبقرية البحترى فى الشعر تدل على نظرة قديمة صائبة ؛ فليس للبحترى موهبة الإبداع والخلق ، ولم يكن للبحترى مذهب مستقل فى التنقيب عن المعانى ، ولا منهج خاص فى الأسلوب ؛ وإنما مذهبه فى ذلك مذهب الأوائل ، لا يفارق عمود الشعر المعروف ، أو قل إنه يتبع أسلوبا تقليديا معروفا قبله .
على أن الحركة الفكرية فى عصره وما قبل عصره كانت على طغيان وامتداد . واعجب فى ذلك اطالب بتخرج على شاعر كأبى تمام يتصيد المعاني والافكار تصيدا ، ثم يأتى أن يجارى أستاذه فى هذه الناحية ! فكان البحترى يسمع بهذه الحركة ، ويتطلع إليها عن كثب ، ويلمسها فى شعر استاذه ، وفى شعر خصمه " ابن الروبى " ولكنه لا يمد يده ليغترف منها ، ولا يرد إليها ليصدر عنها . فما له ولهذه المعانى العقلية ، وهذه الماحكات المنطقية ؟ ولذلك نراه بشغف بمجرد الصناعة الشعرية ، ينحت ويصقل ، ويوشى ويبهرج ، حتى يملك - على حد قول ابن رشيق ــــ امامة الصناعة الشعرية . . . وهذه الصناعة يبعث التمرين والممارسة على تجويدها . أما خلق الجديد فلم يرسل نفسه وراءه ، ولم يجهد العقل فى استخراجه . وفى هذا كان كالطائر سمت منه جانحة إلى السماء ، وهوت به أخرى إلى
التراب . فكان فى صناعته محلقا ، وكان فى معانيه مكررا للقديم يحاول صقل القديم بفنه حتى يعيده براقا كالجديد . وهيهات أن ترفع الصناعة وحدها الشاعر إلى قمة الشعر !
ولكن ألم تكن هناك عوامل مختلفة وجهت البحترى هذا التوجه ؟
ولا بد أن يكون لهذه العوامل ـــــ التى سبقت اجتماعه مع أبى تمام ــــ تأثير كبير فاق كل تأثير . وإليها يعود هذا الاتجاه فان نشأة البحترى فى بادية منبج تلك النشأة الطبيعية السليمة من الحضارة المركبة ، طبعت فى روحه ميلا عنيفا إلي البساطة والالتصاق بالحياة على بساطتها ، وتناول مسائلها من الناحية السهلة . ولعل هذه النشأة أثرت في كيانه ذاته ، حيث لم يستطع أن يتجرد من ألوان تلك الحياة البدوية في مجالس الخلفاء أنفسهم ! . . . وهكذا بقى عقله عقل البسيط أمام الأشياء . يفر بعقله من الأفكار المعقدة ، وتضيق روحه بالمعاني البعيدة ؛ فكان يتطلع إلى الحركة الفكرية ، ولايرجع منها إلا بعقله البسيط ؛ كما كان ينظر إلى حضارة بغداد ومشارفها وقصورها ، ولا يرتد طرفه عنها إلا إلى تلك البادية التى نشأ فيها وحن إليها !
هذا ما يمكن به تعليل هذه العوامل ، وربما لم يصادف عقل البحترى إلا ما كان يلائم هذا العقل ، لأنه ليس كل عقل بأهل لاكتساب الحركات الفكرية والاندماج معها . . ومن كانت هذه النشأة البدوية نشأنه كانت ثقافته الفكرية ضئيلة محدودة لا تتسع لمثل هذا التيار الجارف من صوب الأفكار التى كانت تتدفق من الأمم على الأمة العربية ؛
- ١٧١٦ -
ولهذا كله وقفت ثقافة البحتري عند قدر معلوم ، ولم تكن عنيفة قوية الهضم كثافة أبى تمام أو ابن الروبي . فاجترأ صاحبها بتناول المعاني القديمة والأغراض المتداركة ، يجري فيها صناعته وشاعريته ، ويحيك لها البرود المنمنمة من رائع الكلام ، يحسبها الرائي جديدة النسج وما هو إلا الصقل والتهذيب .
ولكن أتقول إن البحتري لم يصرفه عن مسايرته الحركة الفكرية إلا ضآلة ثقافته ؟ وهو الذي يقول ردا على لأئم له :
كلفتمونا حدود منطقكم
في الشعر يكفي عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بال
منطق ، ما نوعه ؟ وما سببه ؟
والشعر لمح تكفي إشارته
وليس بالهذر طولت خطبه
ولعل هذه الآبيات تفسر لنا ناحية واسعة من نواحي عصره ، فهو يشكو من أن الشعر أصبح تفكيرا منطقيا ، ودليلا عقليا ؛ وحق له أن يشكو من ذلك ، لأن الشعر لم يخلق ليكون وعاء من أوعية المنطق أو البرهان . ولسنا هنا في معرض الكلام عمن يعرض بهم الشاعر ! ومن هذه الناحية نستطيع الجهر بالقول : إن فضل البحتري على الشعر أنه أطلق الشعر من قيود المنطق التى أثقلته ، وفتح له الأبواب المغلقة إلي الجو الفسيح الذي لا يترعرع الشعر إلا فيه . فسهل الرجل ما تعقد ، ووضح ما أبهم ، وجري في صناعته كالماء ، وخف كالهواء .
وجد أن الشعر لمح الشعور والخيال ، فكيف ينقله بهذه المعاني المنطقية المبهمة ؟ وماله يقص من الشعر هذا الجناح الذي لا يطير إلا به ؟ فعاد إلي الخيال لا يحلق إلا بجناحيه ، وعاد إلي المواضيع التي يتسع فيها مجال الشعر
كالوصف وغيره . فحلق ما شاء أن يحلق ، ونمق ونسق ما شاء أن ينمق وينسق . يحفظ الغريب من الألفاظ لا ليستعمله ، وإنما ليعرفه ويهمله . ويدرك مواضع الغموض فيتجنبها . ويقبل علي المعاني الواضحة السهلة ، لا يركب إليها إلا المراكب السهلة . وقد حمله تخوفه من المعاني المنطقية على أن يتجنب كل ما يمت إلي المنطق ، فجاء شعره تصويرا ، وتصويره خيالا ، وخياله رقيقا يكاد يشف عما تحته من المعاني النحيفة .
ولكني أدركت في شعر البحتري شيئا لم أجد أحدا أشار إليه ؛ هو ان شعر الرجل تتضاءل فيه شخصيته ، والشاعر العبقري من لا يستطيع ان يتنازل عن شخصيته ؛ فهو في المدح والرثاء والعتب شئ واحد لا مكان فيه للشخصية . ولعلنا نظلم المتنبي إذا طلبنا إلي البحتري ان يكون له نصيب من هذه الشخصية ، لأن المتني هو الشاعر الفرد الذي كان يحمل شعره شخصيته كيفما مال . ولعل للقدماء شأنا لمحو الشخصية عندهم ، لأنهم يريدون من الشاعر ان يفي في صفات ممدوحه مثلا عند موضع المدح . وأكثر ما تدل هذه النظرة على صفات الشاعر المقلد ، لا صفات الشاعر المبدع ؛ لأن المبدع يحمل روحه كيفما اتجه ، كما يحمل جسده ظله أمامه أو خلفه .
ومن الناجع في مثل هذا الموضع أن تستشهد بكلمة للآمدي يجعلها خاتمة كما جعلنا أختها فاتحة . قالها للموازنة بين صاحبنا وأبي تمام . وقديما قامت اللجاجات من أجلهما : " وإذا كنت ممن يفضل سهل الكلام وقريبه ، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة ، وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق ، فالبحتري اشعر عندك ضرورة ؛ وإن كنت تميل إلي الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغموض والفكرة ، ولا تلوي على غير ذلك ، فأبو تمام أشعر عندك لا محالة " .
- ١٧١٧ -
لقد أعطي الآمدي كل ما للاثنين من صفاتهما الخاصة وميزاتهما التي تفرق الواحد عن الآخر . . . وإذا تأملت في هذا الكلام وجدته لا يختلف عن جعل البحتري شاعرا يأخذ سهل الكلام وقريبه ويحسن السبك والعبارة ، وأبي تمام شاعر الصنعة في المعاني الغامضة والفكرة الملتوية . وفي الحق لقد خرج الاثنان في شعرهما ؛ أما أبو تمام فقد اشتط في المعاني حتي خرج بالشعر عن حدوده المعروفة ، وقص جناحيه وأمره بأن يطير ، وأثقله بحدود المنطق والعقل ؛ وما كان للشعر ان يخلق لمثل هذا . وجاء البحتري ونفض يديه من المعاني ، لانه اعتقد بأن الشعر سر من أسرار الألفاظ والتركيب ، وفي هذا تفهم ناحية من نواحيه ، وهي الناحية الموسيقية التي لم يقدر غير البحتري علي اتقانها ، ولكنه أغفل الإبتكار .
فلم يقم له وزن في هذه الناحية .
وفي الحقيقة أن الشاعر العبقري يولد ويشق الوجود ، وقد اكتملت فيه هذه النواحي ، إذا أطلت عليه من أية ناحية وجدته حاضرا عندها . ولن يكمل شاعر رق أسلوبه ورقت معانيه - أو شاعر سمت معانيه وتلجلج أسلوبه لان الشعر شئ لا يكاد يلمسه الفكر ؛ إذا لحقته إلي الأسلوب فر منك إلي المعاني والصور ، وإذا تبعته إلي المعاني والصور فر منك إلى الأسلوب ، فهو كالزئبق الرجراج ، لكن صيغ من الفن والعبقرية .
ولهذا لا نستطيع القول : إن العربية وجدت شاعرها ومثلها الأعلى في أبي تمام أو البحتري ، لأن النواحي لم تكن فيهما تامة كاملة كما يطلب الشعر العالي .
( دير الزور )
