تحسبه لفرط حلاوة اللفظ نهرا يجري ويروي ، وهو في الحقيقة والواقع نار تشوي وتكوي . لا يعرف سنا ولا جاها ولا مالا . له لمسة لعينة تجعل من الثبر ترابا ومن السهل الخصيب رمالا ، الكل عنده سواء . الأطفال والرجال والنساء . لا يرحم طفولة بضة أو شبابا غضا ، بل ينزل علي الجميع كالصاعقة منقضا . ينخس حينا ويسكت حينا ، والمريض يهدأ تارة وطورا يأن انينا - تذوب منه الأنسجة وهو لا يدري ، فلا يشعر إلا بالغصن اليافع يذبل ويذوي ، يحب الماء حبا جما ، ويأكل الطعام اكلا لما محاولا تعويض ما فقد ، أو استرداد بعض ما نفد ، وهو حائر لايدري إلي النجاة سبيلا ، حتى يهل عليه الطب الحديث فيشبع المرض طعنا وتقتيلا ، ويضمد من المريض الجرح دون ان يبرئه تماما ولو انه يكفيه مؤونة عذاب طويل ، ويساعده على اجتياز مرحلة كلها منحنيات ومتعرجات . وقانا الله جميعا شرها .
ويندر أن يبدأ مرض البول السكري في الأطفال قبل السنة الثالثة ، ولو ان هناك حالات شاذة بدأ فيها المرض في الشهور الأولى من العمر . وقد ثبت ان للوراثة علاقة وثيقة بهذا الداء الملعون ، وفي خمس وعشرين في المائة من الحالات شوهدت إصابات مماثلة في الوالدين او الأعمام أو أبناء العمومة . ولا صحة لما يقال إن البول السكري يكثر حدوثه بين الأطفال المولعين بالإفراط في أكل الحلوي ، فأروني الطفل الذي يزهد في الانغماس حتى قمة رأسه في بير ملئ بأنواع الحلوي والمسكرات . إن هذا الحب العظيم لمن عادات الطفولة السيئة ، فمجرد حدوثه ليس إلا مصادفة لابد منها في الاطفال الذين قسم لهم ان يقعوا فريسة لهذا المرض
وهجوم المرض في الأطفال خاطف نوعا ما ، إذ قلما تزيد
فترة الاستعداد والتغلغل عن شهور أو أسابيع يصبح بعدها المرض واضحا لكل ذي عينين ، فيبشعر الطفل بهزال وضعف يتعب بسرعة إثر أي مجهود ، ويلتهم الماء في شغف عجيب ، وقد يصل ما يستهلكه إلى بضع لترات في اليوم الواحد ، لا يلبث أن يطردها من جسمه بولا ، فيبول بكثرة في الليل والنهار ، فيأرق نومه ويسوء يومه ، وقد يبول علي نفسه فتبل ملابسه وفراشه ، وتنحط حالته النفسية عندما يجد نفسه عرضة لهزء وسخرية من حوله ، وهم لو علموا لالتمسوا له العذر . ولكن قد يكون بول الطفل على نفسه أول علامة من علامات المرض ، وما لم يقطن الطبيب إلي ذلك ترك الداء يسري ويتسلل في ميدان خال من كل وسائل الدفاع ، ولا يشعر الطفل بالجوع الشديد إلا في خمسة عشر في المائة من الحالات ، وفي الأغلبية الباقية تكون الشهية اقرب إلى النقصان والفقدان . أما ما بلغت النظر ويسترعي الانتباه ، فهو فقدان الوزن الذي قد يكون من السرعة بحيث يفقد الطفل من ستة إلي ثمانية أرطال في الشهر الواحد ، فلا تمضي بضعة شهور حتى يجف الجسم ولا يبقى منه إلا هيكل بشري يكسوه جلد مجعد خال تقريبا من الكساء الدهني الذي يكسب الجسم الجمال وحسن الرونق.
هذه آفة البول السكري في الأطفال . هجوم خاطف وخط دفاع واء لا يلبث أن ينهار إذا لم تصله الإمدادات في الوقت المناسب . فإذا وضع الطفل تحت إشراف طبي دقيق امكنه أن يحيا حياة طيبة قريبة من التي يتمتع بها الطفل الطبيعي ، فتختفي الأعراض التي تنغص عيشه ، ويزيد وزنه وينمو وهو قانع راض إلي سن المراهقة ثم البلوغ ، ولكنه عرضة طوال هذه السنين إلى أن تنتكس حالته لأوهي الأسباب ، وخاصة إذا تهاون أهله في نظام غذائه أو إذا اصيب بعدوي أحد الأمراض او انتابته صدمة نفسية . ومن أهم المضاعفات استرسال الطفل في غيبوبة كالتي تصيب الكبار . والواقع أن الطفل أكثر عرضة
لحصولها ؛ لذا كان حقنه بمادة الأنسولين بندا أساسيا منذ اليوم الأول من العلاج ومن كل هذا يمكننا أن ندرك أهمية التشخيص المبكر للمرض ، فيجب فحص البول لإثبات وجود المرض من عدمه في كل الأطفال الذين يميلون إلي تجرع كميات كبيرة من الماء ، والذين يبولون بكثرة في الليل والنهار وخاصة في الحالات التي يبول فيها الطفل على نفسه ، وكذلك في الأطفال الذين يلاحظ عليهم الهزال وفقدان الوزن دون سبب ظاهر ، وأكثر ما يخشاه الطبيب في الأطفال المرضى بالبول السكري حدوث إصابات نتيجة العدوي بجراثيم التقيح ، فيجب أن نعني مثلا بصحة الجلد ونظافته ، فإن دملا صغيرا قد يتحول إلي جمرة خبيثة إذا أهملنا علاجه . كذلك يجب وقايته من الأمراض بمختلف أنواعها ، كحقنه مثلا بالطعم الواقي من التيفود أو التيفوس أو الدفتريا أو الجدري ، وعزله عن المصابين حتى بالرشح البسيط لأن العدوي به قد تمتد إلي الشعب والرثة محدثة التهابا رئويا شعيبا . ويجب في الوقت نفسه أن يولد في الطفل روح الثقة بنفسه ونشعره أنه يشاطر طبيبه مسؤولية العلاج ، فنعلمه كيف يفحص بوله لاكتشاف مادة السكر ونفهمه بالرفق والحسني أن أي تراخ أو إهمال قد يؤدي إلي أوخم العواقب .
ولقد كان اكتشاف الأنسولين نعمة كبري على الطفل بصفة خاصة . فقبل ذلك كان الأطفال المصابون بالبول السكري لا يعيشون أكثر من أشهر معدودات , أما الآن فإنهم يسعدون بحياة طويلة حافلة بالنشاط ما داموا يجتازون السنتين الأوليين من العلاج بسلام ، لأن هذه الفترة بالذات تعد اشد مراحل المرض خطرا ، ويتأرجح المريض خلالها بين مد وجزر ، ولا يقربه إلي شاطئ السلامة والاستقرار إلا منطقة النجاة وهي الأنسولين ، فتزيد أو تنقص من كميته بحسب مقدار المواد النشوية والسكرية المسموح بها حتى تصل به " تدريجيا إلي مستوي من الغذاء أو المعيشة يجعله يكاد
لا يشعر بأنه يعيش على هامش الحياة . وما دمنا نقيه من الجراثيم على اختلاف أنواعها ونفهمه أن الشئ الكثير يتوقف على إخلاصه لنفسه ولطبيبه المهيمن على علاجه فلا يخدعه أو يكذب عليه أو يراوغه في تنفيذ نظام الغذاء ، فإن أمامه فرصة طيبة ليحيا حياة هانئة لا تشوبها من العوارض المزعجة اكثر مما ينتاب الطفل العادي . وقد يتمرد الطفل إذا تقدمت به السنون إلى دور المراهقة الخطر حين يداخله الغرور ويتحدي من حوله ، فيطلب ان يترك وشأنه يأكل ما يشاء بغير حساب ، فيجب أن نستعد لهذا الدور بإشراكه في تنفيذ العلاج بشكل صريح ، فنعلمه كيف يحقن نفسه بالانسولين وكيف يفحص بوله يوميا لاكتشاف وجود السكر من عدمه ، ونفهمه أن كل شئ يتوقف عليه وان اي تقصير من جهته يضيع عليه وعلى طبيبه مجهود سنين طوال .
وقد يكون من لغو القول ذكر علاقة البول السكري بغدة البنكرياس وإفرازها الداخلى الشهير بين الخاص والعام بالإنسولين ، فإن هذه العلاقة اصبحت اشهر من ان تعرف ، وفي مادة الأنسولين حياة لمرضي البول السكري ، فطونبي لمكتشفه ( بانتنج ) الذي يرقد الآن في مكانه المختار بين البررة والقديسين ، وكانت وفاته نتيجة حادث طيارة منذ سنوات قلائل ، ولم تحدث وفاته التأثير البالغ الذي كنا ننتظره لان قصف مدافع الحرب الأخيرة طغى على كل شئ آخر ، فاكتفت روحه وقنعت بصلاة رحمة هامسة اسبغها عليه كل معترف بجميله العظيم وفضله العميم.
وفي الطبعات القديمة الأولى من قصة البول السكري سرق الانسولين كل فصول الرواية ، وبدا كالبطل الفرد الذي دانت له الرقاب وخسفت بجانبه شموس كل الأبطال ، ثم برز في الطبعات الجديدة ابطال جدد اختلسوا بعض أنوار المسرح ، ولكن الأنسولين بقي كما هو رئيس فرقة موسيقية
يعزف أفرادها في نغم متزن ، والويل لجسم الإنسان إذا تنازع افرادها الأسبقية او ارسل احدهم النم نشارأ بقصد أو دون قصد ، فإن توازن الجسم يختل وتنتج عن هذا الاختلال امراض كثيرة لا يهمنا منها في هذا المجال سوى البول السكري .
ونظرة واحدة إلى الرسم المرفق بهذا تبين لنا في وضوح أفراد الفرقة ، ونعني بها مجموعة الغدد الصماء التي شغلت إفرازاتها الداخلية - أي الهورمونات - اذهان الاطباء وانصاف الاطباء من الجمهور ، فهناك الغدة النخامية الموجودة داخل الجمجمة تحت المخ مباشرة ، والغدة الدرقية وهي المعروفة بتفاحة آدم وموقعها في الرقبة ، والغدة فوق الكلى .
وهذه الغدد الثلاث تضع نفسها في كفة واحدة محاولة الحد من فعل الانسولين . فاذا زادت إفرازاتها من الحد
الطبيعي تقهقر الأنسولين . وترك وراءه صواميل مفككة لا رابط لها فيفلت الزمام من الكبد ، وهذه تفشل في اختزان المواد النشوية فترتفع نسبة السكر في الدم لدرجة تعجز معها الكليتان عن احتجازه فيندفع إلي خارج الجسم في البول حيث يسهل اكتشافه بالتحليل الكيميائي وعلي العكس من هذا إذا قل إفراز الأنسولين نتيجة مرض في غدة البنكرياس فإن إفرازات الغدد الأخري - وهي دائما في حالة تحفز - تزيل عن نفسها مركب النقص وتندفع إلي مخازن المواد النشوية في الكبد والعضلات وتطلق سراحها إلي الدورة الدموية ثم إلى مجاري البول فتضيع هباء دون أن يستفيد منها الجسم ؛ وهنا سر الضعف والهزال اللذين يتميز بهما مرض البول السكري . نستنتج من هذا أن مفعول الأنسولين يتلخص في تمكين الجسم من اختزان المواد السكرية والنشوية ثم إطلاق سراحها في بطء واتزان حسب حاجة الجسم إليها . فإذا حقن في المريض بالبول السكري ساعد علي الخيلولة دون ضياع هذه المواد السكرية عباء ، وبتوفيرها يغني الجسم عن استهلاك مواده الدهنية التى يضطر إلي اللجوء إليها ليستمد منها الحياة والنشاط ، ويزداد تبعا لهذا وزن المريض فتمتلئ منه البروز العظمية ويبدو أكثر صحة وأسلم عاقبة .
ويميل الرأي الحديث في علاج البول السكري في الأطفال والكبار إلي الإكثار من نسبة المواد السكرية والنشوية في غذاء الطفل لأنه وجد ان هذا ينبه غدة البنكرياس المريضة الضعيفة ويوقظها من سبات عميق ، وكأنه السوط بنهب به ظهر جواد متراخ كسول ومن مزايا هذه الطريقة أيضا ان المريض لا يشعر بالحرمان الذي سبيل بسببه لما به عند رؤية الغير بتمتعون بألوان الطعام الشهية ، فيتعاون مع الطبيب المعالج ولا يري نفسه مضطرا لسرقة ما حرم عليه , وقد وجد أيضا ان هذه السياسة الغذائية تقلل من تعرض المريض لتصلب الشرايين الذي
يعد من أهم مضاعفات البول السكري في الكبار . أما الأنسولين فإنه يعطي بالمقدار الذي يجعل البول خاليا من السكر في الوقت الذي يسمح فيه للمريض بنسبة معقولة من السكريات قد تصل إلي خمسة وأربعين في المائة من مجموع غذائه اليومي وهذه نعمة كبرى لمريض اعتاد في الزمان الماضي الذلة والحرمان .
ويلاحظ عند حقن الأنسولين النظافة التامة والتعقيم الكامل ، وتغيير موضع الحقن بحيث لا يحقن في المكان الواحد اكثر من مرة في الشهر . وتزاد الكمية عند إصابة المريض بأي توعك لأن حاجة الجسم إلي الأنسولين تزيد في المرض .
