"أكبر عقلية عرفها التاريخ فى كل عصوره" "سخاو"
تمهيد
قرأت فى العدد الأول من الرسالة فى مقالة (حلقة مفقودة للأستاذ أحمد أمين) ما يلى:
"وبالأمس كنت أتحدث إلى طائفة من المتعلمين عن البيرونى العالم الإسلامى الرياضى المتوفى سنة٤٤٠هـ وما كشف من نظريات رياضية وفلكية، وأن المستشرق الألمانى "سخاو" يقرر انه أكبر عقلية عرفها التاريخ فى كل عصوره وانه يدعو إلى تأليف جمعية لتمجيده وإحياء ذكره تسمى جمعية البيرونى. فحدثنى أكثرهم أنه لم يسمع بهذا الاسم ولم يصادفه فى جميع قراءاته، وهو يعرف عن ديكارت وبيكون وهيوم وجون ستوارت مل كثيراً ولكنه لا يعرف شيئا عن فلاسفة الإسلام".
عند قراءة هذه القطعة تبادر إلى ذهنى أمران: أولا روح الإنصاف عند بعض علماء الفرنج، ثانيا جهل المتعلمين منا بفلاسفة الإسلام والعرب وفحول علمائهم ... أما الأمر الأول فليس بغريب على رجل سيطرت عليه روح العلم الصحيحة التى لا تعرف غير توخى الحقيقة أن يجاهر بما يعتقد حتى ولو كان ما يجاهر به مما لا يسر أبناء وطنه، على حين أننا نجد بعض علماء الغرب قد أغار على الكتب العربية وادعى ما فيها لنفسه، وبعضهم لم يذكر المصادر العربية التى اعتمد عليها أو نقل عنها، وقد أتينا بأمثلة على ذلك وعلى أن العرب سبقوا الفرنج إلى اكتشاف بعض النظريات والأبحاث الرياضية فى مقالات نشرناها فى مجلة المقتطف الغراء.
وأما الأمر الثانى فقد يكون لدى هؤلاء المتعلمين مبرر ولا سيما أن تاريخ بعض رجالنا السالفين قد أحيط بسحب كثيفة من الإبهام، وفقد البعض الآخر منه، وكان لكسلنا وخمولنا الأثر الأكبر فى إهمال نوابغ العرب وتبيان مآثرهم فى مختلف فروع المعرفة، ولكن مما لا شك فيه أن هذا التبرير حجة علينا ومن واجبنا بل من دعائم نهضتنا القومية أن نتولى أمر الكشف عن حقيقة رجالنا ومآثرهم بأنفسنا، وبذلك (وعلى الأقل) نضع
حدا لادعاءات بعض المتعصبين وبعض المتفرنجين منا الذين يزعمون أن العرب لم يكونوا مخترعين مستنبطين، وانهم لم يكونوا الا نقلة عن غيرهم. وقد عنيت بوضع كتاب يبحث فى أثر العرب على العلوم الرياضية وما أخذه الغربيون من هذه العلوم، وتأثير ذلك فى تقدمها. والمقالة التالية مجمل من ترجمة نابغة من نوابغ العلماء المسلمين قال عنه سخاو: "انه اكبر عقلية عرفها التاريخ فى كل عصوره"
مولده ومنشؤه
هو محمد بن أحمد أبو الريحان البيرونى الخوارزمى أحد مشاهير رياضي القرن الرابع للهجرة ومن الذين جابوا الأقطار ابتغاء البحث والتنقيب. ولد أبو الريحان فى خوارزم عام ٣٦٢هـ - 973م ويقال انه اضطر أن يغادر مدينة خوارزم على أثر حادث عظيم إلى محل فى شمالها اسمه (كوركانج) وبعد مدة تركه وذهب إلى مقاطعة جرجان حيث التحق بشمس المعانى قابوس أحد أحفاد بنى زياد وملوك وشمكير (1)، ثم عاد إلى كوركانج وتمكن بدهائه أن يصبح ذا مقام عظيم لدى بنى مأمون ملوك خوارزم. وبعد أن استولى سبكتكين على جميع خوارزم ترك أبو الريحان كوركانج وذهب إلى الهند فبقى مدة طويلة (ويقال انه سافر فيها أربعين سنة) يجوب البلدان ويقوم بأبحاث علمية كان لها تأثير فى تقدم بعض العلوم. وقد استفاد البيرونى من فتوح الغزنوبين فى الهند وتمكن من القيام بأعمال جليلة؛ فانه استطاع أن يجمع معلومات صحيحة عن الهند، ويلم شتات كثير من علومها ومعارفها القديمة. وأخيرا رجع إلى غزنة ومنها إلى خوارزم ولم يعرف بالضبط تاريخ وفاته. وإنما الراجح أنه توفى سنة ٤٤٠ هجرية - ١٠٤٨ ميلادية.
تنقلاته العلمية ومآثره
كان البيرونى رياضيا وفلكيا وطبيبا ومؤرخا وجغرافيا (2). وهو أبرز شخصية بين علماء عصره الذين يفضلهم كان للعرب عصر ذهبى تقدمت فيه العلوم تقدمها المعروف. قرأ فلسفة الهند وله فيها وفى الرياضيات والفلك مؤلفات كثيرة، وهو من أوسع علماء الإسلام اطلاعا على آداب الهند وعلومها ويقال انه ضرب بسهم وافر فى الجغرافيا حتى أن أبا الفداء كان يعتمد أحياناً فى أبحاثه الجغرافية على كتب أبى الريحان. قال سيديو: إن أبا الريحان "اكتسب معلوماته المدرسية البغدادية ثم نزل بين الهنود حين
أحضره الغزنوى فأخذ يستفيد منهم الروايات الهندية المحفوظة لديهم قديمة أو حديثة، ويفيدهم استكشاف أبناء وطنه ويبثها لهم فى كل جهة مر بها، وألف لهم ملخصات من كتب هندية وعربية، وكان مشيرا وصديقا للغزنوى استعد حين أحضره بديوانه لإصلاح الغلطات الباقية فى حساب بلاد الروم والسند وما وراء النهر. وعمل قانونا جغرافيا كان أساسا لأكثر القسموغرافيات المشرقية نفذ كلامه مدة فى البلاد المشرقية ولذا استند إلى قوله سائر المشرقيين فى الفلكيات، واستمد منه أبو الفداء الجغرافيا فى جداول الأطوال والعروض وكذا أبو الحسن المراكشي ..." ويعترف (سمث) فى الجزء الأول من كتابه تاريخ الرياضيات أن البيرونى كان ألمع علماء زمانه فى الرياضيات، وان الغربيين مدينون لكتبه فى معلوماتهم عن الهند وعلومها الرياضية، والبيرونى ذو مواهب جديرة بالاعتبار، فقد كان يحسن السريانية والسنسكريتية والفارسية والعبرية عدا العربية (1)، وفى أثناء إقامته بالهند كان يعلم الفلسفة اليونانية ويتعلم هو بدوره الهندية (2)، ويقال انه كان بينه وبين ابن سينا مكاتبات فى أبحاث مختلفة ورد أكثرها فى كتب ابن سينا. وكان يكتب كتبه مختصرة منقحة بأسلوب مقنع وبراهين مادية. لكنه لم يتعد أن يوضح القوانين الحسابية بأمثلة ما (3)، قال اليبرونى عن الترقيم فى الهند: إن صور الحروف وأرقام الحساب تختلف باختلاف المحلات، وان العرب أخذوا أحسن ما عندهم (أى عند الهنود (4)) والقطعة التى قالها فى ذلك هى لدينا ولا مجال لذكرها الآن. وهو من الذين بحثوا فى تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وكان ملما بعلم المثلثات وكتبه فيه تدل على أنه عرف قانون تناسب الجيوب (5). ويقال انه وبعض معاصريه عملوا الجداول الرياضية (للجيب والظل) وقد اعتمدوا فى ذلك على جداول أبى الوفاء البوزجانى.
وعمل اليبرونى تجربة لحساب الوزن النوعى، واستعمل فى ذلك وعاء مصبه متجه إلى أسفل، ومن وزن الجسم بالهواء والماء تمكن من معرفة مقدار الماء المزاح، ومن هذا الأخير ووزن الجسم بالهواء حسب الوزن النوعى (6)، واستطاع أن يجد الوزن النوعى لثمانية عشر عنصرا ومركبا بعضها من الأحجار الكريمة، وله أيضا كتاب
فى خواص عدد كبير من العناصر والجواهر وفوائدها التجارية والطبية، وهو وابن سينا من الذين شاركوا ابن الهيثم فى رأيه القائل بأن شعاع النور يأتى من الجسم المرئى إلى العين (1):
مؤلفاته
من أشهر مؤلفات البيرونى التى وصلت إلى أيدى العلماء كتاب - الآثار الباقية عن القرون الخالية - وهذا الكتاب يبحث فيما هو الشهر واليوم والسنة عند مختلف الأمم القديمة من آشوريين ويونانيين إلى وقت البيرونى، وكذلك فى التقاويم وما أصاب ذلك من التعديل والتغيير وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسيه والعبرية والرومية والهندية والتركية تبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض، وتجد فيه أيضا جداول لملوك آشور وبابل والكلدان والقبط واليونان قبل النصرانية وبعدها، ولملوك الفرس قبل الإسلام على اختلاف طبقاتهم. ولم يقتصر الكتاب على ذلك بل بحث فى المتنبئين وأممهم من أهل الأوثان وأهل البدع فى الإسلام، وغير ذلك من الموضوعات التى يتعلق بالأقباط وأعيادهم، وأعياد النصارى على اختلاف طوائفهم ... (2)
يقول كشف الظنون عن هذا الكتاب: "إنه كتاب مفيد ألفه لشمس المعالى قابوس وبين فيه التواريخ التى تستعملها الأمم..." ومنه أيضا يستدل على أن البيرونى أول من استنبط تسطيح الكرة. وقد فصل ذلك فى كتابه المذكور الذى يدل أيضا على أن له استنباطات جليلة فى الفلك والرياضيات (3)، وقد ترجم "سخاو" E C Sackau كتاب الآثار الباقية المذكورة إلى الإنكليزية، وطبع عام 1879م فى لندن (4)، وله كتاب تاريخ الهند، وقد ترجمه أيضا سخاو إلى الإنكليزية وطبع الأصل فى لندن سنة 1887م والترجمة فيها سنة 1888م (5)، وفيه تناول البيرونى لغة أهل الهند وعاداتهم وعلومهم.
واعتمد عليه (سمث) وغيره من المؤلفين عند بحثهم فى رياضيات الهند والعرب، وله كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة - وقد ترجم إلى الإنكليزية عام 1887م -، وكتاب مقاليد علم الهيئة ما يحدث فى بسيط الكرة - وفى هذا الكتاب بحث فى (شكل الظل) اعترف فيه بان "الفضل
فى استنباط الشكل الظلى لأبى الوفاء بلا تنازع من غيره، وقد كنا نشرنا هذا فى مقالنا عن البوزجانى فى مجلة المقتطف. وجاء أبو الريحاني فى بعض كتبه على ذكر قسم من الكتب القيمة التى دخلت فى زمن العباسيين والتى كان لها اثر كبير فى تقدم علوم الفلك والرياضيات، فقد أتى ذكر على المقالتين اللتين حملهما أحد الهنود إلى بغداد فى منتصف القرن الثانى للهجرة، فالمقالة الأولى فى الرياضيات والثانية فى الفلك، وبواسطة الأولى دخلت الأرقام الهندية إلى العربية واتخذت أساسا للعدد (1)، والثانية اسمها (سدها نتا) التى عرفت فيما بعد باسم كتاب (السند هند) ترجمها إبراهيم الفزارى وكان نقلها بداءة عصر جديد فى دراسة هذا العلم عند العرب (2). مما مر نستنتج أن البيروني كتب فى تاريخ الرياضيات عند الهنود والعرب. ولولاه لكان هذا الموضوع اكثر غموضا مما هو عليه الآن، كما إن أكثر الكتب الحديثة التى تبحث فيه (فى الرياضيات عند الهنود والعرب) تعتمد فى الأغلب على كتبه كما تضح لمن يتصفح كتب تاريخ العلوم الرياضية. وله مؤلفات أخرى يربى عددها على المائة والعشرين، منها: كتاب القانون المسعودى فى الهيئة والنجوم، وقد ألفه لمسعود بن محمود الغزنوى (3) - وكتاب استيعاب الوجوه الممكنة فى صنعة الإسطرلاب - وكتاب استخراج الأوتار فى الدائرة بخواص الخط المنحنى فيها، وهو مسائل هندسية أدخل فيها طريقته التى ابتكرها فى حل بعض الأعمال - وكتاب العمل بالإسطرلاب - ومقالة التحليل والتقطيع للتعديل - وكتاب جمع الطرق السائرة فى معرفة أوتار الدائرة - وكتاب جلاء الأذهان فى زيج البتاني - وكتاب التطبيق إلى تحقيق حركة الشمس - وكتاب فى تحقيق منازل القمر - وتمهيد المستقر لتحقيق معنى الممر - وكتاب ترجمة ما فى براهم سدهانه من طرق الحساب - وكتاب كيفية رسوم الهند فى تعلم الحساب - وكتاب استشهاد باختلاف الأرصاد، وقد ألفه البيرونى لأن أهل الرصد عجزوا عن ضبط أجزاء الدائرة العظمى بأجزاء الدائرة الصغرى - وكتاب الصيدلة فى الطب "استقصى فيه معرفة ماهيات الأدوية ومعرفة أسمائها واختلاف آراء المتقدمين فيها وما تكلم كل واحد من الأطباء وغيرهم فيه، وقد رتبه على حروف المعجم" (1) - وكتاب الإرشاد فى أحكام النجوم - وكتاب فى إفراد المقال فى أمر
الظلام - وكتاب تكميل زيج حبش بالعلل وتهذيب أعماله من الزلل - وكتاب الجماهر فى معرفة الجواهر - ومقالة فى نقل ضواحى الشكل القطاع إلى ما يغنى عنه - وكتاب تكميل صناعة التسطيح وله كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم، وهذا الكتاب لم يطبع بعد ولابد ان تكون بعض نسخ خطية منه موجودة فى المكاتب الأوربية والمصرية، وهو لدينا فى نسخة خطية نسخت منذ تسعين سنة عن نسخة قديمة، وهو يبحث فى الهندسة والحساب والعدد ثم هيئة العالم ثم أحكام النجوم وذلك "لأن الإنسان لا يستحق سمة التنجيم الا باستيفاء هذه الفنون الأربعة" (1)، وقد ألفه على طريقة السؤال والجواب ولغته سهلة سلسلة، ونترك التفصيل عنه الآن لكتابنا الذى نؤلفه.
نابلس - فلسطين

