من أقوى الدلائل على حيوية أدب أمة وصدق ترجمته عن المشاعر الإنسانية احتفاء الأمم الأخرى به ، وعنايتها بدرسه ، وتأثرها بنتاجه ، واصطناعها وسائله ، واشتهار فحوله بينها ؛ فإن الأدب إذا كان حيًّا صادق التعبير عن النفس الإنسانية , عميق النظرة فى مشاهد الكون ، تخطى حدود أمته واجتاز حوائل اللغة والتقاليد والجنسية والبيئة ؛ تخطى ذلك إلى ساحة الإنسانية التي تمحى عندها فوارق الزمان والمكان , ويلتقي لديها أبناء الأمم المختلفة والأزمان المتباعدة ،وتمجد العبقرية الفنية حيثما نبتت فحيوية الأدب وصدقه شرط أساسي لذيوعه وتأثر الآداب الأخرى به . وقد تجتمع إلى قوة الأدب الفنية الخالصة قوة أصحابه الحربية وسلطانهم السياسي ، فيكون ذلك عاملًا كبيرًا مؤديا إلى انتشار الأدب ؛ على أنه عامل إضافي لا يضير انعدامه .
فالأدب واللغة هنا على طرفي النقيض : فلغة الأمة لا تذيع فى الأمم الأخرى إلا تبعًا لا رتفاع سلطانها السياسي ، مهما كان رقي اللغة ذاتها وصلاحيتها وتفوقها على اللغات الأخرى ، أو تخلفها عنها ؛ فلغات الرومان والعرب ، ثم الفرنسيين والإنجليز ، لم تذع وتتخذ صبغة عالمية إلا مصاحبة لامتداد نفوذ تلك الأمم ؛ أما الأدب فلا يذيع إلا لرقيه وصلاحيته وتفوقه فى بعض النواحي ، سواء أساعده النفوذ السياسي أم أعوزه ؛ ذلك لأن اللغة وسيلة ضرورية من وسائل التعامل ، فلا بد من الإلمام بلغة الأمة ذات الشأن العظيم فى الحياة الدولية والاقتصادية ؛ أما الأدب فهو متعة وجدانية كمالية ، تقبل النفس منه ما وافق طبعها وترفض ما لا تستسيغه ، ولو كان يمت إلى أوسع سلطانا وأضخمها جيشًا والأدب الإغريق نسيج وحده فى هذا الباب ، وهو مصداق
كل ما تقدم ذكره , ولم يؤثر أدب تأثيره فى آداب الأمم , ولا نال مثل ما نال من احتفالها : فهو أدب حي راق صادق , ذاع في عهد سطوة أصحابه وفي عهد اضمحلالهم , بل أثر فى غالبيتهم في ميدان الحرب والسياسة - الرومان - أبعد تأثير ؛ ثم عاد فبعث من مكمنه فأثر فى نشأة الآداب الأوربية الحديثة , بل على يديه درجت , وفي حجره شبت ؛ وما زالت دراسته أحد فروع الثقافة العالية فى الجامعات الأوربية ؛ ومن أجل دراسته والاستفادة من كنوزه تدرس اللغة الإغريقية على بعد ما بينها وبين اللغات الحديثة . أما اللغة ذاتها فتقلص ظلها منذ تقلص ظل السيادة اليونانية التي أظلت حوض البحر الأبيض الشرقي على عهد أثينا والإسكندر والبطالسة , ودرست اللغة وبطل التخاطب بها حتى فى بلاد اليونان ذاتها
وتتراوح درجة تأثير أدب أمة فى آداب غيرها تبعًا لحالة المؤثر والمتأثر : فيكون الأثر شاملًا غامرًا إذا كانت الهوة بينهما بعيدة , بأن كان الأول عظيم الرقي والآخر بدائيًّا ساذجًا ، كما كان تأثير الأدب اليوناني فى الأدب الروماني والآداب الأوربية الحديثة , وكما كانت منزلة الأدب الفرنسي من الأدب الألماني في أوائل القرن الثامن عشر؛ وقد يكون أثر أدب فى غيره قاصرًا على ناحية يتفوق فيها أو يمتاز بها , كما كان تأثير قصة المغامرات الإسبانية فى الأدب الإنجليزي , أو تأثير القصة الروسية فى الآداب الأوربية العصرية ؛ وقد تحتفي أمة بدراسة أدب أمة أخرى إعجابًا به وتقديرًا له ، دون أن يتأثر به أدبها تأثرًا كبيرًا ؛ وأغلب ما يكون ذلك إذا تماثل الأدبان فى الرقي , كما هي الحال بين كثير من الآداب الأوربية الحديثة التي قطعت مراحل متماثلة , ووصلت إلى درجات من الرقي متقاربة ، وقد يتناكر أدبان ويتنابذان فلا يتأثر أحدهما بالآخر , لشدة ما بينهما من تفاوت , أو لاعتداد كل منهما بنفسه , كما كان من ازورار الأدب العربي عن الأدب اليوناني ؛ وقد يُدرس الأدب فى المعاهد وعلى أيدي العلماء والأدباء لمجرد البحث العلمي والتاريخ , دون أن يكون له كبير أثر فى آداب الأمم , أو يكون لجمهور المتأدبين بصرٌ به , كما يدرس الأدب العربي فى بعض الجامعات الأوربية اليوم وكلا الأدبين العربي والإنجليزي أثر فى آداب الأمم الأجنبية ،
وبلغ من الرقي والخطر ما جعله جديرًا باحتفائها , واشتهر فحوله وأعلامه بينها , وساهم بنصيب فى الأدب الإنساني العالي . على أن الأدب العربي أعطى أكثر مما أخذ ، وأثر فى آداب الأمم الأجنبية أكثر مما تأثر بها بينما الأدب الإنجليزي قد أخذ أكثر مما أعطى إلى اليوم ، وغنم من كنوز الأمم الأخرى أكثر جدًّا مما أودع تلك الكنوز ؛ وهذه فى الحقيقة ظاهرة مطردة فى تاريخي الأمتين لا فى أدبيهما فقط . كانت الأمة العربية منذ ظهورها أمة إعطاء ، أعطت العالم دينًا وقوانين ولغة وأدبا ، ولم تأخذ إلا ما يتضاءل أمام ذلك كله من حضارة الفرس المادية , ونظريات اليونان الفلسفية . وكانت الأمة الإنجليزية أمة أخذ ، أخذت عن غيرها دينها وألفت من لغاتهم لغتها ، واشتقت من آدابهم أساليب أدبها وأشكاله ، وأغنت جزيرتها بخبرات الأقطار ، ولم تهد إلى العالم من مبتكراتها إلا نظامها النيابي . وعلى حين انزوت جزيرة العرب قابعة فى عزلتها بعد أداء رسالتها ، أثرَت إنجلترا بما قطفت من أطياب العالم المادية والأدبية التي اجتنتها على مدى العصور اجتناءَ مميز بصير خبير بما ينفع ، نابذ لما يذهب جُفاء
أثر الأدب العربي فى آداب كثير من الأمم الشرقية كالهنود والفرس والترك واليهود ؟ وما يزال ذلك التأثير ماثلًا فى الألفاظ والأساليب التي اقتبستها منه تلك الآداب ؛ وقد أدى إلى اتصال تلك الآداب بالأدب العربي اتصال العرب بتلك الأمم بالحرب والتجارة ، وبسط العرب سيادتهم عليهم حينًا ، ونشرهم دينهم بينهم , فكانت سيادة العرب سبب انتشار اللغة العربية التي ظلت تدرس فى تلك الأقطار عصورًا طوالًا , ولم تزل تدرس فى بعضها ؛ وكان انتشار الدين الإسلامي عاملًا آخر أطول بقاء ؛ فلما انتقلت السيادة إلى الفرس فالترك ضعفت مكانة اللغة العربية , بينما ظل التفوق والتأثير للأدب العربي حينًا طويلًا لرقيه وتأخر الآداب الأخرى
ولم يَسمُ من تلك الآداب الشرقية إلى مضاهاة الأدب العربي إلا أدب الفرس . وقد كان بين هذين الأدبين وفحولها تمازج واتصال وتعارُض وتبادل عديم النظير بين أدبين آخرين : بدأ ذلك بانتصار العرب الحربي والديني , وكان أدبهم على جانب عظيم
من التقدم ، بينما أدب الفرس بدائي لم يتعد بعدُ طور الطفولة ، ولم يستقل تمامًا عن الدين , لأنه - كأدب قدماء المصريين ترعرع تحت ملكية شديدة الجبروت والأنانية , وكهنوتية شديدة الغيرة والأثرة , فلم يكن يعدو الأقاصيص الساذجة والمواعظ ونوادر الملوك والآلهة ؛ أما الأدب العربي فكان قد ترعرع فى حرية البادية
فلما اتصل الفرس بالأدب العربي وأعجبوا به ، لم ينقلوا ما راعهم منه إلى أدبهم بل انتقلوا هم إليه , فنثروا ونظموا فى لغة الدولة والدين والقرآن , وكان منهم جملة من فحول الأدب العربي , على حين كان أدبهم هم خاليًا من الفحول على الإطلاق ؛ ثم نشأت طبقة منهم كانت تؤلف باللغتين وتساهم فى الأدبين , وبذلك الأدب الفارسي فى الظهور وكان الشعر أسبق من النثر ؛ فلما استقلت فارس واستعادت سيادتها القومية فى ظل السامانيين والبويهيين ومن بعدهم , نبغ فيهم رهط كبير من الشعراء والكتاب عكفوا على إحياء أدبهم وإثرائه , متأثرين خطى الأدب العربي فى المواضيع والأشكال الأدبية والأوزان الشعرية والألفاظ , وأخذوا عن العربية ما كان قد داخلها إذ ذاك من محسنات وصنعة ؛ وبينما دخل الأدب العربي فى طور ركوده افتتح الأدب الفارسي عصر رقي رائع طويل , ضارع فيه الأدب العربي وفاقه في كثير من الأبواب , كشعر الملاحم ووصف محاسن الطبيعة , ونال بعضَ فحوله كالفردوسي والخيام من الشهرة العالمية ما قصر عنه فحولة العربية
وكان للأدب العربي أثر كبير فى آداب الأمم الغربية ؛ ولكن بينما تأثرت الآداب الشرقية بالأدب العربي الفصيح ، كان الأدب العربي العامي هو الذي أثر فى الآداب الغربية : فالأقاصيص الشعبية وضروب الأزجال التي فشت فى الأندلس كانت نواة الأدب الإسباني الحديث الذي تمثل فى عهد النهضة الأوربية فى قصص سرفانتيس , والذي أثر فى الأدبين الفرنسي والإنجليزي أثرًا مذكورًا فيما بعد ؛ وتلك الأقاصيص والأزجال انتقلت من إسبانيا إلى جنوب فرنسا ، حيث نشأ شعراء التروبادور الذين وضعو اللبنة الأولى فى أساس الشعر الفرنسي لحديث . أضف إلى ذلك ما نقل من تلك الأشياء إلى الأدب
الإيطالي وأثر فى كتابات بوكاشيو وبترارك ودانتي , وما تسرب إلى الأمم الأوربية فى عهد الحروب الصليبية . هذا إلى قصص ألف ليلة وليلة التي انتقلت إلى أوربا من عهد بعيد وترجمت إلى لغاتها ، وكانت موضع إعجاب الأدباء واقتباسهم
وللأدب العربي أثر ثالث عظيم الخطر عديم النظير , لم يتأت حتى للأدب اليوناني أن يأتي بمثله : ذلك هو حلوله محل غيره في الشام والعراق ومصر وشمال أفريقية , حتى نسي أهل كل قطر من هاتيك ما كان له من أدب قبل ذلك , وأصبح تاريخ الأدب في كل إقليم منها يبدأ بعهد الجاهلية فى جزيرة العرب . والواقع أن الأدب العربي لم يَسُدْ تلك البقاع لمجرد قوته وحيويته , وإنما تمكن من الإتيان بتلك المعجزة بفضل ما صاحَبه من ظروف وعوامل , كقوة اللغة العربية ذاتها وكونها لغة الدين الجديد والدولة , ثم السياسة الحكيمة التي سلكها العرب فى حكم الأقطار : فقد تركوا لها حرية العبادة والمعيشة , وأشعروها مع ذلك بالنقص وانحطاط منزلتها عن منزلة الفاتحين أصحاب الدين والدولة ؛ فتسامحهم الديني لم يستفز تلك الأمم إلى مقاومة الدين الجديد ومعاندته , كما قد كان يستفزها القهر والإرغام على اتباعه ؛ وشعورها الباطن بالنقص والانحطاط دفعها إلى التشبه بالقائمين بالأمر عليها والانغمار فى جملتهم ؛ ومن ثم انتشر الدين واللغة وحلا محل غيرهما , وانتشر بانتشارهما الأدب العربي
فالأحوال كانت مهيأة فى الشرق مساعدة لانتشار الأدب العربي : لتفوقه وتفوق لغته على ما كان هناك من آداب ولغات , وانتشار دين قومه وسيادتهم , ومشابهة الأمم الشرقية للعرب في الطباع إلى مدى , وامتزاجها مهم فى أطراف الإمبراطورية العربية . أما فى الغرب فلم يكن الأدب العربي الفصيح ليُلاقي مثل هذا النجاح , بل هو لم يلاق نجاحا ما , ولم يصب إعجابًا قط ؛ وقد هرع إليه متأدبو الإفرنج غير مرة يريدون الانتهال من مورده , وارتدوا خائبين قانطين ؛ وبينما وجدوا فى الأدب الفارسي ما يترجمونه ويضنون به ضنهم بآثار آدابهم , لم يجدوا في مدائح المتنبي لسيف الدولة وأهاجيه لكافور , وتفنن بديع الزمان فى صوغ الأسجاع والنكات على لسان أبي الفتح , ما يستحق عناء الدرس والترجمة , أو يحث على الإعجاب والضنِّ .
إنما تنقل الأمم من آداب غيرها ما يمت إلى الإنسانية فى شتى بقاعها وعصورها بأوثق الأسباب ؛ أما المدح والذم والزخارف اللفظية التي إذا ترجمت تبخرت فلا تنفق فى غير لغتها وعصرها
ولقد كانت الآداب الغربية قبل عهد النهضة ناشئة تتلفت باحثة عن الأستاذ المرشد , فلم تره فى الأدب العربى الفصيح , لأنه لم يكن أدب شعب ومجتمع وحياة متجددة , بل اختار لنفسه أن يكون أدب بلاط , ونديم عِلْية , ورهين تقاليد لا تتغير , واستبعد من حظيرته منادح كثيرة من منادح القول , ومواضيع شتى من صميم الحياة والفن ؛ وإنما استفادت تلك الآداب بما وجدته فى الأدب العربي العامي من آثار الخيال الرائع , والتصوير الصادق , والتعبير المتعدد الأشكال عن الحياة الإنسانية المندفعة المتجددة , فضلًا عما ينسم منه من روائح الشرق وبذخه وكنوزه وغرائبه , تلك التي ما زالت من قديم تستهوي نفوس الغربيين وتثير أخيلتهم , فأوسع الأوربيون ذلك الأدب العامي دراسة وترجمة ومحاكاة , ثم لم يلبثوا أن اهتدوا إلى ضالتهم المنشودة في الأدب اليوناني , فعلُّوا من معينه ونهلوا
وقد قيل إن كوميدية دانتي الإلهية متأثرة برسالة الغفران ، وقصة ربنسون كروزو أوحت بها قصة حي بن يقظان , وذلك بعيد : فلو أن الآداب الأوربية كانت تتأثر بالأدب العربي الفصيح لما اقتصر تأثرها على هذين المثالين الشاردين - على كون قصة حي بن يقظان أثرًا فلسفيًّا لا أدبيًّا - وليس بين الكوميدية الإلهية وبين رسالة الغفران شبه سوى أن الجنة والنار مشاهدُ وقائعهما , ولا بين روبنسون كروزو وحي بن يقظان تماثُلٌ إلا انعزالهما فى جزيرة , وتوفيرهما حاجاتهما بأنفسهما وكلتا الفكرتين بديهيتان يلوح أنهما تطرآن على الفكر الإنساني في شتى العصور والأصقاع . وهل شيء أكثر بداهة وأقرب إلى الطبيعة من أن دانتي المتعصب الديني فى عصر التعصب الديني وفي وطن البابوية يلتفت إلى العالم الآخر ويُجري فيه حوادث مهزلته ؟ أو أن ديفو المغامر الأفاق فى عصر المغامرات البحرية , وفي إنجلترا البلد البحري يتخذ بطلًا لقصته مخاطرًا بحارًا ؟
أما الأدب الإنجليزي فكان - كما تقدم - أقل من الأدب العربي تأثيرا فى الآداب الأجنبية , وأكثر منه تأثرًا بها : تأثر
من عهد النهضة بالأدب اليوناني والروماني والفرنسي والإيطالي والإسباني ثم الألماني , وأخذ خير ما فى تلك الآداب من الأشكال الأدبية والمواضيع والأساليب , وصاغها على النحو الملائم لطبائع اهله وعبقرياتهم الخاصة , ومثَّل كل ما أخذ ونقَّاه ، حتى جاء الأدب الإنجليزي مضاهيًا لأحسن ما فى تلك الآداب إن لم يفقها جميعًا عمق فكرة وشمول نظرة وحرارة شعور وصدق عاطفة وبساطة بيان , ونبغ فيه من الأعلام أمثال شكسبير وملتون وبيرون وسكوت مَن كان لهم مكان رفيع في القارة , وعني بدراستهم , والإشادة بفضلهم أقطاب الآداب الأوربية , أمثال هوجو وتين وسنت بيف , وحوكيت قصائد يبرون وقصص سكوت , ومُثلت روايات شكسبير فى مسارح العواصم الأوربية , وساهمت إنجلترا بنصيبها فى النهضة الرومانسية التي كانت حركة أدبية دولية ساهمت فيها سائر الآداب الأوربية والأمريكية
على أن كل ذلك لا يكاد يتخطى حدود التقدير والإعجاب بذلك الأدب , ولم يتعد ذلك إلى إحداث ثورة شاملة أو تطور خطير فى تلك الآداب , ولم يؤثر الأدب الإنجليزي فيها بعض ما أثرت هى فيه , فهو قد جاء متأخرًا عنها قليلًا ولحق بها فتشابه الجميع اليوم رقيا , فهي فى غنى عن الأخذ عنه , وهو لا يفاجئها بعناصر ليست فيها , وهو وهي سواء فى الأخذ من الأدب اليوناني والبناء على أساسه واعتناق مبادئه التي دان بها في تصوير الحياة وتحليل النفوس وعبادة الجمال
فالآداب الأوروبية اليوم , بما فيها الأدب الإنجليزي , فرسا حلبة واحدة , متشابهة فى النشأة والتاريخ والمنهج . وهي وإن كانت على اتصال وامتزاج دائبين , أن ينتظر أن يكون تأثير واحد منها فى غيره تأثيًرا بعيد المدى شاملًا غامرًا , كما كان تأثير الأدب اليوناني فى الأدب الروماني , أو تأثير الأدب العربي فى الأدب الفارسي , فمثل هذا التأثير الشامل لا يكون إلا بين أدبين قد انفرجت بينهما مسافة الخلف , وضرب حجاب العزلة بينهما دهرًا , كما هو الشأن اليوم بين الآداب الغربية فى مجموعها - ومن بينها الإدب الإنجليزي - والآداب الشرقية فى مجموعها - ومن بينها الأدب العربي - فقد كان
التدابر والتناكر سائدين بينهما عصورًا طويلة , والأولى فى رقي مطرد , والثانية فى تدهور مستمر ؛ فلما تلاقتا ورفع من بينهما حجاب العزلة أثرت الأولى فى الثانية ؛ وما تزال تؤثر تأثيرًا هو أدنى إلى الثورة المطلقة أو الخلق من جديد
فالأدب الإنجليزي قد بلغ من الرقي وصدق الرسالة واتساع الجوانب ما يبذله الأدب العربي , ونال من المكانة بين آداب الأمم أسماها , وحاز من أدباء تلك الأمم أعظم التقدير والحفاوة , وهي مكانة ستظل له دائما كما ظلت مكانة الأدب اليوناني بعد زوال دولته , وهو خليق أن يؤثر فى آداب الأمم التالية أثرًا بعيدًا ؛ أما إذا ووزن بين تأثيره فى الآداب الأخرى إلى اليوم وبين تأثير الأدب العربي فى الآداب المعاصرة له , فإن الأدب العربي يرجُحهُ كثيرًا . بيد أن الأدب العربي قد أدى رسالته فى ذلك الصدد ولم يعد صالحًا لأن يؤثر فى آداب الأمم الأخرى حتى يتجدد ويتأثر هو ذاته بغيره من الآداب , ويفتتح فى تاريخه فصلًا جديدًا غير الفصل السالف

